يصدر القاص مجموعته بمقطع للشاعر الكبير محمد الماغوط:
كنت أود أن أكتب شيئا
عن الاستعمار والتسكع
عن بلادي التي تسير كالريح نحو
الوراء
ومن عيونها الزرق
تتساقط الذكريات والثياب المهلهلة
وهذا المقطع يعد في ظني جزءًا من بنية النص السردي، حيث يعبر عن فضاء نصي يقارب الفضاء القصصي المطروح داخل النص، والمتماهي مع فكرة إطراح المقولات الكبري جانبًا، وهو الإطراح المخاتل في ظني، حيث إنها تملك حضورها الفاعل عبر عناصر ذاتية وهامشية داخل النص.
في قصته الأولي داخل المجموعة (شراسة لاتسيء للبعض) يمارس الكاتب ما يسمي باللعب مع الأسطورة، حيث يطرح (أسطورة التكوين) لا عبر رؤية سابقة التجهيز، ولكن من خلال ممارسة رؤيوية وتقنية دالة، يدين من خلالها السلطة الأبوية والممثلة في (بوكا) القاهر لشعبه، والملقب بالعارف الأول، ورأس الحكمة، وهذا الاستئثار المعرفي والسلطوي يجعله يمارس نسقًا استبداديًا يحول دون إفلات الشخوص من أسر المواضعات السائدة، ولذا فإن محاولة (المروق) الوحيدة التي تمارس في القصة الأخيرة من المجموعة (تبدو خطئية) تقابل بصلب صاحبها عبر شجرة جافة، وكأن بناءً دائريًا – علي مستوي التقنية- يهيمن علي المجموعة؟ وفي الآن نفسه فإن هناك علي مستوي الرؤية حالة من الدوران حول حلقة مفرغة تفضي دومًا إلي إنكسار المغامرة الإنسانية في محاولتها لمجاوزة الأطر السائدة.
وفي قصته (لكني قلت مباشرة) تصبح الجملة الاعتراضية هي القصة ذاتها، وبذا فان الهامش (الجملة الاعتراضية) يتحول إلى متن القصة الرئيسي، والدال علي تلك البنية الحكائية التي يتكيء عليها النص القصصي، وما بين جدل الهامش والمتن يطرح القاص رؤيته الإبداعية المشكلة لخطاب قصصي يتسم بقدر كبير من الرغبة في البوح، ومطارحة الأفكار داخل النص، حتي لو اتسمت القصة بوجود صوت واحد فحسب (هو صوت الراوي)، بيد انه يأخذ في تقليب الأفكار علي نحو بالغ الدهشة.
وفي قصته (محاولة- في الغالب- فاشلة) يطرح الكاتب خمس حالات إنسانية معبرة عن هذا الانكسار وذلك التمزق الذي يصيب السارد/ البطل، وعلي الرغم من تعدد المحاولات الفاشلة للسارد/ البطل، بيد أن القاص يجعلها محاولة واحدة كما يبرز عنوان القصة، وذلك لكونها تعبر عن نسق إنساني واحد/ مأزوم في الغالب.
وفي (كادر يتسع قليلًا) يصبح الانتقال السردي الذي يحدث في نهاية النص، كاشفًا عن القاتل الحقيقي والمسئول عن تغييب وعي المجموع، فالوفود النازلة من الطائرات هم القتلة الحقيقيون، والكادر يتسع هنا بالفعل لا ليشمل مجرد حكاية بسيطة عن فيلم بوليسي يطرح واقعًا افتراضيًا، يتم فيه البحث عن القاتل، بل يصبح هذا الكادر معبرًا عن واقع معيش يتم فيه تدجين المجموع، وتبدأ أصابع الاتهام في التحول إلي إدانة المؤسسة، مما يمنح النص بعدًا أكثر عمقًا.
وفي (إنحناءة السيد الجديد)، يتبادل الممثلان الوحيدان علي خشبة المسرح دورا السيد والخادم، في إشارة دالة إلى فكرة الترابتية المهترئة، وعلي الرغم من الرغبة العارمة التي يبديها كلاهما في البداية، بيد أنهما لا يستطيعان التواؤم مع هذه الوضعية الجديدة المربكة للطرفين وبذا تبوء محاولة الخروج علي السائد بالفشل مرة جديد، ويتماس عبدالمريد هنا مع ثنائية إدريس الشهيرة (السيد والفرفور) في مسرحيته المهمة (الفرافير)، مع اختلاف السياقات والمسارات بالطبع: وفي قصة (طفح جلدي) يحدث انتقال سردي بالغ العمق، فمن الحكي عن شيخ الحارة الذي يكنز الأموال، وعن ابنه الذي اشتري كل ما طالت يداه “من توفير مصروفه”، إلى إقدام السارد علي الحكي عن نفسه بجسارة، وكأن القيد الذي كان يلجم لسانه قد زال، حيث لم يعد مسوغ للمداراة، بعد أن رأى هذا الاجتراء العفن الذي يمتاز به شيخ الحارة وابنه: وقد تبع هذا الانتقال السردي الدال انتقالا علي مستوي التقنية القصصية، بدءًا من حدوث تداخلات في زمن القص تتراوح بين الماضي والآني، ووصولا للغة القصصية التي صارت أكثر حميمية وبوحًا في نهاية القصة: “الآن من الممكن أن أعود لأحكي عن طفولتي.. حينما كنت أسير خلف بنات المدارس لأفعل بهن أشياء وقحة.. أحكي عن عجرف كلبي الصغير الذي اغتصب طبق لحم كامل من عند جارتنا السمجة- بخلاف صاحبة النهد- فأعطي لأمي الحق في نفيه و حشو فمي بالشطة. و قد أعود أيضًا إلى الحديث عن نهد جارتنا، عيون حبيبتي، أبي، صحبة ليل القاهرة”.
لقد بلغ القاص في مجموعته حدًا من التجريد، صنعه بمهارة، لذا فلم يكن معنيًا مثلًا برسم شخوصه رسمًا دقيقًا، يتم فيه التركيز علي قوي الشخصية الثلاث (البيولوجية والسيكولوجية والسسيولوجية)، حيث انهم (الشخوص) يستخدمون لترميزات أكثر مغزي وعمقًا.
وعن لغة المجموعة القصصية، فهي تبدو- في ظني- شديدة الإيجاز والتكثيف، حاملة قدرًا من الاكتناز، وقد أسهم هذا التكثيف اللغوي في صنع حدث قصصي لايحمل أي ترهل في البناء الفني، وهو ما يمنح هذه المجموعة القصصية – صغيرة الحجم، عميقة المغزى- خصوصية مائزة.
……………….
جريدة أخبار الأدب بتاريخ 15 يناير 2006