كان هناك سنترال وحيد وكئيب، بعيد، يقع على تلّة على أطراف المدينة الصغيرة التي تقول الأسطورة الدينية أن النبي محمد حارب فيها يهود خيبر، وفي “الحصن” الذي يجاور السنترال على بُعد أمتار وُئدت أحلام استيطانهم بالمنجنيق، كان “الحصن” بثقوبه المحفورة لغرض الاختباء والاصطياد هو المكان الأثري الوحيد في المدينة، كان الحصن أهرامات الكادحين، نُزهة العطلات الصيفية مع أطفال ونساء الجيران. تليفونات السنترال تعمل بالعُملة، وكانت تقتضي طقوس التأقلم التي مارسها بابا على وجه التحديد بجديّة ودأب يُحسبان له، أن نعقد سباق مع عدّاد العُملة والزمن، نُمرّر عبارات التحيّة والاشتياق والسؤال عن الأحوال وتلخيص أخبارنا ومستجداتنا في الغُربة، كل هذا دَفقة واحدة، في جملةٍ واحدةٍ طويلة وغير مفهومةٍ غالبا؛ دقيقة أو دقيقتين، ونحتاج إلى دَفع عُملة جديدة، على قدر عُمْلاتنا هذا اليوم من الشهر؛ تَطول أو تَقصر مكالمات الأهل والأحباب. لم أر هذا السنترال في حياتي في النهار أبدا، كنا نضّطر إلى الذهاب مرّة أو مرتين في الشهر إلى السنترال في الليل بعد انتهاء دوام والديّ في المدرسة، وعادة يكون اليوم الذي يصطحبونني وأخوتي معهما فيه هو نهاية الأسبوع، حيث لا نضّطر للاستيقاظ مبكرا للحاق يومنا الدراسيّ، وكانت خلف السنترال غابة لم أرها أيضا إلا في الليل. أساطير الغُربة يمكنني أن أحكيها يوما: الغابة أو هكذا كنت أظّنها، الليل، والنبات الشوكيّ الذي كان يَكسو مدخل الغابة ويَمتليء بها، ثم تلك الأشجار الصغيرة التي ما إن نضغط على أغصانها وأوراقها تنزّ منها مادّة لونها لون الحليب. قيل لنا مرّة ولم أنس بعدها أن اسمها نبتة الشيطان!
شجرة الشيطان
إيمان علي
من مذكّرات لم تُكتب بعد
كانت البلدة الصغيرة التي شهدت مولدي في بلد الغُربة، هادئة وجافة، ودائرية؛ على الأقل بالنسبة لي. كان بيتنا عادةً هو النقطة التي أبدأ منها في تمييز حدود المدينة وأنتهي إليها. ولأنّنا كنّا ننتقل من بيت لآخر على فترات قد تقصر أو تمتد، كنّا نتذوّق الغُربة بأكثر من طعم مع كل انتقال، عَوْزٌ مضاعفٌ للاستقرار، لهذا كانت تتغيّر حدود المدينة طبقًا لمكان منزلنا الجديد. كانت البيوت هناك أشبه بفلل متواضعة التصميم والمستوى بطابق واحد عادةً، شقّةٌ واحدة، في الأغلب مساحتها معقولة إن لم تكن واسعة، البراح كان الوجود المخفّف للفراغ، أقل وطأة من التيه وأكثر من مجرد إهدار. لا شيء دائم، كل ما لم ألبث أألفه يتركني وأتركه، كان يؤلمني الإحساس بأني افتقد في شقّتنا الأشياء المعتادة في بيوت الناس عادة، أنا حتى دخولي الجامعة لم يكن عندي دولاب ملابس! حياة في كراتين، لا أثاثٌ أثير من ذلك الذي تقتنيه العائلات في غرف الاستقبال، حالة ارتحال دائم، لم يكن يفرق في هذا أنني وأخوتي وُلدنا في بلدٍ غير بلد منشأ والدينا، إحساسنا بالاغتراب أمرٌ مبالغ فيه حتمًا، لكن الذي أعرفه أنّنا مثلما عوّدتنا طقوس أبي وأمي في التعاطي مع حياتنا كأسرة كادحة متوسطة مغتربة تطوق للترقّي وتبذل في هذا المال والعلم، كنّا نشرب كدح أطفالٍ صغار كل صباح مع لبن "نيدو".