حسن غريب
مع أن شقيقتي لها ثلاثة أبناء، إلا أن ابنتها الصغرى «أسماء» وحدها استعمرت قلبي واستأثرت بكل محبتي، لأسباب لا أزعم حتى لنفسي صحة تأويلها أو القطع بها. وأعرف تماماً أن علاقتي بالأطفال سيئة للغاية، فلا أطيق رائحتهم فى الرضاعة، وأشمئز من صراخهم وعويلهم الذى لا ينقطع، وأدرك أنني لا أحتمل بقاء طفل بين يدي أو على كتفي دقائق؛ حتى من باب المجاملة لوالديه أو لإظهار شعور زائف بإعزازي لهم ولأطفالهم…
“أسماء” وحدها كسرت كل الحواجز وعبرت كل الجسور… وشقيقتي تجزم أني أحبها لأنها تشبهني تماماً… وصديقي يؤكد أن أواصر الشبه بينها وبين من كانت حبيبتي… وأنا أسرح وأفكر واستبطن ذاتي لأدفع عن نفسي اتهاماتهم، ولكن بلا جدوى… أضمها لصدري وأضحك، فتتعلق بعنقي وتشتمهم وتضحك، لأنها جاءت لعالمي فى الوقت المناسب جداً قبيل الخروج من أزمتي الحادة التى امتدت سنوات، وكدت أفقد ذاكرتي للأبد… ربما كانت رسول الحياة، وبشير الأمل والثقة فى النفس والأدب… “ربما”
ولأن «أسماء» كانت ومازالت معلمتي وصديقتي، يحلو لي أن أبدأ موضوعاً هكذا: «… كان سعد حين يجوع أو يعطش يمأمئ بشدة مزعجة، فتسرع إليه الصغيرة «أسماء» بنت الربيعين، بكل براءة، تسرع إليه ظناً منها أنه يناديها… بلا خوف تمسك رقبته، ثم تعتليه، وحين يجري بها تصرخ وتناديني لكي اخطفها من فوقه، ثم تعيد الكرة، وهكذا بلا آخر. حتى استيقظت يوم العيد فلم تسمع له صوتاً، وأخذت تفتش عنه كل الحجرات، وتصرخ فى وجهي: أين «سعد»؟ أين خروفي يا خال؟
عقدان من الزمان مرا، وقد تناسيت قصتي أنا أيضاً مع «سعد»، فلم أستطع الرد أو الجواب، ولم أجرؤ على قتل حبيبتي «أسماء» كما قتلتني.
أتذكر الآن جيداً، ثلاثة أعوام ظلت معدتي ترفض وبشدة أي زائر من فصيلة اللحوم. من السابعة للعاشرة من عمري لم يطرق جوفي حتى السمك… «أسماء» مازالت تصرخ في وجهي، وأنا عاجز حيالها، ومازلت أبكي… الشريط كله يمر أمامي و صدى صوته يخرم أذني.
كان «سعد» صديقي ورفيقي يمأمئ بشدة، فأسرع إليه بأعواد البرسيم الأخضر وحفن الذرة الجافة، ثم نستأنف اللعب والجري فى حوش بيتنا القديم الذي مازال يسكنني، ومازلت أسكنه، فمنذ فارقناه لآخر، وقلبي لا يتسع أبداً لسواه.
– “أسماء” مازالت تصرخ، وأنا جامد حيالها.
وها جدتي فى ضحى يوم العيد تسرع إلى رفيقي وتقبض عليه… تكتفه بكلتا يديها، وتجره بعنف من الحوش لصالة جانبيه معتمة، ثم تسلمه لأبي، بدوره يسلمه لعمي، يكبر بصوت مسموع: «حكم عليك ربك وقدر» ، ثم يرفع يده لعلي، وأبي يقلب له عنق «سعد» ليهوي عليها بسكين بشعة، يذبحه بلا رحمة، وروحه تتطاير أمامي، وخرير دمه يصرخ بشدة، وعيناه تجحظان، وأنفاسه تسكن رويداً رويداً… تسكن وهم يتضاحكون وينسجون من حوله، ويتبادلون التهنئة بالعيد المبارك.
ذبحوه أمام عيني، وسلخوه وبقروا بطنه وأخرجوا أحشاءه، وكان البرسيم فى معدته يبكي… فتشوا عني في كل البيوت، عند الجيران والأقارب، حتى حملوني فوق كتف أخي الأكبر من بيت عمتي لبيتنا كي أشاركهم فى أكل «سعد»، وأنا أتقيأ وأجري… ثلاثة أعوام كلما اشتممت رائحة اللحوم، أتقيأ وأسرع… وفي الذكرى الثالثة لرحيل «سعد»، وفي العيد الرابع؛ أمسكوا بي عنوة، و حملوني من بيت عمتي لبيتنا، وأسلموني لجدتي… أمسكت بيدي، وغمستها فى دماء «سعد» الممتزجة بتراب حوش بيتنا القديم، ثم ألبستني فروة، وظلت تطوف بي حجرات البيت واحدة تلو الأخرى، وأبي خلفها يحمل إناء من الفخار، تنبعث منه سحب البخور العتيق… ما يقرب من الساعة يطوفان بي أرجاء البيت، ويعيدان الكَرة، والشيخ كثيف اللحية فوق أريكة جدي الخشبية يتلو أوراداً وأدعية، ويمسك تارة رأسي، ويهمس تارة فى أذني بكلام لم أفهم حتى الآن معناه… ثم أمرهم بأن يتركوني أنام، وبعد أن أصحو سأطلب بإذن الله بنفسي.
وبالفعل، في صباح اليوم التالي استيقظت من النوم وأخذت أفتش عن جدتي في كل حجرات منزلنا القديم، وأطلب منها بإلحاح نصيبي من لحم «سعد»، وأضحك، وبدأ الكل يضحك، وجدتي تمد يدها فى القدر، وتدعو لمولانا، وتحملق فى وجهي و تضحك… ومازلت أهضم وأضحك، وما زالت الصغيرة «أسماء» تسألني وتصرخ، وأنا لا أستطيع الجواب، ولا أجرؤ على قتل حبيبتي “أسماء”.
……
* كاتب وشاعر وناقد مصري