النقائص في ازدياد، وقدرتي على الاحتمال باتت مرثيّة كقُدرتي على الغُفران والتظاهر بأنّ ما من شيء يستحّق..
مُصادفات،
أو عفوية مُجرّدة إلّا من دواخلي المُنهكة والمُترفِّعة عن الصفح بعد فُقدان قيمته..
صِرت أرفض أن أُخذَل مرّة أخرى مِن ذاتي، أرفُض التعّدي على المِساحات الآمنة، وأرفُض الابتزاز المُتواري خلف العاطِفة الحيّة المُتوهّجة بالنور/النار.
العُنف: صار منهجي.
أُعنّف ذاتي كي تستطِع الصمود أمام العواصِف القادمة؛ عواصِف الصيف التي تنتقم لمجيئها في غَير مَواسِمها فتأتي بالجنون غير المُمنطَق تارة، وبالصمت المُطبق الذي ما إن كشف غطاؤه ظهر الوحش المُختبيء تارةً أخرى..
أُعنّفهم: مَن يجرؤون على الاقتراب، أو يجتّروا حواسي مُستخدمين خُدعة فضول الاكتشاف، أو حتى فضول الانغماس في التجارب واصلين إلى القاع .. حُجّة القدرة على الانسحاب في الوقت المُناسب تَقي شّر السقوط في غُمار الهاوية، حُجّة الكاتِب في اختبار الأشياء بنفسه حتى يستطيع كتابتها عن عِلم مُعتقداً بأن حواسه المُنفردة ستقيه شرّ عثرات الطريق.
كُلّها فِخاخ مُتوارية بطبقات هشّة من غُبار الأيام؛ أيامنا هذه.. الرماد يَكسوها مُتلوّناً بآشعة النور فوق سواده مُقنِعاً إيانا بسيطرة البياض، بأنّها ليست بهذا السوء أو ذاك..
يبدأ المُدمِن رحلته إلى الضياع بمُخدّر خفيف لا يؤثر على قواه العقلية تأثيراً تاماً؛ يتوهّم السيطرة..
في الواقع: يكون مُسيطراً بالفِعل.. يقود ذاتُه، يُحكِم قبضته على شهوة فُقدان الوعي في سبيل فترة أطول من الهذيان مُتوسّط التأثير، وبالقوّة التي تسمح له بألّا يفقد المُتعة، ولا يفقد واقعه.
ثُمّ تبدأ زلّات القدم..
بانسيابية مَجرى مائي طويل يهبِط تدريجياً إلى الأرض.
تتعثّر إحدى القدمين كخطوة أولى نَحو الهلاك. مَن سُحِب ببُطء لا يستطيع الوقوف بشجاعة في مواجهة نفسه، لا يستطيع التراجع عن إدمانُه لعدم وعيه بحقيقة إنزلاقه إلى طُرق لا عودة منها.
بعد فترة، وبعد بلوغ نقطة مُعينّة من الضياع تبدأ الصحوّة..
شبح التعافي: يَمُر كطيف بعيد يُشبه أحلام الطفولة، في طفولتي كان يراودني دائماً حلم الخروج إلى العالم، أن أرمي نفسي في غماره، وأن أمتلك زمام أموري غير مُكترثة لحجم الخطورة.
في أول عهدي بتحقيقه مرَرتُ بشريط القطار في مشهد عبثي تماماً، أحمل على يَدي أشياء غير مُهمّة بالمرّة مُنشغلة بِها عن صوت القطار الآتي مُسرعاً، لا أظنّه يتوقع حمقاء مِثلي في انتظاره لتُحمّل سائقه المِسكين سوء تعاطيها مع قوانين العالم..
كان الصَوت ضارياً، موحِشاً، وما سمعتُه!
لم أفِق سوى على تلويحات العابرين ممّن ظنوني مُختلّة.. كان الأوان قد فات، وما أن خطوتُ خطوة واحدة خارج الشريط حتى سَمعِت بوضوح سُباب احتكاك القِطار بالقُضبان المعدنية في نقمة واضحة علىّ –المجنونة غير المُكترثة لحجم ما يمكن أن تُسببهُ من ضرر ـ
الضرر في أن أفقد الحياة بهذه الطريقة البشعة، والضرر الذي ستسبّبهُ المأساة الواقِع تأثيرها على مجموعة أو مُجتمع لا ذنب له سوى أنّني مِنه.. أنا المُهملة في ذاتي، أخطو نحو هلاكي بكل ثبات وهدوء مُمكن غير عابئة للعواقِب التي ستطال الكُّل.
هكذا هي دورة التعافي.. تحتاج أولاً للإعتراف بوجود خطر، للتسليم بأنّ حُرية الفرد في إختيار هلاكُه تطال معها آخرين لا ذنب اقترفوه سِوى الوجود في غَير المِساحات الآمنة لمُدمِن لا يُدرك حجم إصابة روحه.
الخراب يطال كل شيء؛ في ارتعاشة صَوتي أعرف حجم الخسارة، أعرف أنّ الامتثال إلى ظلّ الإنكار لا يُفيد..
والركون إلى القوى الزائفة لا يُثمِر إلّا مَزيدًا من الخراب في صُلب الروح.
بحِسبة بسيطة يكون حاصل جمع ارتعاشَة صوتي، ارتعاشة فَمي حين يُحاول الإبتسام، وارتعاشة الظِلّ في عيني.. كل هذا لا يُساوي مُجتمعًا شُعاع الضَوء الذي يَغمُر روحي بالنور.
كُلّ هذا هو محض سراب لن يُفلِح في وَصل ثنايا القلب مرّة ثانية، لَن يُفلِح في بلوغ بدايات تلصيم ما تُدعى زوراً روحاً نورانية بيضاء.
الظُلمة غير قابلة للتعافي.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
بأثرٍ من مسلسل “تحت السيطرة” لـ مريم نعوم
.
نورهان القرم
كاتبة سكندرية شابة