شاعر من برج الجدي

waheed al taweela
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

وحيد الطويلة

في ميدان طلعت حرب، في الخطوة التي تسبق محل جروبي العتيق، أجد سمير درويش يعبر التقاطع على بعد خطوات قليلة مني، ربما لمحته في ندوات قليلة أيضًا أو قل رأيته، لم تكن هناك فرصة للحديث، بالكاد تتقابل الملامح وتنطبع، المهم بعد لحظة انتهينا فيها من بغتة أو صدفة اللقاء لوح أحدنا للآخر أو ابتسم أحدنا، أظن أن الابتسامة كانت من نصيب سمير، والتلويح من طرفي، أنا في العادة يسبقني قلبي ألوح وأطير سريعًا وسمير لا يبتسم أو يلوح إلا لمن يستحق، يصنع هو المسافة طالت أم قصرت حسب ميزانه الداخلي، لا يبدو وجه سمير في أي لحظة جامدًا، بلغة أدق يبدو جادًّا، لا أعرف إن كانت هي مسافة الأمان أو مسافة النجاة التي يحملها آحاد قادمين من قرى متشابهة للمدينة، المسافة التي لا تسحب أقدامنا لتنزلق في غير ما نحب.

قلت التلويحة من عندي والشعر مع سمير، يمشي كما يليق بشاعر، أظن حين أراه أن الشعر ولد مع سمير في ليلة واحدة.

وجه جاد قلت، ليس هذا هو التوصيف الأدق، بل هو وجه صبور، ملامح بئر عميقة لدرجة أنني تخيلته بعد أن مضى أن أهل قريته يحفظون عنده الكمبيالات أو الشيكات التي يوقعونها جزاءً لأمر ما، في مصالحة بعد عراك كبير، حين عرفت أنه عمل فترة في بيتهم في صناعة السجاد اليدوي أدركت من أين تأتي الملامح الجادة الصبورة، لذا لك أن تغمض عينيك وتطمئن لو وقع عمل لك بين هذا النوع من البشر، بالذات بين يدي سمير، لن تحتاج للمتابعة أبدًا وهو موجود، يفعل حرفيًّا كل شيء، أدركت ذلك بسرعة لا أعرف من أين أتى يقينها.

كلما رأيت كتابًا يخرج من تحت يده أو صنع غلافه وأنقذه من التحنيط في المطابع كنت أتذكر الجملة التي قرأتها وأنا طفل عن بوشكاش المهاجم الفذ الشهير: إنه “دولاب حيلْ”!

عند التقاطع نفسه، مرة بعد مرة، الطقس نفسه، والمودة تتسع.

تلويحة عابرة مني هذه المرة مع ابتسامة، نتقاطع في المكان نفسه كأننا في فيلم للجاسوسية أو نتبادل حقائب سريعة بها دولارات أو مخدرات، لحظات خاطفة تفرش طمأنينتها مرة بعد أخرى، إلى أن تصافحنا بعد أن انتهينا بالطبع من العمليات السرية، كان ودودًا بشوشًا بنظرة تمنح نفسها كأنه قشر ملامحه وظهر ما يخفيه تحتها.

أقرأ قصائده، معظم دواوينه كانت متوفرة، ربما نفد ديوانه الأول الذي ما زالت سيوفه حامية وقطوفه دانية.

لا أعرف، تخيلته لوهلة مثلي مع أن هيئتي أقرب للمغنين، قادمان من بيوت متشابهة، حدث ذلك مع محمد عبد الباسط عيد صديقه، مع أن وجهه يملك مساحات متسعة عن وجهي أنا وسمير، ويملك رضاءً أكثر وتسامحًا أوسع، أنا وسمير جئنا لمهمة أكبر كلفتنا بها الحياة والعائلة، ظروف تعليم بائسة، طبقية مقيتة تحاوطنا وعلينا أن ننجح ولا ننحني أبدًا.

هذا الخيط الرفيع الذي يصلك أو تقرؤه هو ما يربط الأرواح بخيط متين، رغم أننا لم نجلس مرة مثلًا في مقهى، مع أنني أنضح بالمقاهي طوال الوقت، لكن حسب ظني سمير ابن مكتبه، ابن طاولته، ينجز عمله كروائي دؤوب وهو الشاعر، أما أنا فأنجزه كشاعر أكتب فقرة وأنتظر الأخرى.

ربما منحته الطبيعة أكثر مما منحتني، هو رسام، الرسامون كائنات الله الأولى، لكنني أيضًا مغنٍّ، هو كان يحلم أن يكون مغنيًا في بداية حياته، ربما عمله لفترة كمحاسب قطع عليه طريق الغناء، نحن القادمون من القرى لا نملك غير وجوهنا، لا ظهر لنا، ربما نبحث عنه بالغناء الذي يجعل أحلامنا قابلة للتحقق.

 من الشعر إلى الرواية والمقال السياسي والثقافي إلى كشف احتيال الإخوان، واحد ينجز مهمته التي نذر لها نفسه بالقناعة ذاتها والإيمان ذاته، يمشي خفية بين شوارع الفن معتدًا كما يجب أن يكون، تراه يمشي على الأرض ثابتًا، لكن الحقيقة التي سوف تكتشفها لاحقًا أن هذا الطود رأسه في مكان آخر، لا شيء يضاهي الشعر عند سمير، الشعر لا شريك له، لعل قربه من حلمي سالم منحه هذه المساحة من وسع الروح، من تجاوز المساحات التي تسرق الحياة، من يعترف به حلمي فهو شاعر، لعله استمع إلى حلمي المفتون بمحمد عبد المطلب فغض نظره عن تجربة الغناء واكتفى به في الشعر،، لعله أخذ من نعومة روح ويد حلمي، ربما أخذ الموسيقى، المسكونون بالموسيقى يذهبون للشعر.

أحب أن يكتب عني وانتظر مقاله، كتب عن روايتيَّ باب الليل وحذاء فيلليني دون أن نلتقي أو نجلس مرة، كتب بعد تقاطعين، كتب بمحبة من يتقابلون عرضًا عند تقاطع في شارع أو ميدان، بتلك الشحنة الصاعدة من الروح والوعي معًا، كتابة طوقت عنقي، ولا أملك هدية تساوي فرحه بي، كل ما عندي أن أقرأ قصائده وأتأمل لوحاته وتصميماته.

القدر يرقد غالبًا عند تقاطعات الشوارع في القاهرة، وجدته هناك مع أصدقاء، معي نسخة يتيمة من روايتي “جنازة جديدة لعماد حمدي” خارجة لتوها من المطبعة، تسلمت أول نسخة، لم أستطع أن أخرجها منعًا للإحراج بين الأصدقاء، سألني عنها فازددت ارتباكًا: قريبًا جدًا، هذا الأسبوع، وفي غفلة من الزمن، من العيون قلت له: افتح حقيبتك ثم مد يدك في الكيس الذي أحمله وخذها.

وقد كان.

كتب عني كثيرًا، لم يترك لي نصًّا، ولم يترك للآخرين نصًّا جيدًا دون أن يعبر عن محبة عارمة، ثقلت ديوني تجاهه، حين عرض عليَّ إجراء حوار استكبرت أن يحاورني وهو الكبير عندي، سألته متى تريده؟ توقعت أن يقول أسبوعين، حوار كبير جدًّا، قال بنفس جدية وحسم برج الجدي: يومين.

لم أفعلها في حياتي، أن أترك رواية لأجل حوار، تركت كتابة الرواية وتفرغت له، أنجزته في يومين، لم أتحرك من طاولة المقهى صباح مساء، تخيلت أنني أرد بعض دينه واكتشفت بعد نشر الحوار أن الديون ثقلت عليَّ بحساب صندوق النقد الدولي.

صانع صحافة ثقافية من نوع شاهق، دؤوب يعمل بعقلين ومائة يد، شاعر أتى بالصدفة على غرار شاعر مدرسة المشاغبين الشهيرة كما يقول، الشعر يأتي صدفة والشعراء الحقيقيون ينبتون فجأة، لكنه شاعر جاء من مجتمع غير متعلم، والناس في مصر لا تقرأ، الوضع متردٍ والمنتج الثقافي ضعيف، واجه الضيق: ضيق المجال، ضيق الأفق، ضيق المساحات الزراعية، وضيق التفسيرات الدينية، كل ذلك وسَّع رؤيته لكنه صعب مهمته، كأنه يحمل على ظهره بؤس هذا العالم.

يحتاج الكتاب في العالم العربي إلى كتابة سمير، إلى كتابة تشبه كتابته من حيث القصد والبهاء، مدفوعة فقط بثمن القيمة والدور، وفتح النوافذ أمام من لا يملكون غير قلمهم، كتابة ثمنها التقدير والأثر فقط.

لا بأس إذًا، لا تنس يا صديقي أن نتقابل مرات عديدة كي لا تسرقنا الحياة، التقاطعات موجودة، وما زال معي كيس به محبة وتقدير ورواية جديدة.

 

عودة إلى الملف

مقالات من نفس القسم