د. إبراهيم منصور
إذا أردت أن تعرف من هم الآباء الشعريون لأحمد الشهاوي، فعليك بذي النون المصري، والحلاج، وابن عربي، والنِّفَّري، ومولاي جلال الدين الرومي، وهكذا لن تحتاج إلى أدونيس وصلاح عبد الصبور وأحمد عبد المعطي حجازي، ومحمد عفيفي مطر، لكي تدرك على من يتكئ الشهاوي، ولمن ينتمي شعريا منذ بداياته وحتى اليوم.
ظل أحمد الشهاوي (المولود عام ١٩٦٠م) معروفا بعمله في الصحافة، كما ظل مواظبا على كتابة الشعر، فنشر بين عامي ١٩٨٨ و٢٠٢٠ أحد عشر ديوانا شعريا لا يدخل في عدادها المختارات الشعرية، كما نشر ثمانية كتب في الفكر، وفي حقل يسميه هو “أدب العشق” وأخيرا الرواية.
الشهاوي في جيله
لم يحرص الشهاوي على الانتماء لأية جماعة شعرية في مصر، ولم يعرف عنه أنه من رواد المنتديات والمقاهي الثقافية، وهو مع ذلك معروف في أوساط أخرى وفي بلاد كثيرة خارج مصر، وقد أدرج اسمه ضمن الموسوعة العالمية للشعرWho’s who .وأخيرا فإن أحمد الشهاوي قد أضاف لصفة الصحفي والكاتب والشاعر، صفة الروائي أيضا، فقد نشر عام ٢٠٢٢م روايته الأولى “حجاب الساحر[1]” فلاقت نجاحا، وطبعت عدة طبعات، بل ترجمت لبعض اللغات الشرقية أيضا.
نال أحمد الشهاوي جائزتين: الأولى جائزة اليونسكو في الآداب (١٩٩٥) والثانية جائزة كفافيس في الشعر (١٩٩٨) ومع كل هذا الزخم والحضور الشعري والشهرة، فإن أحمد الشهاوي قليلا ما يذكر في كتب التراجم الأدبية المعاصرة، وفي معاجم الشعراء، فاسمه غير موجود في “قاموس الأدب العربي الحديث[2]” ولا في “موسوعة أعلام الأدب المصري الحديث والمعاصر[3]” بل إنه محروم من ذكر اسمه وشعره في المختارات الشعرية، لا أعرف أحداً ذكره إلا الدكتور يوسف نوفل في كتابه “عيون الشعر العربي الحديث”[4] أما المختارات الشعرية المعنية بالشعر المصري فهو لا يذكر فيها، سواء أكانت مخصصة لقصيدة النثر أم مخصصة لنصوص الشعر المصري الحديث في عمومه.
التعمق في التصوف
خصص أحمد الشهاوي واحدا من كتبه ل”سلاطين الوَجْد“[5]ولكنه لم يتناول فيه إلا ثلاثا من هؤلاء المتصوفين العارفين: “ذو النون المصري” (٢٤٥هجرية) ويسميه رأس الصوفية، و”أبو بكر الشبلي” (٣٣٤هجرية) و”النِّفّري” (٣٥٤هجرية) ولم يشتهر أي منهم بأنه شاعر، وإن كان الأولان لهما شعر، وأما النفري فقد أثّر في الشعر الحديث كما لم يؤثر فيه شاعر من القدماء، فنظرة الشهاوي لهؤلاء المتصوفة هي النظرة التي عرف بها الأدب العربي الحديث تراث الصوفية وقدّره بحسبانه تراثا شعريا، فكما قال زكي نجيب محمود “إن الصوفي شاعر، سواء نثر القول أم نظم”
ترك الشهاوي دراسة الرياضيات والفيزياء في كلية التربية في بلده دمياط، ليلتحق بقسم الصحافة في كلية الآداب بسوهاج، وهناك واصل اكتشاف العالم الصوفي الذي كان على خبرة به منذ عرف مقام “سيدي علي السقا” وحضرة الذكر، في صحبة الطريقة الشاذلية في بلدة “كفر المياسرة”. أما في سوهاج فقد كان على موعد مع كنز من كنوز الصوفية الخبيئة هو “ذو النون المصري” فقد استطاع ابن أخميم هذا أن يجوب الأرض فزار مكة ودمشق وبغداد والمغرب وتونس وبيت المقدس واليمن والمدينة ووادي كنعان وجبال نيسان والشام، وتنقل في صحاري مصر وطور سيناء، وإذا كان “ذو النون” واسمه “ثوبان بن إبراهيم” لم يعرف شاعرا، فقد نشرت له أبيات ومقطعات كثيرة، مثلما هي حال رابعة العدوية، كما تناوله “مولاي جلال الدين الرومي” وقدمه في شعره الصوفي الفارسي، كما أثبت في كتابه “المثنوي المعنوي”
تنقسم تلك النزعة الصوفية التي مال إليها الشاعر أحمد الشهاوي وتثقف بها حتى امتلأ بها عقله وروحه، إلى: المعرفة والمحبة، فالحب نصف الطريق الصوفي، وقد اختار الشهاوي هذا القسم من أقسام الصوفية ليكون طريقا له في الحياة وفي الشعر، وإن لم يهمل المعرفة بتراث الصوفية في كليته وتفاصيله، فهو واحد من المعدودين المخلصين للتصوف وتراثه في عصرنا الحاضر.
بين الشعر والنثر
ظل الشهاوي يكتب قصيدة التفعيلة، فهو قد جرب نفسه في القصيدة العمودية كما في قصيدة “دراما الموت والميلاد” من ديوانه الأول “ركعتان للعشق” فلم يغادر قصيدة التفعيلة مبكرا مثلما فعل ثلاثة من أبناء جيله وهم: سمير درويش ومحمود قرني وإبراهيم داوود، وهذا، من وجهة نظري، هو أهم أسباب تجاهل اسمه في المختارات الشعرية لقصيدة النثر، لأنني لا أحب أن أسند التفسيرات للظنون وأقول أنه بسبب بُعْدِه عن الجماعات الشعرية والمنتديات الأدبية، لم يُلحق بالجيل الذي ينتمي إليه وهو جيل الثمانينيات المؤسس الحقيقي لقصيدة النثر.
لكني لابد أن ألفت النظر لعدة أمور أراها ميزت أحمد الشهاوي في إبداعه عموما وفي نمط قصيدته خصوصا:
الأمر الأول- هو حرصه على الاستمرار ومراكمة الخبرة في الكتابة
الأمر الثاني- إدراكه لموضوع “الشعرية” من خلال كتابة نثرية صاحبت قصيدة التفعيلة طوال الوقت، ولا أقصد بهذه الكتابة النثرية المقالات أو الكتابة الصحفية.
الأمر الثالث- علاقته بالمرأة وبمفهوم للحب اختص به دون سواه.
ذات أنثوية
في كل كتاب لأحمد الشهاوي، بلا استثناء سنجد اسم “نوال عيسى” حاضرا، ونوال عيسى هي أم الشاعر، حاضرة في الإهداءات بلا كلل ولا ملل، وحضورها قد يكون أولا بسبب وفاتها المبكرة، حيث تركته وغادرت الدنيا فذاق طعم اليُتْم مبكرا، لكن الاسم تحول إلى رمز دائم الحضور، في النصوص كلها شعرا ونثرا، وهذا لابد أن يجعلنا نقرأه على نحو أكثر رحابة لكي يفسر لنا هذا التكرار الذي لا يملُّه الشاعر، وقد وجدتُ أن اسم “نوال عيسى” أصبح مثل اسم “النّظام” التي عرفها ابن عربي في مكة، وتلقب ب”عين الشمس والبها” وهي فتاة عذراء (عليها مسحة ملَك، وهمة ملِك” عرفها الشيخ الأكبر” محيي الدين بن عربي” (٥٥٨- ٦٣٨هجرية) في مكة، وكتب لها ديوانه “ترجمان الأشواق“[6]وقيل إن الذات الأنثوية عند ابن عربي، سواء في شعره أو في نثره، إنما ترمز للذات الإلهية، لذلك من السهل أن نتجه لتفسير وجود اسم “نوال عيسى” في كتابة أحمد الشهاوي، بحسبانها رمزا، وأحيانا قناعا، برغم أنها تبقى عند العتبة، أي في بداية النص ولا تبنى النصوص الشعرية من داخلها على هذا الرمز ولا على القناع، وقد فعل ذلك عبد الوهاب البياتي (١٩٢٦- ١٩٩٩) أيضا في كثير من دواوينه، وخاصة في “الموت في الحياة” فالبياتي برغم نزعته الماركسية، قد جعل من التصوف بابا للقصيدة، وأطلق على نفسه في سيرته الشعرية “مجنون عائشة” وعائشة رمز يظهر ويغيب:
“عادت إلى بلادها البعيدة على شكل صفصافة تبكي على الفرات.. ثم على شكل ناعورة تبكي على الفرات أيضا”[7]
أما الشهاوي فيدخل “نوال عيسى” في “الحضرة” ويربط اسمها ب”الاتحاد والحلول” و”بالكعبة” وفريضة الحج، فإذا كان الشاعر هو صاحب الوَجْد، فإن نوال عيسى هي الواجدة. إنها “فاتحة الكتاب” و”سدرة منتهى العشق” وبذلك بعدت عن المعنى المعروف للأم، إلى معنى واسع للذات الأنثوية.
نثر آخر
أما اتجاه الشهاوي للكتابة النثرية المرتبطة بالتصوف فهو عمله في “الوصايا في عشق النساء“[8]الكتاب الأول، والكتاب الثاني. وفي مطلع الكتاب الأول نقرأ عبارة “كل وصية وواردة في هذا الكتاب، فعنها أكني“[9] وهي كلمة ابن عربي في شرحه لترجمان الأشواق، وابن عربي يكني عن “النظام” وعن الذات الإلهية كما قلنا. واستطاع الشهاوي أن يمزج لغة التصوف المتسامية المتعالية، بلغة العشق الجسدي الحسيّة، التي كادت تلامس منطقة الشبقية، ومن هنا تحرك من تحرك ضده في العام ٢٠٠٣م[10]. وقد امتلأ كتاب الوصايا بكلمات ابن عربي والحلاج والخيام ومحمد إقبال وأبي حيان التوحيدي، كما امتلأ بنصوص من القرآن الكريم والحديث النبوي الشريف، وظل مع ذلك كتابا مقبولا مقروءا، كما ظل كتابا صادما، ومن هنا كانت علاقته ب”الشعرية”. على أننا لا نراه ينبع من منبع “السوريالية” واللعب اللغوي كما هي الحال عند كل من “أدونيس” و”حسن طِلِب” من بعده.
أثر التراث الصوفي
لقد ظل التعلق بالتراث يشغل الشاعر الحديث، فاتجه “الشعراء التموزيون” لأساطير الخلق عند الفينيقيين واليونان، وخاصة لدي بدر شاكر السياب (١٩٢٧- ١٩٦٤) واتجه الشاعر المصري إلى التراث الشعبي، والكتاب المقدس، وأساطير المصريين، لكن كثيرا من هذا “التّناصّ” Intertextualityمع التراث العربي والإنساني، بقي لونا من الاستعارة لأصوات الآخرين، ثم تطور ليصبح لونا من الاشتباك والمعارضة، وخاصة عند شعراء السبعينيات وأهمهم “حلمي سالم” (١٩٥١- ٢٠١٢) وأخيرا كان على شاعر قصيدة النثر ألا يتورط في هذه العلاقة مع التراث على نحو يشبه التبعية والمحاكاة، فانفلت شاعر قصيدة النثر من تلك العلاقة، وحين نقول إن أحمد الشهاوي يسير وحده، فإننا نكون بصدد توضيح الصورة بشأن شاعر انتمي لجيل الثمانينيات في مصر، وبقي على عهده من التمسك بالوزن لأطول مدة، كما بقي على نهجه في الارتباط بالتراث وليس الانفلات من تأثيره.
لم ينظر الشهاوي للتراث نظرة أصحاب “الموضات” أو الصرعات الفنية، بل كان وفيا للفكر الذي أحبه وهو الفكر الصوفي، وللغة التي أسرته مبكرا وهي اللغة الصوفية، ثم دأب على تطوير أدواته، فرأينا الاستعارة في ديوانه “ركعتان للعشق” (١٩٨٥) حيث يقول:
“ركعتان في العشق لا يصح وضوؤهما إلا بالدم“
مجرد استعارة لمقولة نسبت للحلاج (٢٤٤- ٣٠٩هجربة) عند شنقه بعد تقطيع أوصاله. لكن الشاعر وهو بعد في بداياته أورد عبارة تقول:
“مسافة لا أستطيع تجاوزها
مهما كان لفح الشمس
والأمس
وانكسار الّلوْح مِنّي”[11]
فذهب إلى حكاية وردت في الرسالة القشيرية، تحكي عن قصة من قصص الكرامات.
مرحلة جديدة
في ديوانه المبكر “أحوال العاشق” (١٩٩٦) سوف يخطو أحمد الشهاوي خطوة نحو قصيدة النثر، لكنه سيبقى عند حافتها، لأن الديوان أقرب إلى الشعر المنثور منه إلى قصيدة النثر، لكنه أيضا خطوة مهمة أكدت أن اللغة الصوفية ليست زينة، وأن الشاعر له طريق يمشي فيه واثقا:
“روحي باقية على حالها لا تتغير
كأن النار لم تخلق.
أعرف أن المحب سكران لا يفيق عند مشاهدة محبوبه”[12]
في الدواوين الأخيرة، ومنها: لا أراني” (٢٠١٧) و “سماء باسمي” (٢٠١٨) استمر الشاعر في تطوير لغته، فبقي المعجم الصوفي أساسا لديه، كما أنه لم يعد أسيرا للوزن، وقد أثبتت “القصائد الأمريكية” في ديوان “ما أنا فيه” أن هذا الشاعر يبحث عن ذروة شعرية ليتربع عليها وحده:
“كلْما احتملتُ الألم
ومشيتُ خطوةً
تزلزلتِ الأرضُ تحتي
فاض الطريق بالقيْظ
وسوءِ الأدب
ولا مَنْ هناك لكي يعتذر”[13]
أصبح الشاعر يكتب عبارات قصيرة، منحوتة من استعارات طازجة:
“الألم الذي لا يستحي
ينام على مخدّتي
بينما الحيرةُ تأكل ما في رأسي من أفكار
حتى القلق تجرّأ عليّ .. سرق ملابسي
راح الخراب يمسح الرخام
كأن البيت بيته”[14]
لقد بلغ أحمد الشهاوي في ديوانه “ما أنا فيه” ذروة شعرية سامقة، قد يكون نتيجة تجربة مريرة أنهكت جسده وروحه، لكن ما هو صحيح أنه قد مر بحال الحزن، أو مقام الحزن، و”الحزن من أوصاف أهل السلوك” لكن المفارقة أن الشاعر قد تحلل من أسر اللغة الصوفية، أقصد المعجم الصوفي خاصة، في هذا الديوان، وبقي المعنى “زكاة العقل طول الحزن”[15] وسواء أكانت التجربة الوجودية هي محرك هذه الذروة الشعرية وسببها المباشر أم لا، فإن الطريق التي سار فيها الشاعر قد أوصلته، وأدت به إلى “ما هو فيه”، حيث حلت “صوفية الفكر” محل صوفية الطريق، أو زاحمتها على الأقل.
الهوامش
[1] ١-أحمد الشهاوي (٢٠٢٢) حجاب الساحر، الدار المصرية اللبنانية، القاهرة.
[2] ٢- قاموس الأدب العربي الحديث (٢٠١٥) إشراف وتحرير د. حمدي السكوت، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة.، وقد احتوى على ترجمة لعدة مئات من الأدباء العرب.
٣-موسوعة أعلام الأدب المصري الحديث والمعاصر (٢٠٢٣) الجزء الأول( من أ – خ) إشراف الدكتور سعيد الوكيل، تحرير الدكتور ماجد الصعيدي، المجلس الأعلى للثقافة، القاهرة.[3]
[4] ٤- يوسف نوفل (٢٠١٢) عيون الشعر العربي الحديث، مكتبة الآداب، القاهرة، ص ص ٧٠ – ٧٦..
[5] ٥- أحمد الشهاوي (٢٠٢٢) سلاطين الوجد، دولة الحب الصوفي، الطبعة الأولى، الدار المصرية اللبنانية، القاهرة.
[6] ٦- ابن عربي، محيي الدين (١٩٨١) ترجمان الأشواق، دار بيروت للطباعة والنشر، بيروت ص ص ٧- ٩.
[7] ٧- عبد الوهاب البياتي (١٩٩٣) تجربتي الشعرية، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، الطبعة الثالثة، بيروت، ص ص ٨٨- ٨٩.
[8]الطبعة الثالثة، الدار المصرية اللبنانية، القاهرة. ٨- أحمد الشهاوي (٢٠١٠) الوصايا في عشق النساء، الجزء الأول،
[9] ٩- الوصايا في عشق النساء، الجزء الأول، ص . هاء
[10] ١٠- نشرت جريدة الحياة اللندنية، يوم ١١/١٢/٢٠٠٣، خبرا تقول فيه “وجه الأزهر انتقادات عنيفة إلى مؤسسات الدولة المصرية، بسبب “نشر العبث بآيات القرآن الكريم وأحاديث النبي” حيث أصدر مجمع البحوث الإسلامية حيثيات قراره بمنع طبع كتاب الشاعر المصري أحمد الشهاوي “الوصايا في عشق النساء”. ولكن الشاعر انتصر في معركته، حيث نشر كتابه على نطاق واسع في مكتبة الأسرة عام ٢٠٠٣م.
[11] ١١- أحمد الشهاوي (١٩٨٧) ركعتان للعشق، دار الف للنشر، القاهرة، ص ٥٧.
[12] ١٢- أحمد الشهاوي (١٩٩٦) أحوال العاشق، الدار المصرية اللبنانية، القاهرة، ص. ١٧٤.
[13] ١٣- أحمد الشهاوي (٢٠٢٠) ما أنا فيه، الدار المصرية اللبنانية، القاهرة، ص. ١٦.
[14] ١٤- ما أنا فيه، ص. ١٦٥.
[15] ١٥- راجع :القشيري، عبد الكريم بن هوازن (١٩٥٧) الرسالة القشيرية، في علم التصوف، دار الكتاب العربي، بيروت، ص. ٦٩.
اقرأ أيضاً: