سِينِمَا الفَرْدُوسِ: سُؤَالُ الحُلْمِ الأوَّلِ

marwan yasseen
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

مروان ياسين الدليمي

(1 )   “نَافِذَةٌ مِنَ الضَّوْءِ عَلَى جَسَدِ المَدِينَةِ

فِي ظَهِيرَةٍ مَائِلَةٍ مِثْلَ قَوْسٍ مِنْ دُخَانٍ،

وَالضَّوْءُ نَاعِمٌ ،

كَحَافَّةِ سِكِّينٍ مَنْسِيَّةٍ عَلَى مَائِدَةِ الطُّفُولَةِ.

كَانَ شَهْرُ نَيْسَانَ يَتَهَجَّى اسْمِي

بِنَسِيمٍ يَمُرُّ بَيْنَ أَزْرَارِ القَمِيصِ النَّظِيفِ،

فيما أُمِّي تُمَشِّطُ شَعْرِي

كَمَا لَوْ أَنَّنِي ذَاهِبٌ إِلَى السَّمَاءِ، لَا إِلَى فِيلْمٍ.

 

كُنْتُ أُغَنِّي تَرْنِيمَةً لَا أَفْهَمُهَا — اسْمُهَا: “السِّينِمَا”.

كُلُّ مَا أَعْرِفُهُ أَنَّنِي مَعَ خَالِي،

وَهُوَ يُمْسِكُ بِي،

وَيَشْتَرِي لِي قِنِّينَةَ كُوكَا كُولَا

كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ صَغِيرٌ فِي يَدِي.

يَدُ خَالِي،

لَمْ تَكُنْ يَدًا،

بَلْ شَجَرَةُ زَيْتُونٍ عَجُوزٌ

تُرَبِّتُ عَلَى جَبِينِي

وَتَسْحَبُنِي مِنْ كَتِفِ طُفُولَتِي إِلَى طَقْسٍ مَجْهُولٍ

تَحْتَ رَايَةٍ مِنْ أَلْوَانٍ صَاخِبَةٍ

وَوُجُوهٍ تَضْحَكُ مِنْ وَرَقٍ رَقِيقٍ.

 

المَدِينَةُ فِي مُنْتَصَفِهَا تُشْبِهُ ذَاكِرَةً تَنْتَظِرُ،

وَسِينِمَا الفَرْدُوسِ مَبْنًى وَاسِعٌ كَقَلْبٍ مَفْتُوحٍ،

وَعَلَى وَاجِهَتِهِ… فَرِيدُ الأَطْرَشِ يَبْتَسِمُ لِامْرَأَةٍ لَا أَعْرِفُهَا،

لَكِنِّي تَمَنَّيْتُ لَوْ أَنَّهَا تَنْظُرُ إِلَيَّ.

 

لَمْ أَكُنْ أَدْرِي مَنْ هُوَ فَرِيدٌ،

وَلَا لِمَاذَا تُضَاءُ النَّوَافِذُ مِنَ الدَّاخِلِ

بَيْنَمَا النَّهَارُ مَا يَزَالُ يَتَثَاءَبُ خَارِجَ الصَّالَةِ،

لَكِنَّنِي كُنْتُ أَعْرِفُ

أَنَّ شَيْئًا غَيْرَ مَرْئِيٍّ قَدْ بَدَأَ بِالتَّحَرُّكِ دَاخِلِي

كَضَوْءٍ يَتَعَلَّمُ النُّطْقَ.

 

أَجْلَسَنِي خَالِي فِي المُنْتَصَفِ

كَمَا لَوْ أَنَّ المَكَانَ خُلِقَ لَنَا فَقَطْ.

كَانَ صَوْتُهُ مُطْمَئِنًّا،

كَأَنَّ لَا شَيْءَ فِي هَذَا العَالَمِ يَسْتَحِقُّ الخَوْفَ،

طَالَمَا أَنَّ ذِرَاعَهُ قَرِيبَةٌ مِنِّي.

وَفِي زُجَاجَةِ كُوكَاكُولا

انْكَمَشَ العَالَمُ إِلَى فُقَاعَةٍ سُكَّرِيَّةٍ

رَأَيْتُ فِيهَا السَّمَاءَ تَتَدَلَّى عَلَى هَيْئَةِ فَمٍ عَطِشٍ،

بَيْنَمَا كَانَ الهَوَاءُ يَلْمَعُ،

وَصَدْرِ خَالِي — مَا زَالَ دَافِئًا،

كَأَنَّ الشَّمْسَ تَسْكُنُهُ.

 

المَدِينَةُ نَائِمَةٌ،

وَالمَصَابِيحُ عَلَى الرَّصِيفِ تَرْمُشُ كَعُيُونِ العُمْيَانِ،

لَا تَرَى،

وَلَا تَحْلُمُ.

وَالمَسَرَّاتُ الصَّغِيرَةُ

كَانَتْ تَقْفِزُ مِثْلَ قِطَطٍ ضَالَّةٍ عَلَى جَوَانِبِ الشَّوَارِعِ،

وَأَنَا،

لَا أَعْرِفُ مَنْ أَنَا، وَلَا أَيْنَ نَحْنُ.

كُنْتُ أَرْتَدِي جَسَدِي لِلْمَرَّةِ الأُولَى

كَمَا يَرْتَدِي المُمَثِّلُ دَوْرَهُ ،دُونَ أَنْ يَعْرِفَ نِهَايَةَ النَّصِّ.

 

( 2 ) “الظِّلَالُ الَّتِي تَحْلُمُ بِأَجْسَادِهَا

 

حِينَ انْطَفَأَ العَالَمُ،وَابْتَلَعَ الضَّوْءَ عُصْفُورٌ أَسْوَدُ،

عَرَفْتُ أَنَّنِي عَبَرْتُ إِلَى الجِهَةِ الأُخْرَى مِنَ الحِكَايَةِ.

 

الصَّالَةُ، كَهْفٌ بِلَا زَمَنٍ،

تَتَنَفَّسُ بِبُطْءٍ مِنْ فَمٍ وَاحِدٍ

هُوَ صَوْتُ أُمِّ كَلْثُومَ

وَهِيَ تُطَرِّزُ الهَوَاءَ بِنِدَاءٍ ضَائِعٍ: “حُبْ إِيه؟”

وَأَنَا لَا أَعْرِفُ الحُبَّ،

لَكِنَّنِي شَعَرْتُ أَنَّهُ شَيْءٌ ،كَصَوْتٍ يَتَعَثَّرُ بِثَوْبِهِ فِي المَمَرِّ.

 

جَلَسْنَا.

كَانَ خَالِي يُمْسِكُ بِيَدِي

كَأَنَّمَا يَمْنَعُنِي مِنَ السُّقُوطِ فِي نَفْسِي،

وَفِي عَتْمَةٍ نَاعِمَةٍ، اخْتَمَرَ القَلَقُ بَيْنَ أَضْلَاعِي

كَثَمَرٍ لَمْ يَنْضُجْ بَعْدُ.

قَالَ بِصَوْتِهِ الَّذِي يُشْبِهُ صَلَاةً:

“لَا تَخَفْ، الآْنَ يَبْدَأُ الفِيلْمُ”.

 

ثُمَّ — شَقَّتْ حُزْمَةُ الضَّوْءِ ظِلَالَنَا،

كَأَنَّهَا تَسْأَلُنَا عَنْ جَوَازِ عُبُورٍ قَدِيمٍ نَحْوَ مَا كُنَّا نَجْهَلُهُ.

 

الشَّاشَةُ لَمْ تَكُنْ شَاشَةً، بَلْ جِدَارٌ هَشٌّ

انْكَسَرَتْ عَلَيْهِ المَرَايَا،

وَانْفَجَرَتْ فِيهِ المُدُنُ،

وَغَنَّى فَرِيدُ الأَطْرَشِ ،

كَأَنَّهُ يَرْشُو المَوْتَ بِالأَلْحَانِ كَيْ يَتَأَخَّرَ قَلِيلًا.

سَامِيَةُ جَمَالٍ،

تَدُورُ.

تَدُورُ.

تَدُورُ،

كَأَنَّهَا رَقْصَةُ كَوْكَبٍ صَغِيرٍ فَقَدَ جَاذِبِيَّتَهُ لِـلَحْظَةٍ،

وَإِسْمَاعِيلُ يَاسِين ،

يُقَلبُ جِدِّيَّةَ العَالَمِ إِلَى ضَحِكٍ يَسِيلُ مِنْ عُيُونٍ لَا تُرَى.

 

( 3 ) “نَوْمٌ يَتَعَلَّمُ السِّينِمَا

كُنْتُ أَفْتَحُ عَيْنَيَّ عَلَى الشَّاشَةِ

كَمَا تَفْتَحُ الأَرْضُ شُقُوقَهَا لِأَوَّلِ مَطَرٍ،

وَكَانَ الضَّوْءُ

يُرَبِّي فِي صَدْرِي حَدِيقَةً لَمْ يَزْرَعْهَا أَحَدٌ.

لَكِنَّنِي لَمْ أَكُنْ أَرَى،

بَلْ كُنْتُ أُبْصِرُ مِنَ الدَّاخِلِ،

أَرَى مَلَامِحِي تُعَادُ تَرْكِيبُهَا

مِنْ صَوْتٍ،

وَرَقْصَةٍ،

وَابْتِسَامَةٍ تَسْقُطُ مِنْ فَمٍ عَرِيضٍ.

 

فَرِيدٌ يُغَنِّي

بِحَنْجَرَةٍ مُصْقُولَةٍ بِرَمْلٍ دَافِئٍ،

وَسَامِيَةُ،

تَدُورُ حَوْلَهُ كَمَا تَدُورُ الطَّائِرَاتُ حَوْلَ أَبْرَاجِهَا الأَخِيرَةِ،

وَكُلُّ شَيْءٍ

كَانَ يَبْدُو لِي أَكْبَرَ مِنْ أَنْ أَعِيشَهُ،

كَأَنَّنِي ضَيْفٌ عَابِرٌ

فِي مَشْهَدٍ لَا يَحْتَاجُنِي.

 

لَمْ أُقَاوِمِ النَّوْمَ،

كَانَ يَأْتِي عَلَى مَهْلٍ

مِثْلَ قَارِبٍ فِي الضَّبَابِ،

يَحْمِلُنِي دُونَمَا سُؤَالٍ

إِلَى مَكَانٍ

لَا صَوْتَ فِيهِ إِلَّا نَبْضُ خَالِي

وَأَنَا أَتَّكِئُ بِرَأْسِي عَلَيْهِ

كَأَنَّنِي طِفْلٌ وَلَدَتْهُ السِّينِمَا تَوًّا.

 

وَفِي آخِرِ اللَّقْطَةِ،

هَمَسَ خَالِي فِي أُذُنِي بِصَوْتٍ خَافِتٍ

كَأَنَّمَا يَعْتَذِرُ لِلضَّوْءِ عَنْ وَدَاعِهِ:

“اسْتَيْقِظْ، لَقَدِ انْتَهَى الحُلْمُ.”

 

فِي الخَارِجِ،

الهَوَاءُ كَانَ نَفْسَهُ،

لَكِنَّنِي تَنَفَّسْتُهُ وَكَأَنَّنِي أَتَنَفَّسُهُ لِأَوَّلِ مَرَّةٍ.

المَبْنَى خَلْفِي، صَامِتًا،

يُشْبِهُ صَدِيقًا وَدَّعَنِي دُونَ أَنْ يَقُولَ شَيْئًا.

 

عُدْتُ إِلَى البَيْتِ،

لَكِنِّي لَمْ أَعُدْ إِلَيْهِ تَمَامًا.

كُنْتُ أَحْمِلُ شَيْئًا لَمْ أَرَهُ فِي المِرْآةِ،

 

 

( 4 ) “الطِّفْلُ الَّذِي رَأَى النُّور

فِي اليَوْمِ التَّالِي،

كُنْتُ أَحْمِلُ السِّينِمَا عَلَى لِسَانِي

كَمَنْ يُخْرِجُ مِصْبَاحًا مِنْ فَمِ ذَاكِرَتِهِ.

كُنْتُ أَنَا الطِّفْلَ الوَحِيدَ

الَّذِي سَمِعَ كَيْفَ يَبْكِي الضَّوْءُ حِينَ يُطْفَأُ،

وَشَمَّ طَعْمَ الكُوكَاكُولا

كَأَنَّهَا دَمْعَةٌ حُلْوَةٌ

مِنْ خَدِّ مَدِينَةٍ تَبْتَسِمُ لِلْمَرَّةِ الأُولَى.

الأَطْفَالُ،

كَانُوا يَجْلِسُونَ عَلَى الأَرْضِ

كَجُنُودٍ بِلَا حَرْبٍ،

يُنْصِتُونَ لِحِكَايَتِي

كَأَنَّنِي عُدْتُ مِنْ كَوْكَبٍ لَمْ يُكْتَشَفْ،

أُعِيدُ أَسْمَاءً لَا يَعْرِفُونَهَا:

فَرِيد،

سَامِيَة،

وَصَوْتُ أُمِّ كَلْثُومَ وَهُوَ يَنْسُجُ الهَوَاءَ بِخُيُوطٍ مِنْ حَرِيرٍ حَزِينٍ.

وَاسْمَاعِيل يَاسِين

كَانَ ضَحِكَةً تَحْمِلُ مَرَارَةَ العَالَمِ

وَتُخْفِيهَا فِي جَيْبٍ وَاسِعٍ لَا يَرَاهُ أَحَدٌ.

 

كُنْتُ أُكْثِرُ مِنَ التَّفَاصِيلِ

لَا لِأُدْهِشَهُمْ،

بَلْ لِأُعِيدَ الحُلْمَ إِلَيَّ،

كُلَّمَا خِفْتُ أَنْ أَسْتَيْقِظَ مِنْهُ.

مُنْذُ تِلْكَ اللَّحْظَةِ،

فِي ظَهِيرَةٍ نَيْسَانِيَّةٍ قَبْلَ اثْنَيْنِ وَسِتِّينَ عَامًا،

لَمْ أَكُنْ أَذْهَبُ إِلَى السِّينِمَا،

إنما كُنْتُ أَعُودُ إِلَيْهَا.

 

كَانَ وَجْهِي يُضِيءُ كُلَّمَا حَكَيْتُ،

كَأَنَّنِي لَمْ أَعُدْ طِفْلًا، بَلْ شَاشَةً بَيْضَاءَ

تُعِيدُ عَرْضَ المَشْهَدِ،

كُلَّمَا أَغْلَقَ أَحَدُهُمْ عَيْنَيْهِ.

 

 

( 5 ) “الضَّوْءُ الَّذِي كَتَبَنِي

 

مُنْذُ تِلْكَ اللَّيْلَةِ،

أَدْرَكْتُ أَنَّنِي لَنْ أَكُونَ كَمَا كُنْتُ،

أَنَّنِي كُتِبْتُ مِنْ ضَوْءٍ لَا يَعْرِفُ العَوْدَةَ إِلَى مَصْدَرِهِ.

صَارَتِ الأَيَّامُ تَمُرُّ، وَلَكِنِّي بَقِيتُ هُنَاكَ،

فِي ذَلِكَ المَقْعَدِ الأَحْمَرِ،

أَنْتَظِرُ اللَّحْظَةَ الَّتِي تَبْدَأُ فِيهَا الحِكَايَةُ.

 

هَلْ كَانَتِ السِّينِمَا ؟

أَمْ كَانَتْ طَرِيقًا يُفْضِي إِلَيَّ ؟

أَمْ أَنَّنِي كُنْتُ أَسِيرَ حُلْمٍ لَمْ أَفْهَمْهُ إِلَّا فِي الضَّوْءِ ؟

 

كُلُّ شَيْءٍ أَصْبَحَ شَاشَةً مُحْتَمَلَةً،

الشَّارِعُ،

النَّافِذَةُ،

وَجْهُ أُمِّي وَهِيَ تُنَادِينِي لِلْعَشَاءِ،

ضَحْكَةُ خَالِي حِينَ يَنْسَى نَفْسَهُ فِي الحَدِيثِ،

حَتَّى نَوْمِي،

صَارَ فِيلْمًا لَمْ يَنْتَهِ.

 

السِّينِمَا،

لَمْ تَكُنْ صَالَةً، وَلَا شَاشَةً، وَلَا صَوْتًا،

بَلْ عَتَبَةٌ خَفِيَّةٌ،

عَبَرْتُهَا دُونَ أَنْ أَعْلَمَ أَنَّنِي كُنْتُ أَخْرُجُ مِنْ جَسَدِي الأَوَّلِ،

وَأَدْخُلُ فِي مَلَامِحَ أُخْرَى

سَتُرَافِقُنِي طَوِيلًا

مِثْلَ ظِلٍّ أَدْمَنَ الضَّوْءَ.

 

كَأَنَّ كُلَّ مَا جَرَى

كَانَ إِشْعَارًا صَغِيرًا مِنَ الزَّمَنِ، يَقُولُ لِي:

“هُنَاكَ مَكَانٌ آخَرُ لَكَ، حَيْثُ تَنَامُ الحَيَاةُ، لِتَصْحُوَ فِي مَشْهَدٍ.”

 

كُلُّ زَاوِيَةٍ،

كُلُّ ظِلٍّ،

كَانَ صَدًى لِتِلْكَ اللَّحْظَةِ الأُولَى، فِي نَيْسَانٍ بَعِيدٍ.

 

وَهَكَذَا

كَبِرْتُ فِي حِضْنِ العَتْمَةِ،

أُدَرِّبُ قَلْبِي عَلَى التِّقَاطِ الضَّوْءِ،

وَأَكْمَلْتُ رِحْلَتِي حَامِلًا وَجْهِي القَدِيمَ

كَعَدَسَةٍ تُصَوِّرُ العَالَمَ

دُونَ أَنْ تُضَيِّعَهُ.

 

اقرأ أيضاً:

“ظاهراتية الخيال في نص “سينما الفردوس”: سؤال الحلم الأول لمروان ياسين الدليمي

سِينِمَا الفَرْدُوسِ: سُؤَالُ الحُلْمِ الأوَّلِ

 

 

مقالات من نفس القسم

RANA TOUNSI
يتبعهم الغاوون
رنا التونسي

قصيدتان

nourhan abu ouf
يتبعهم الغاوون
نورهان أبو عوف

صور