سيرة اليوم الأخير من العام

نور الهدى سعودي

اليوم الأخير من العام يصل، الشوارع أكثر ازدحاما، وكأن المدينة تتهيأ لتبديل جلدها. أخرج للمشي صباحا، والهواء يلسع الخدين، تنفسي يرسم سحبا صغيرة تذوب سريعا. الأشجار عارية، تقف بكرامة، والعراء فيها ليس موتا؛ إنه ادخار. أنظر إلى الأغصان، وأشعر أنها تعرف ربيعا سيأتي في وقته، حتى إن لم نره بعد. أمشي دون وجهة واضحة، فقط رغبة في أن أشهد هذا اليوم بجسدي كاملا، وأن أترك للقدمين حقهما في التفكير. كل خطوة تضعني أقرب إلى العتبة التي سيعبرها التقويم، وأقرب إلى الداخل الذي يعبر دون تواريخ.

الأوراق المتساقطة  تحمل رسائل ذاكرة الأشجار. كلّ ورقة تدور في الهواء تحمل لونا مختلفا من الوداع: البرتقاليّ فيه شيء من الحنين، الأحمر القاني يشبهُ اعترافا متأخرا، والبني الجاف يحمل استسلاما هادئا لما هو آت. أمشي فوقها فتصدر طقطقة خفيفة تحت قدميّ، وفي هذا الصوت شيء من الموسيقى البدائية، كأنّ الأرض تعزف سيمفونية الانتقال. الطريق إلى البيت مفروش بهذه السجادة المتحركة التي يُعيد الريح نسجها كل هبة، وأنا أسير محاولة أن أقرأ في تشكيلاتها خريطة لما مضى وما سيأتي، لكنّ الرياح لا تسمح بقراءة نهائية. لا شيء يسمح بقراءة نهائية في هذا العالم، والطرق تعرف كيف تبقي معانيها مفتوحة.

عند منعطف الحي، يهبط الضوء باكرا ويصبح مائلا كأنه يبحث عن زاوية أرحم للأشياء. زجاج الواجهات يعكس سماء رمادية، والرمادي ليس لونا باردا فقط؛ إنه مساحة انتظار، صفحة لم تملأ بعد. أرفع ياقة معطفي، وأشعر أن الجسد يسبق التقويم بخطوة، يلتقط التحّل من أول لسعة على الأصابع. أنفاسي تخرج غمامة صغيرة ثم تتلاشى، كأنها توقيع سريع يتركه اليوم على الهواء. في هذا التلاشي شيء من فلسفة السنة وهي تنسحب دون ضجيج.

أصل إلى الباب، فيسبقني صريره كأنه يعلن دخولي على نفسه، ثم يستقرّ البيت حولي بطمأنينة تعرفني. في الممر ضوء أصفر صغير يلمس الجدار، ويظهر غبارا رقيقا لم أره منذ كانت الشمس أكثر سخاء. أخلع الحذاء، فأسمع صوتا مكتوما للنعال على البلاط، وأشعر أن الحركة اليومية تكتسب فجأة معنى جديدا للراحة. أضع المفاتيح في مكانها، فتحدث في الرأس استقامة خفيفة، كأن ترتيبا صغيرا يضمّد فوضى أوسع. الداخل والخارج يلتقيان هنا: بردٌ خلف الباب، ودفء قابل للتشكّل.

في الممرّ تقف المرآة كنافذة داخلية، لا ترفع صوتها ولا تخفف حدتها. أقترب، فيبدو الوجه تحت ضوء شاحب أكثر صدقا: هالات دقيقة، خطوط صغيرة عند الأطراف، جفاف خفيف على الجلد. ألمس وجهي، فأشعر أن الجسد يرسل إشاراته بهدوء، يطلب عناية وإنصاتًا، خلف انعكاسي يظهر البيت: رفوف، كتب، لوحات وطن بعيد، كرسي ينتظر جلوسا أطول. المرآة تجمع كل ذلك في إطار واحد، وتقول ما لا يُقال: أننا عشنا هنا، وتغيّرنا هنا، وتركنا أثرًا.

أدخل المطبخ، فأجد سلةُ الرمان على الطاولة. الرمان الذي كان صلبًا في تشرين صار الآن ألينَ قليلًا عند اللمس، والرائحةُ التي تنبعثُ منه أكثفُ وأكثر حلاوة، كأنّ الثمرة تتكثّفُ على نفسها قبل أن تُسلّم. أفتح واحدةً منها، الجلد السميك يحملُ خطوطًا بنيّة صغيرة لم تكن موجودة قبل أسبوع. هكذا يشيخُ كل شيء، بخطوط داخلية قبل أن تظهر على السطح. أمضغ الحبات الحمراء ببطء،  وأتتبع كيف تتبدل النكهة بين الصلب والسائل، وكيف ينفتح الذهن على سيرة صغيرة تختبئ في الطعام. في لحظة كهذه، يصبح الأكل قراءة للحياة في أبسط أشكالها.

خارج النافذة يبدأ المطر على استحياء، قطرات متفرقة، ثم إيقاع أكثر انتظاما، كأن السماء تختبر صوته على الزجاج. مطر هذا الوقت من العام يحمل عنادا لطيفا، يغسل ويعيد تشكيل اللمعان على الأرصفة، ويطلق من التراب رائحة تشبه عودة بعيدة. تلك الرائحة تطرق باب الذاكرة دون استئذان: ساحة مدرسة دون أصوات، حذاء صغير يبلل الأقدام، أمّ تنادي من الشرفة على عجل، ضحكة تتدحرج مع الماء. ورائحة التراب المنغمس في فيض السماء، يا إلهي! لا أحتاج صورة كاملة؛ يكفي هذا الأثر العالق في الأنف كي أعرف أن الزمن يملك حواسه الخاصة. المطر يكتب مناخا داخليا، ويبدّل نبرة المساء. أُصغي إلى صوت الغسل العميق، وهو ينظف عالمي من بقايا موسم ينتهي.

على الحائط تواصل الساعة عملها بصبر معدني. العقرب الثاني يقفز بثقة صغيرة، ومع كل قفزة تتراكم طبقة غير مرئية فوق السنة. أنظر إليها وأحس أن هذه الآلة لا تعيش القلق الذي نعلّقه على الأيام، ومع ذلك تمنحنا إيقاعا نعود إليه حين نتبعثر. أعدّ القهوة أثقل من المعتاد، وأتركها تطول على النار، الرائحة تتصاعد ببطء وتملأ الفراغ بنوع من الدفئ المعنوي. الدفئ الذي ينتشر في الهواء يُذكرني بأنّ الجسد أكثر حكمة من العقل، يستشعر التحوّلات قبل أن تعلنها التقاويم. أصابعي تلتفُ حول الكوب طلبا لحرارة صارت ضرورة، وفي هذه الحركة التلقائية أفهم أن الاحتياج يعيد تشكيل عاداتنا بصمت.

في الخارج، تبدو لي السماءُ رمادية كأنها حبلى بما لم تلده بعد. الرماد لون وسطيّ، لا هو الأبيض البريء ولا هو الأسود القاتم. إنه لون الانتظار، لون الاحتمال، لونُاللحظة التي تسبق القرار.أفتح النافذة قليلا، فيندفع هواء بارد يحمل مزيجا من رائحة الأرض المبلولة ودخان بعيد من بيت مجاور. هذا المزيج له طعم الانتقال: ماء ونار وتراب وهواء، في نفس واحد يُصفع أنفي بعناصر الحياة. أستنشق بعمق، وأحاول أن أحفظ اللحظة في منطقة بين الحواس والذاكرة، المنطقة التي لا تحتاج تواريخ كي تثبت نفسها. أسمع في الشارع صوت إطارات تمرعلى إسفلت رطب، احتكاك ناعم يمر ويترك أثرا سريعا في الأذن. العالم يبطئ في هذه الليالي، ويمنح التفاصيل فرصة كي تظهر.

على الجانب الآخرمن النافذة، الأطفال يلعبون تحت المطر الخفيف. يقفزون فوق البرك الصغيرة كأن الماء صديق قديم، تصل صيحاتهم مكتومة، مكسوّة بطبقة من البلل. الأمهات ينادين من الأبواب، والأسماء تتكرر، والضحكات تخرج ثم تعود في شغب طفولي معاند، مثل موجة قصيرة على رصيف الحيّ. أراقب هذا المشهد وأشعر أن الفرح ليس فكرة؛ إنه حركة جسد في اللحظة، قفزة لا تبرّر نفسها. المطر في لعبهم يتحول إلى مساحة، مساحة لتخفيف ثقل الموسم. وأنا، من الداخل، أتعلّم شيئا عن الخفة التي لا تحتاج سببا.حوار أبديّ بين من يريد أن يعيش اللحظة ومن يخاف عواقبها. الأطفال يعرفون شيئا نساه الكبار: أنّ المطر ليس عدوا، وأنّ البلل ليس كارثة، وأنّ اللعب تحت السماء المفتوحة وهي تمطر هو شكلٌ من أشكال الصلاة الروحية. أبتسم وأنا أراقبهم، وأتمنّى لو أستطيع أن أنزل وأقفز معهم، لكن الكبار فقدوا القدرة على الاندفاع السعيد.

المساء يحلّ مبكرا، ويجعل اليوم يبدو كقطعة قماش قُصت أقصر مما يجب. أشعل المصابيح واحدا واحدا، طقس بسيط لمقاومة العتمة، والضوء الصناعي يرسم ظلالا أكثر حنانا على الجدران. يهبط الصمت، ومعه تظهر أصوات كانت مختفية: طنين الثلاجة، حفيف الستارة، دقّ الساعة، تنفسي وهو يجر الهواء إلى الداخل. العتمة ليست فراغا؛ إنها مساحة تكبر فيها الأشياء الصغيرة. في هذا الاتساع، تتسع أيضا القدرة على التأمل دون أن يتحول إلى خطبة. التأمل هنا مجرد جلوس مع العالم كما هو.

أعود إلى المطبخ لأعد عشاء دافئا. أقطع الخضار ببطء: جزر برتقالي، بطاطا بيضاء، كراث أخضر باهت، وأرتبها على لوح التقطيع كأنني أضع ألوانا على لوحة صغيرة. صوت السكين منتظم، ومع انتظامه يهدأ الرأس، كأن الحركة المتكررة تُعيد للداخل إيقاعا مفقودا. حين يبدأ الحساء بالغليان، يرتفع بخار دافئ ويملأ البيت برائحة تشبه الأمان. الطبخ في هذا الوقت من السنة يصبح لغة ثانية: لغة صبر، ولغة انتظار، ولغة دفء يتكوّن بالتدريج. وأشعر أن الشتاء يتسلل من الموقد قبل أن يتسلل من السماء.

على طاولة غرفتي دفتر مفتوح على صفحة بيضاء. الكلمات تأتي أثقل هذه الأيام، كأنها تتعلم المشي في أرض رطبة. أكتب كلمة، أتوقف، أستمع إلى المطر، ثم أعود إلى القلم، فالكلمات لا تستخرج بالقوة؛ تستدعى بالتؤدة. الصفحة البيضاء لا تحاكم، لكنها تفتح باب السؤال: ماذا أخذ هذا العام؟ ماذا ترك؟ ماذا غير في نبرة صوتي حين أتكلم مع نفسي؟ أستسلم لصياغة بطيئة، وأترك لبعض الجمل أن تبقى ناقصة، فالنقص أحيانا جزء من الصدق. الكتابة هنا لا تعلن انتصارا؛ إنها محاولة لالتقاط ما مر قبل أن يتبدّد. لفهم ما حدث، لتسمية الخسارة، لمنح الفوضى شكلًا.

في الليل يشتدّ المطر، يُعيد للأشياء لمعانها الأول. أقف عند النافذة وأراقب الماء وهو يجرف بقايا الغبار، ويحول ضوء المصابيح إلى برك ذهبية تتسع ثم تنكمش، كأن الزمن يختبر شكله الأخير قبل العبور، تمر معه وجوه هذا العام في صمت، من بقي صار جزءا من الإيقاع، ومن رحل ترك أثره في العمق، يعلمنا هذا أن العلاقات مثل الفصول، لا تدان حين تنتهي، إنما تفهم حين تكتمل. أغمض عينيّ وأشكر هذه الوجوه في سرّي، لأن الزمن لا يمنح دروسه إلا لمن عبره كاملا. تقفز في رأسي فكرة بسيطة: أن هذا المطر ليس مجرّد ماءٍ يسقط، إنه عتبة سائلة بين زمنين. يحمل معه كل ما علق بنا طوال العام، يجرفه بعيدا ثم يعدنا بربيع قريب.

يخف المطر بعد الفجر، أصحى على الهدوء، الضوء يأتي على استحياء، كتحولٍ هادئ في نبرة العالم. يتقدم ببطء، يلامس الأسطح قبل أن يكشفها، ويترك للأشياء وقتها كي تستعيد حدودها. في البيوت، تُعد القهوة في أكثر من مطبخ، وتفتح نوافذ متباعدة على الشارع نفسه، ويستعيد المكان إيقاعه المشترك. في هذا الصحو الخفيف نعرف أن العبور لم يكن قرارا فرديا، بل حركة عامة شاركنا فيها من دون تنسيق، كما تشارك المدينة كلها في استقبال المطر.

العام الجديد يدخل على مهل، محاط بأثر من عبروا معنا ومن افترقوا عند المنعطفات. لا يقين كامل هنا، بل احتمال مفتوح، وخطوات تتعلّم وزنها وهي تُوضع. نترك للزمن أن يجد مكانه بيننا، في العادات التي تتكرّر، وفي التفاصيل التي تجمع أكثر مما تفرّق: رصيفٌ تتقاطع فوقه آثار خطوات لا نعرف أصحابها، وأبواب تغلق في أحياءٍ متباعدة بالهدوء نفسه، أرواح تفكر في كيف لأجسادنا أن تحمل هذا الثقل كله، تفاصيل حين تجتمع تعيدنا إلى بعضنا بلا أسماء، وتجعلنا متشابهين في لحظة لا تحتاج تفسيرا، كأن العالم، وهو يتهيأ لعام جديد، يتذكر فجأة أن ما يبقيه قائما ليس ما نعلنه في الضوء، بل ما نفعله بصمت متشابه في الليل نفسه.

هكذا تستمرّ الحركة، باستعدادٍ مشترك لأن نمضي، وأن نترك أثرنا حيث نمرّ، كما يترك المطر أثره في الأرض خفيفا،عميقا، وقابلا لأن يُنبت.

كاتبة وباحثة من المغرب

مقالات ذات صلة

أقسام الموقع