سيرة الاختباء (9)

ممدوح رزق
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

ممدوح رزق

اكتشفت بالصدفة خلال الأسبوع الماضي أنه في يناير عام 2016 وقع واحد من أغرب الأحداث وأكثرها كوميدية بالنسبة لي .. أثناء بحث اعتيادي في ذاكرة فيسبوك فوجئت بأن الكاتبة الفلسطينية سحر أبو ليل قد اختارت جزءًا من روايتي “الفشل في النوم مع السيدة نون” التي أصدرتها دار الحضارة عام 2014، والمنشور في العدد 152 بمجلة أوكسجين، لقراءته في برنامجها الإذاعي على ساوند كلاود .. تكمن الغرابة في أن رواية “الفشل في النوم مع السيدة نون” ليست من الأعمال الأدبية التي يسهل عرض مقاطع منها في الراديو، خاصة الجزء الذي اختارته سحر أبو ليل، أما الكوميديا فتتجسّد في أوضح صورة عند سماعها وهي تقرأ مثلًا بصوتها الرقيق، وأدائها الشاعري على نغمات الموسيقى الناعمة: “كان بإمكاني حل مشكلتي مع الموت نفسه، ولم أكن اضطررت للمجيء إلى حضرتك كي أجلس على كرسي الاعتراف هذا يا عرص”.

على أي حال، إذا كنت اعتبر هذا الحدث الذي لم أعرف عنه شيئًا إلا بعد أربع سنوات من وقوعه غريبًا وكوميديًا بشكل عام فإنني أعلم أنه ليس كذلك بالنسبة لكاتبة جريئة وشجاعة مثل سحر أبو ليل .. لها كل الامتنان والتقدير.

“الفشل في النوم مع السيدة نون” من الروايات التي قد تدعم الصورة الواقعية لكاتبها عند القرّاء الذين يظنون أنهم يعرفونه على المستوى الشخصي .. الذين رأوه متعيّنًا في الحياة، وجلسوا وتحدثوا معه ذات يوم أو في كثير من الأيام .. الذين حينما ينتهون من قراءة رواية كهذه سوف يبتسمون بالثقة اللازمة لطمأنتهم على سلامة وعيهم بالموت، وهم يرددون في أذهانهم، وبين بعضهم البعض: ليس هناك شك في أنه هو، ويدرك نفسه جيدًا مثلما ندركه.

كان إعطاء نسخ من “الفشل في النوم مع السيدة نون” في الأيام التالية من صدورها لـ “أصدقائي” هو اللحظة الأخيرة في علاقتي بهم، حيث قمت بحظر كل واحد منهم على جميع وسائل التواصل في نفس اليوم الذي حصل خلاله على نسخة الرواية مقترنة بابتسامتي المألوفة واتفاق بديهي على موعد اللقاء القادم الذي لم يحدث حتى الآن بعد ستة سنوات .. هذه القطيعة كانت حتمية بالنسبة لي، وكان اختيار توزيع “الفشل في النوم مع السيدة نون” كتوقيت لها يرجع إلى أن قراءتهم للرواية ستكون من ضمن الأسباب الجوهرية للإقدام عليها .. كنت أعلم تمامًا بأنه لن يكون بمقدوري الصمت أمام استجاباتهم القاصرة لـ “الفشل في النوم مع السيدة نون”، والتي يسهل تخمينها، كما أن كل ما يمكنني “قوله” في مواجهة هذه الاستجابات سيمعن ـ ضد إرادتي ـ في تثبيتها.

لأننا رأيناك، وتحدثنا معك، وكنا “أصدقاءً”؛ فإن الاحتمالات تتضاءل للالتفات إلى غير ما نعتقد أننا نعرفه حقًا عنك .. لن نبصر في صفحات الرواية ما يتجاوز التأكيدات على حقيقتك المتداولة في الواقع، ربما بعكس لو لم نصادفك أبدًا من قبل .. لن نفكر في وجوهك الأخرى المغايرة أو المناقضة لذلك الوجه الذي اعتدناه، ولمسنا تطابقه مع ما رسمته أنت نفسك بالكتابة .. لن نتساءل عما وراء غياب الخجل والحذر والانضباط في “الفشل في النوم مع السيدة نون” مقابل حضور العدائية والطيش والمبالغة، كالتي تناولت بها شخصية تلك “الشاعرة” مثلًا.

ربما كان هذا من دوافع ما يشبه plot twist تشكلها هذه الكلمات بالرواية، كأنها جرس تنبيه للتمعّن في “الوجوه المتعددة”:

“لي صديق كاتب قصص قصيرة اسمه (ممدوح رزق)، حينما أخبرته بالأمر أعد لي هدية فرحت بها كثيراً يا دكتور .. كانت عبارة عن مزاوجة بين القصة الأولى في اليوم السابع من (الديكاميرون) لـ (جيوفاني بوكاشيو)، وقصة (المدرسة الداخلية) لـ (أناييس نن) من مجموعة (دلتا فينوس)”.

مقالات من نفس القسم