سيرةُ الخالدين

تمرده كان ملهما
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

عماد غزالي

مضى كثيرٌ من الوقتِ

ونحن هكذا،

لا يُخالجُنا هاجسٌ، غير أننا نحلم.

أجل ..

من المؤكَّد أننا نحلمُ

وإلا

فلماذا تبدو الأشياءُ حقيقيةً

إلى هذه الدرجة:

نتناسلُ،

ولا تعترضُ الأرضُ،

كأنها تتسعُ إلى ما لا نهايةٍ،

نتبادلُ الأنخابَ كلّما طلعتْ شمسٌ

على أجسادِنا،

كأنّ البقاءَ

انتصارُنا الذي يتجدّدُ،

نتحلّقُ على أفواه المقابرِ نُلقِمُها موتانا

الذين نضجت قلوبُهم،

ثمّ نرتدُّ عائدينَ،

لتصافحنا وجوهُهم في كلّ منعطفٍ،

نتبلّغُ

بخُبزٍ أسمرَ ونظيفٍ،

خُبزٍ مُندًّى بعرَقِ نسوتِنا اللاتي نفدتْ أيامُهنَّ

أمامَ الأفران

فلا تصلُ إلينا المجاعاتُ التي طالت

من قبلُ أسلافنا،

تتناكحُ الكلابُ باطمئنانٍ

في طرقاتنا،

تتغنّجُ الجواري في قصورِ

مُلوكنا،

بينما،

في كلِّ زاويةٍ يتأوَّدُ خصيّْ.

 

 

فوضانا منظَّمةٌ،

ومنذ زمن بعيدٍ تصالحنا

مع الهدوء،

ومع موجات الضجيج المتتابعة

في مدينتنا هذه

والتي لا نعرفُ غيرَها

رغم ما تُنبئنا به الحكاياتُ العجيبة،

وعازفو الربابةِ البسطاء

عن مدنٍ كثيرةٍ، تتوزّعُ في كل اتجاه

خلف الأسوارِ العاليةِ

هناك

حيث تنتهي حدودُنا الآمنة.

 

 

تاريخُنا،

سجَّلهُ الكتَبةُ من قديمٍ،

وردّدهُ المعلّمونَ على آذاننا حين

كُنّا صغارًا،

فأدركنا -دون مشقّةٍ- كم نحن

خالدونَ

وإلا

فكيف استطعنا أن نصنعَ مجدًا

كهذا؟

 

 

شمسُنا، تطلعُ من عينٍ حمئةٍ

في كل مرةٍ يتناطحُ فيها الثورانِ

الهائلانِ؛

الثوران،

اللذان دأبا على حمل مدينَتَنا

هكذا

أخبرَنا قائدُ الجُند،

حين سنحت للرجلِ

فُسحةٌ مناسبةٌ

في وقته الثمينِ الذي تتوزّعه

المهامُّ الجسام،

تلك التي لا قِبلَ لنا بتتبُّعها،

أو حصرِها.

 

 

بشفافيته، قالها:

” لسنا وحدَنا على هذه الأرض يا أبنائي “

لم يعترض جنودُنا أيَّ واحدٍ من الرعية

جرّهُ الفضول،

ليستطلعَ ما وراء الأسوار

غير أنّ هذه العادةَ الرديئة،

شيئًا فشيئًا،

كانت تتبخّرُ من تلقاء ذاتها،

حتى أنَّ واحدًا من الفضوليين هؤلاء

لم يتسنَّ له أن يعودَ مرةً ثانية.

 

 

وحين انهمرت الصواعقُ علينا

من كل ناحيةٍ

الشهادةُ للهِ، لم يحاولِ الكذب

لم يقُلْ مثلا، إنها شررٌ متطايرٌ

من تناطُحِ الهائليْن،

بل آثر أن يضعَنا مباشرةً قدّامَ

الحقيقة:

“هؤلاء – يا أهل مدينتنا –

بشريّونَ قُدامى،

لقد سكنوا

الناحيةَ الأخرى من العينِ الحمئة،

حيث سُخِّرت لهم شياطينُ،

وسُجِّرت أبحرٌ،

وباضت حيتانٌ خرافية،

ثمّ قدروا على امتشاق العقبان،

حتى

دالت لهم مملكةٌ مخيفةٌ

من العنقاوات”.

 

 

أطرقَ القائدُ قليلا،

ثمّ داخَلَ صوتَه خشوعٌ عميق:

“لكنّ الصحائفَ تُخبرنا أنهم

إلى زوالٍ،

وأنّ حجارةً سوف تنطقُ ذات يومٍ

لتدلَّنا عليهم،

سننتظر،

سننتظرُ فحسب حينًا سوف يترجّلون فيهِ

عن متون العُقبان”.

 

انكشافُ الأمور أمام أعيننا تباعًا

بهذا الوضوحِ المثير

جعَلنا مطمئنّين إلى المستقبل،

فلم يعد يعكّر صفو رؤيتنا جهلٌ

ولا غموض:

أطفالُنا الذين يسقطون صرعى

الصواعق،

نعوّضهم الآن بسرعة،

وها نحن نضاجعُ نساءنا تحت الأزيز.

شيوخُنا الذين كانوا قد أصابهم القرح،

خَصُبتْ أعضاؤهم،

فلا شبحٌ هنا للبوار.

لم يعد يُقلقنا سوى ذلك الهاجس،

نتهامسُ به،

بين حين وحين

ولولاه

لكانت سعادتُنا كاملةً فعلا.

 

 

في الليلةِ الفائتةِ

توهّجتِ السماءُ فجأةً،

لم أجد حولي أحدًا من جيراني حين

هدأت الصواعق،

لم أجد دورَهم ولا أطفالَهم،

تبدّل ثباتي قليلا:

عبرتُ امرأتي،

حملتُ على كتفي طفلي الوحيد،

أخذتُ أرقصُ وأصيحُ بين الحرائق،

وأنا أحلمُ

بشكل الحياة حين ينتهي القصف.

كانت تعربد فيَّ وقتها رغبةُ اجتلاء

الحقيقةِ بنفسي،

أجل بنفسي،

حتى لو اضطررتُ إلى الخروجِ من بين

الأسوار العالية

صوبَ الناحيةِ الأخرى،

ولم أعُد.

 

 

 

مقالات من نفس القسم

خالد السنديوني
يتبعهم الغاوون
خالد السنديوني

Project