ربما يكون من الواجب أن نقسم تلك المقالة في نقد العمل إلى ثلاثة أقسام: حبكة الرواية الرئيسية، أسلوب الحكي الذي اعتمد البوليفونية (تعدد الأصوات) وأخيراً شخصيات الرواية نفسها.
وقد اتسمت تلك العوامل الثلاثة بالسمة ذاتها، فتكاد تشعر عند تأملك لكل منها، أن صوتاً عميقاً يطل عليك من خلف السطور أو من فوق كتفك، يتلصص على دهشتك، ويبتسم لضيقك، ويذكرك كل فينة والتي تليها، بأن شخصاً ما.. يعرف أكثر منك!
بداية اختار الكاتب “أشرف العشماوي” لحبكته زمناً يبدو محبباً لقلبه، وهو أربعينيات وخمسينيات القرن الماضي، ومكاناً سبق وأن خبره بكتاباته السابقة الناجحة وهو وسط البد والزمالك بمدينة القاهرة، وهما، برغم تنوع الأزمنة والأمكنة بالرواية، يبدوان هما المهد والأرضية التي تقف عليها شخوص الرواية، حتى الشباب منهم على قلتهم. زمكان ذو بريق لا يمتنع، يحتضن حدوتة مشوقة متشعبة، عن سطو بليل على أحد أثرياء الزمالك المعروفين، كما تشي بذلك كلمة الغلاف الخلفي للرواية، المليونير اليهودي “شيكوريل”.. وسارقين متعددي الهويات والمشارب والخلفيات، يراوحون بين وسط البلد والاسكندرية وريف مصر الفقير، لكن الحدوتة تتشعب على مدار الحكي المتبادل بشكل يثير الشهية في بدايتها حتى تحسب أنك أمام وجبة مثيرة من الأحداث المتلاحقة، التي لا تلبث أن تهدأ كشاشة “حفظ الشاشة” التي يظهرها لنا الحاسوب عندما نطيل من فتحه دون أن نلمس زراً أو نحرك الفأرة!! ثم، وبعد فترة انتظار طويلة.. شغلنا خلالها العشماوي بقصص فرعية، كانت يمكن ـ لولا ضعف نسجها ونمطيتها التي تكررت من قبل عشرات المرات ـ أن تسرق الكاميرا من الحدوتة الأصلية، فتضيفان لبعضهما قوة على قوة، دون أن تدري أيهما الحدوتة وأيهما الكواليس.. تفشل الرواية بعد نفاد صبرنا في ربطنا على الأقل بالحدوتة الأصلية من فرط ترهل أحداثها وتجمد عجلة أحداثها على قضبان الصفحات.. وتفشل أيضاً في كشف الحبكة بشكل سلس، حيث ظل المؤلف ينفخ فيها بتفاصيل متشابكة من القوانين والألاعيب الخاصة بالمحامين، وقصصاً مختلفة تنتمي لزمن ماضٍ وكأنه يستعرض لنا قدرته على الإلمام بوقائع تاريخية من زمن الأجانب في مصر ومصير أملاكهم وأراضيهم وثرواتهم، وكيفية سطو بعض المصريين عليها.. وربطها معاً في إطار قصصي، حتى تاهت الحبكة واضطر العشماوي نفسه أن يقحم حلولاً فجائية لروايته، في توقيتيات حرجة قبيل النهاية، مثلما فوجئنا بـ “ناديا” تهجر مصر ببساطة إلى “باريس”، لشقة من شقق “عباس المحلاوي”، وتخبرنا ببساطة أنه شقة لم يكن أحد يدري بوجودها، دون أن تخبرنا كيف تناهى ذلك لعلمها، من فم “عباس” الذي كتم عن الجميع ثروته طول حياته، والذي أصيب بجلطة وخرس أقعداه في النهاية فصار عاجزاً عن البوح لها بأي شيء، حتى عن ثروته.. وهو ما حرص الكاتب على إظهاره في مشهد مهيب تحكيه “ناديا” في معرض الأحداث بنفسها!! وكأن الكاتب هو نفسه قد تعب من الحبكة التي بدت كبناء متشابك عظيم واعد في البداية، بينما انتهت الرواية في هيئتها كقصر منيف طال زمن تشييده، لكنه انتهى مصمت الجدران لا يرى سكانه النور، ولا يجد والجوه مفتاح بواباته بسهولة.. لكن الصوت الخفيض يصل إليك بوضوح في تلك اللحظات ويهمس لك بتشفٍ قائلاً: “ألم أخبرك أنني أعرف أكثر؟” تتصل ضحكات الصوت العابثة بأسلوب الحكي في الرواية، فهناك، في مكان ما بين السطور، يبدو أن هناك حرص على الإتيان بتشبيهات “جديدة”، مثل “قوسي الهلال”، والإتيان باستعارات مكنية “مذهلة”.. كـ”نسبح فوق بحيرة الفشل فمن تعلق بإطار النجاة وصل إلى الشاطيء”.. لكن الحقيقة أن ذلك، فضلاً عن تكرار الوصف للشيء الواحد بعدة كلمات، كمن يتغزل بالشيء أو معناه، لم يبهر القاريء في شيء، بل وأسهم في جعل فقرات كاملة يمكن تجاوزها والقفز منها للتي تليها دون خسارة شيء يذكر، أو فقدان معنى مهم، أو حادثة مؤثرة.. ولعلنا نبرأ بالمؤلف أن يكون لجأ لذلك حرصاً منه على استعراض مهاراته اللغوية التي “يعرفها أكثر”.. فلربما عبرت عن إحساسه بالوصف أو الموصوف، لكنها على أية حال، آذت النص كثيراً بأكثر مما نفعته قليلاً في مشاهد بعينها، مثل وصف مباني ومحال وسط البلد، أو الجمال المعماري لفيللات الزمالك.. شخوص الرواية تبدو لغزاً يصيبك بحيرة شديدة، فبينما يقتضي الإنصاف أن نمتدح بناء شخصية “زينب”، وكيفية تصاعد خطها الدرامي بشكل مقنع، ورسم ردود أفعالها في رحلتها من القاع للقمة وسط سيدات الزمالك، والحفاظ على تناسق شخصيتها مع ردود أفعالها بدقة وتركيز.. أن نسجل إعجابنا بالتداخلات التاريخية المحاكية للشخصيات الحقيقية لأصحابها، والتي جسدها تمثيل شخصيات الرئيسين جمال عبد الناصر وأنور السادات، بشكل هاديء مقنع وفارق في ذاكرة القارئ.. وكذلك شخصيات رجال الجيش إبان أحداث النكسة، والوصف الخلاب لمشهد ركوب القادة لسيارة التاكسي قبالة مطار ألماظة، يقتضيه أيضاً أن نوجه كل اللوم للبناء المهتريء لشخصيات رئيسية مثل “طارق”، و”مراد”.. وهي شخصيات أراد لها النص أن تكون رئيسية.. بداية لا نستطيع أن نغفل التشابه، أو لنقل التأثر، بشخصية “طه”، ابن حارس العقار في رواية “عمارة يعقوبيان” لعلاء الأسواني، وبين شخصية “طارق” في سيدة الزمالك.. الأمر نفسه يسري على شخصية “مراد الكاشف” في الرواية، وشخصية الضابط العسكري الصارم، زوج الجاسوسة ماتا هاري، في رواية باولو كويلهو الأخيرة “الجاسوسة”..
التشابه المثير للانتباه ينطوي على نفس النمط في الشخصيتين: التطابق في البدايات والسمات المميزة، ثم لي الشخصية ومقاديرها في اتجاه معاكس.. فبينما اعتقل طه كمعتقل سياسي ومورست عليه صنوف التعذيب على خلفية حبه لابنة الجيران الأعلى بطبقة اجتماعية واحدة، فخرج ناقماً منتقماً من كل ما ينتمي للشرطة، حتى نجح بالفعل في انتقامه، كانت لـ”طارق” نفس البدايات مع حبه لــ”ناديا” الأعلى طبقياً بمراحل هذه المرة، مورست ضده نفس صنوف التعذيب لنفس الأسباب، مع مغالاة الكاتب في تحويل كل حواديت المعتقلين إلى وقائع لها سمت الحقيقة من تعذيب بالماء وحرمان من النوم والإهانات وأنياب الكلاب.. بتفاصيل مسهبة بغير داع، غير أن طارق، وهذا هو الفارق الذي جانب الكاتب الصواب في انتهاجه، يخرج منكسراً بعنف، حتى أن جلاده يظفر بحبيبته، فلا يغلي الدم في عروقه عند رؤيته، بل ويهرب من أمامه، وينخرط، كما هو متوقع من تلك الشخصية النمطية بامتياز، في تنظيم إرهابي، لكنه لا يبدو مقتنعاً بما يفعله عن نزعة انتقام مثلاً، ولا رافضاً للسعة من ضمير.. بل هو منجرف يتفرج على الأحداث مثلنا، بينما يضيف الكاتب تلك البهارات المحفوظة، والتي طال انتظارها متى تظهر على هيئة حوار.. حينما يجعل الشخصية تلوم على من دفع به لهذا الطريق، ويتساءل كم سوف يصبحون مثله بعد؟ فلا نفهم حقيقة، بعد انتظارنا لتلك الأكلشيهات طول الوقت، ما الذي يريده الكاتب حقاً، أو ـ في حالة أن سلمنا بأن الرواية البوليفونية لا دخل للكاتب فيها وإنما هي شخوص تتكلم ـ ماذا يريد “طارق” حقاً؟ أما “مراد” فقد آذاه التشابه بأبعد مما شوه شخصية طارق. فالشخصية العصبية الغيور الصارمة، التي تكاد تفتك بكل من يحادث أو يقترب من امرأته.. التي تمارس الحياة الزوجية كفعل روتيني بلا شعور، لا تلبث أن تتكشف لنا جوانبها وأفعالها، فلا نجد داعياً لذلك الوصف الأولي، وتلك السمات التي حرص الكاتب على إلقائها في روعنا بدقة وإخلاص، فلا علاقة ملموسة لها بالشخصية في مسارها، ولم يكن لينهار بناؤها لو تم حذفها والاكتفاء بتفاعل الشخصية مع من حولها، وسردها الممتع أحياناً.. سوى التأثر بـ”كويلهو” والثقة في وجاهة وصفه للسمت العام للشخصية العسكرية، وأنه لابد وأن يثمر عن تحديد مفيد ووصف رائع، لا يجب التخلي عنه حتى لو بمحاكاته. لكن الواقع أثبت أن ذلك غير صحيح.. بل وأننا لم ننبهر بذلك الوصف الذي أريد له أن يكون مبهراً.. وجدياً، أو أن المؤلف “يعرف أكثر!”..
سيدة الزمالك تبقى رواية ذات حبكة مشوقة، وفكرة ممتازة، أفسدتهما تعقيد الحادثات، وتنميط الشخوص البالغ، واستسهال الكتابة قبل الاختمار.