سيدات الرواية الألمانية: من التهميش إلى الصدارة

فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

بولص آدم

  في المشهد الأدبي الألماني، كان حضور المرأة طويلًا أقرب إلى الهمس منه إلى الصوت. صفحات التاريخ تفيض بأسماء الرجال: غوته، شيلر، توماس مان، غونتر غراس… بينما تختفي النساء كأنهن لم يكتبن أو كأن كتاباتهن لا تستحق الذكر. لكن الحقيقة أنهن كتبن، وبكثرة، وابتكرن أساليب، وفتحْن نوافذ جديدة في الرواية والشعر والفكر، غير أن هذه الأصوات تعرضت لمحو متعمد أو غير واعٍ، حتى بدا أن تاريخ الأدب الألماني كُتب بخط رجولي صرف.

نيكول زايفرت، الكاتبة والناقدة، التقطت هذه الفجوة في كتابها الصادر عام 2021، «أدب النساء – مُحتقَر، منسي، مُعاد اكتشافه». في مقدمة عملها، تطرح سؤالًا يبدو بسيطًا لكنه يهزّ بنيان النقد الأدبي كله: لماذا اختفت أعمال الكاتبات من المدارس، من الكانون الأدبي، ومن النقاش العام؟ والكانون الأدبي هو ببساطة قائمة الأعمال التي يعتبرها المجتمع الثقافي “أساسية” أو “كلاسيكية”؛ الأعمال التي تُدرَّس وتُقرأ وتُستشهد بها كنماذج للكتابة الرفيعة، بينما تُهمش باقي الأعمال، حتى لو كانت مبدعة. تجيب زايفرت بأن «أجزاء كبيرة من الكتابة النسائية طُمست. إذا حاولنا أن نؤسس اليوم لكانون جديد، فإننا نصطدم بفراغ هائل حيث كان ينبغي أن تقف أصوات النساء». ما قالته ليس مبالغة، بل توصيف لواقع امتد لقرون: عندما كتب الرجال عن اليومي والعادي والتفاصيل الصغيرة، صُفق لهم باعتبارهم واقعيين أو حداثيين؛ وعندما كتبت النساء عن ذات المواضيع، وُصمت كتاباتهن بالسطحية أو التافهة.

الغلاف نفسه كان بمثابة بيان بصري: كلمة «FRAUEN» (النساء) مشطوبة بخط، كما لو أن الكلمة محيت عمدًا، لكنها في الوقت نفسه ما تزال مقروءة. هذا الشطب يختصر تاريخًا طويلًا من التعتيم، ويحوّله إلى رمز: محو النساء لم يكن كاملًا، وظل أثرهن حاضرًا، ينتظر من يعيد قراءته واكتشافه.

المسار التاريخي للرواية النسائية الألمانية

  حين نعود إلى البدايات، نجد أصواتًا نسائية تجرأت على الكتابة في زمن كان الأدب حكرًا على الرهبان والعلماء. هيلديغارد فون بينغن في القرن الثاني عشر، وهروتسفيت من غاندرشيم في القرن العاشر، كتبتا نصوصًا دينية ومسرحية، لم تُعتبر يومًا جزءًا من الأدب “الكبير”، لكنها مثلت نواة لكتابة نسائية مبكرة.

في القرن الثامن عشر، جاءت صوفي فون لاروش بروايتها قصة الآنسة فون شتيرنهايم (1771)، والتي ألهمت حتى غوته وشيلر. لكن مكانتها لم تُرسخ، وسرعان ما جرى وضع خط فاصل بين “الأدب الراقي” و”الأدب التافه”، حيث جرى دفع معظم الكاتبات إلى الجانب الثاني. القرن التاسع عشر لم يكن أكثر رحمة: النساء كتبن روايات شعبية تُنشر في المجلات وتُقرأ على نطاق واسع، مثل أعمال مارليت وهيدفيغ كورثس-مالر، لكن النقاد تعاملوا معها كأدب دوني. وحدها بعض الأصوات، مثل غابرييله رويتر في، من عائلة جيدة (1895)، حاولت كسر هذه الثنائية، وربط الأدب النسائي بالطموح الفني والجمالي.

في عشرينيات القرن الماضي، بزغت صورة “المرأة الجديدة”: عاملة، مثقفة، مستقلة، كما جسدتها نصوص فيكي باوم وغيرهن. لكنها مرة أخرى قوبلت بالاستخفاف، باعتبارها “أدبًا نسائيًا” لا يرقى لمصاف الإبداع الرجولي. لم يكن النقد بريئًا أبدًا؛ كان أداة لإعادة إنتاج السلطة الذكورية داخل الأدب.

ثم جاءت السبعينيات، ومعها موجة الأدب النسوي التجريبي في ألمانيا الغربية، حيث كتبت نساء مثل فيرينا شتيفان نصوصًا عن الحياة اليومية، الجسد، والرغبة في التحرر. ارتبطت هذه النصوص بحركات اجتماعية أخرى، وأدخلت لغة جديدة إلى الأدب الألماني، لغة تستمد قوتها من التفاصيل المهمشة نفسها. في الثمانينيات والتسعينيات، أضافت إلفريده يلينيك عمقًا نقديًا حادًا، وصل إلى جائزة نوبل، بينما حملت إيمينه سفجي أوزدامار أصوات المهاجرين والآخرين إلى قلب الرواية الألمانية. ومنذ ذلك الحين، صار حضور المرأة في الأدب لا يمكن إنكاره.

النقد الأدبي وبنية التمييز

  لكن حتى وقت قريب، ظل النقد الأدبي في الصحافة والمجلات الثقافية يغطي أعمال الرجال بنسبة ساحقة. الدراسات أظهرت أن ثلث المراجعات فقط كتبتها نساء، وأن النقاد الذكور ركزوا 75% من تغطيتهم على أعمال ذكور آخرين. حتى عندما يلتفتون إلى نصوص نسائية، كانوا يضعونها في إطار “الذوق الأنثوي”. أحدهم وصف رواية لـجويس كارول أوتس بأنها كتاب قد يعجب زوجته أكثر، وآخر ــ هيلموت كاراسك ــ حين فازت أليس مونرو بنوبل، قال ساخرًا إنه لم يقرأ لها شيئًا رغم أن زوجته توصي بها منذ سنوات. هذه الملاحظات العابرة تكشف بنية عميقة من الاستهانة.

أحد أبرز الأمثلة جاء من الناقد الشهير مارسيل رايخ-رانيكي، الذي وصف الرواية الألمانية النسائية بأنها أقل قيمة، معتبرًا أن موضوعات مثل الأمومة أو الحياة اليومية لا تستحق أن تُدرج ضمن الأدب “الجاد”. زايفرت ترى في ذلك تجسيدًا للمعيار المزدوج: عندما يكتب الرجال عن اليومي، يُحتفى به، وعندما تفعل النساء، يُحتقر.

من الغياب إلى الصدارة

  المشهد اليوم مختلف تمامًا. في العقدين الأخيرين، لم تعد المرأة مجرد صوت جانبي، بل أصبحت في صدارة الجوائز والمنابر. تيريزيا مورا حازت جائزة الكتاب الألماني عام 2013، ثم جلست على رأس لجان التحكيم. ميليندا ناوتا فازت بالجائزة نفسها عام 2017، وأنتيا هينينغز عام 2022. أما جيني إربنبيك، فقد عبرت الحدود كلها حين فازت بجائزة البوكر الدولية عام 2023، لتثبت أن الرواية الألمانية النسائية لم تعد قوة محلية فقط، بل أصبحت جزءًا من الأدب العالمي.

هذا التحول لم يكن وليد الصدفة، بل نتيجة مبادرات واعية مثل مشروع #إحصاء_النساء، الذي حوّل الإحساس بالتهميش إلى أرقام، كاشفًا هيمنة الذكور في التغطية النقدية. نينا جورج، الكاتبة ورئيسة المجلس الأوروبي للكتاب، قالت: «الهاشتاغ #إحصاء_النساء وُلد لتبيان أن النساء يُحسبن، وأن إنجازاتهن تسهم في المجتمع كله».

إلى جانب ذلك، انطلقت مبادرات عملية لإعادة اكتشاف النصوص المنسية، مثل سلسلة الاكتشافات التي أطلقتها زايفرت وماجدا بيركمان عام 2023، حيث يُعاد نشر نصوص نسائية منسية من القرن العشرين، في محاولة لرد الاعتبار لأدب تم تجاهله عمدًا.

خاتمة

  من الرهبنة الصامتة في القرون الوسطى، إلى محاولات الروائيات الشعبيات في القرن التاسع عشر، إلى التجريب الجريء في السبعينيات، وصولًا إلى منصات الجوائز العالمية اليوم، قطعت المرأة الألمانية في الأدب مسارًا طويلًا ومرهقًا. الأدب الذي وُسم يومًا بأنه “تفاصيل نسائية ضيقة” أصبح اليوم قلب الرواية الألمانية الحديثة. الكاتبات لم يقتصرن على المشاركة، بل أصبحن قادرات على إعادة تعريف الكانون الأدبي نفسه، ومن خلاله إعادة تعريف صورة الأدب الألماني كله.

إنها رحلة من المحو إلى الاعتراف، من الهمس إلى الصوت العالي، ومن التهميش إلى الصدارة. وما كان يومًا ظلاً في تاريخ الأدب الألماني، صار الآن جزءًا لا يتجزأ من نوره.

ولعل ما يضاعف من أهمية هذا المسار أنه ليس حكاية ألمانية فحسب، بل مرآة تعكس واقع الأدب في ثقافات أخرى، من بينها الأدب العربي الذي شهد بدوره تحولات مشابهة. حين نتأمل المشهد البانورامي، نجد أصواتًا نسائية عربية وعالمية دفعت ثمنًا باهظًا كي تكتب عن الجسد، الحرية، والذات، من نوال السعداوي، وامتدادًا إلى هيلاري مانتل، توني موريسون، وأورهان باموق وآخرين، حين التقت رؤى النساء والرجال على عتبة التغيير. كلها تجارب تشير إلى أن الكتابة لم تعد ملكًا لجنس دون آخر، بل حقلًا إنسانيًا مفتوحًا على إعادة اختراع العالم.

وهكذا، فإن تاريخ النساء في الرواية الألمانية ليس مجرد صفحة محلية أُعيدت قراءتها، بل هو جزء من تيار عالمي يكشف أن الإبداع حين يتحرر من قيود التهميش والتضييق يصبح أداة للتحوّل، للعدالة، ولإعادة صياغة صورة الإنسان في الأدب. وما فعلته الكاتبات الألمانيات هو أنهن أضأن الطريق، وأثبتن أن نصف البشرية حين يكتب، يعيد إلى الأدب نصف صوته الغائب.

مقالات من نفس القسم