سياقات المكتبة والكتابة في زمن الحرب

فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

د. محمود عبد المجيد عساف*

سمعنا وقرأنا لفترات طويلة الكثير من العبارات التي يدل مضمونها على أن الثقافة ومشتقاتها مقاومة، وأن الكتب والمكتبات مظاهر حضارة تمثل أقصر الطرق للصمود والتحدي. لكن للأسف لم يكن الوعي بهذه العبارات على مستوى الآثار التي ترتبها الحرب.

الحرب عادة ما تفرض خطاباً قادراً على الإقناع بما هو غير حقيقتها، أو إظهار غايات غير صحيحة في سبيل كي الوعي القديم، وفرض أنماط سلوك أو تفكير جديدة تتماهى معها. فالحرب أساساً هي اعتداء على كل شيء، الحجر والشجر والبشر،والفكر والحقيقة، لذا فإن خطابها لا يتورع عن تشويه التاريخ وصنع أقنعة تسير بها معاني الاعتداء وتقلب معها الموازيين.

فمثلاً، الخطاب المعلن في الحرب الاسرائيلية على غزة يكرس أنها (دفاع عن النفس)، وبهذا الخطاب يمحو الاحتلال تاريخاً عاشه الشعب الفلسطيني من الظلم والاضطهاد، ويعظم قناعات البعض بحق إسرائيل في أرض فلسطين أو أننا كيان غير شرعي متعدي على السكان الأصليين.

ضد هذا الفعل يكتسب الكتاب والثقافة معنى المقاومة وسمات النضال، ومواقف المعارضة لما تسببه الحرب على المستوى الخارجي أو الداخلي، وآليات مهمة لتنقية المفاهيم وتوضيح المعاني وكشف الحقائق في الوقت الذي ضاعفت فيه التكنولوجيا الحديثة من قدرة الإعلام وأثره المضمر، كما تجسد المكتبات (العامة، الخاصة) صوراً من صور الوعي الجمعي بما تتضمنه من مصادر معرفة، وتقوم بدور في تعزيز الوعي حول ما يحدث في العالم ورفع قدرة القراء على تأويل ذلك، فهي من وجهة نظر العلوم الأنثروبولوجية ترمز الى الثراء البشري.

إن للكتابة الحرة -غير المأجورة- أو للثقافة المشتبكة خطابها ودورها المقاوم في تفكيك أفعال وأقوال وممارسات العدو -أي ًكان- وإظهار الحقائق حول مبررات الحرب وأسبابها، وهي دفاع عن حياة الضحية وإبراز لدور اللغة في فضح أيدولوجيا الحرب التي تجعل من المعتدي صاحب حق، ومن الغازي لشعب آمن في دياره حضاريا، ومن المدجج بأسلحة الدمار الشامل حمامة سلام. وبهذا كان خراب المدن في الحروب مقروناً بحرق المكتبات أو هدمها أو حتى جعل إعادة إعمارها في ذيل المهام والاهتمامات، لما تمثله من بنيان تحديثي وثقافي قادر على صقل الوعي الذي أكله الجوع والقهر والفقد.

تجدر الإشارة إلى أن حرق المكتبات أو هدمها أو القضاء على رمزيتها ليست بالضرورة أن يكون مادياً، فيكفي أن يتجرأ السلوك الإنساني على التقليل منها أو الاستخفاف بدورها بسبب أو بفعل وآلات الحرب أو المصلحة الإنسانية اللحظية.

وبعيداً عن دور المكتبات في مساعدة الكتاب والباحثيين والمؤسسات في التخطيط للسياسات العامة واستراتيجيات التطوير، ويرفع مستوى الوعي والثقافة كفعل أيدولوجي مستمر، وكأثر حضاري لا يمكن تجاوزه، فإنها تمثل رافداً حقيقياً لتطوير رأس المال الفكري، ومرجعياً بديلاً للمؤسسات التعليمية، خاصة إذا ما حافظ بعض الكتاب والمثقفين على دورها في إعادة النظر في وضع المعرفة والتسلسل الهرمي للقيم.

كل ما سبق، يدفعني دون تردد للحديث عن دور المكتبات في تمكين المجتمعات من الوصول إلى المعلومات المفيدة، وذات الصلة بمشكلاتهم اليومية أو الحياتية خاصة المجتمعات الفقيرة التي تسعى للحصول على أفضل القرارات التي تمكنهم من البقاء والاستمرار حتى في أوقات الأزمات، الأمر الذي يرتبط في نهاية المطاف بمدى توافر مؤشرات التنمبة المستدامة ، ويعزز قدرة أصحاب الكتابة على استكمال دورهم الابداعي.

ففي الوقت الذي تدمر فيه الحرب قيماً ثقافية كانت تتبلور في إطار مجتمعي يتركز الصراع فيه على عوامل مادية او مطلبية، لن تستطيع الكتابة الإبداعية إنقاذ هذا التحول القيمي دون مكتبة او كتاب.

إن الكتابة الأدبية في زمن الحرب معاناة شائكة، ليست سخية لأنها قائمة على لحظة مفارقة، وأيام مقارنة بين حياة المجتمع المدمرة وبين فيض المشاعر النوعية الموثقة لمضامين الثقافة. لهذا تكتسب النصوص الأدبية المكتوبة في الحرب صفة المرجع، لأنها غالباً ما تكشف عن ذواتنا ومدى هشاشتنا او صمودنا، وبذلك تكون مادة دسمة تشهد على ذاتها، ولا تحتاج إلى فحص أو تدقيق. لكن هذا لا ينفي الذائقة الأدبية عند القارئ الذي يستطيع التفريق بين الكتابة المبدعة والكتابة العابرة (الموقفية)، بين الكتابة الأيديولوجية التي تحمل بين سطورها خطاباً، والكتابة السطحية المرتبطة بترتيب المشاعر الإنسانية.

وعلى الرغم من تجلّي الصراع بين الظالم والمظلوم  في هذه الكتابة (الشعرية، النثرية)، وتقمص الكاتب دور المظلوم (البطل) ااذي يبحث عن حقه في الحرب ، إلا أنه غالباً ما ينهزم أمام عالمه الوجداني المتعاطف ليكون أحادي الرؤية والموقف، الأمر الذي يخلق حالة من الشك حول ما يكتب عند بعض المؤمنين بخطاب الحرب المؤدلج.

خلال الحرب على غزة منذ السابع من أكتوبر 2023م، ركزت الكتابة الأدبية على حجم الانتهاكات التي مارسها الاحتلال بحق المدنيين العزل ، كصورة من صور إيصال الحقيقة أو تثبيت الرواية الصحيحة لما يجري ، أو على تحميل المسؤولية لمن أوجد ذريعة وغطاءاً دولياً مزيفاً لاسرائيل لتقوم بالإبادة الجماعية وجرائم. الحرب، ونادراً ما حاولت التأصيل لفكرة الحق المشروع في تقرير المصير أو البرهنة على التخاذل الدولي والصمت العربي على ما يجرب بحق الفلسطينيين، وبهذه الحالات أرى أن الكاتب قد مات في تحولات الحرب ليولد نص شاهد على زمن أرغم على إلغاءه.

ومع هذه التحولات التي غلب عليها تبني صورة الدنار المادي، ندرت الكتابة التي تناولت الدمار المعنوي، دمار القيم والمبادئ، والسقوط المدوي للعلاقات الاجتماعية والأسرية، الأمر الذي حجّم السياق السردي وأفقد الكتابة الواقعية التوالي في النتائج.

ولأن الكاتب يجب أن يكون مجساً للمجتمع والواقع الذي يعيش فيه، فالأجدر أن تكون كتابته عن الوجع المسكوت عنه، وذلك كي لا يكون مجرد راوٍ يقتصر دوره على ترجمة المشاهد الى نصوص.

إن أهم ما يميز الكتابة الأدبية في الحرب أو خلف الخطوط أنها تعود بالكاتب إلى مصدر اللغة ،تعود لتسأل من جديد عن وجهة الزمن، وكيف يمكن أن تتلخص كل الآلام في سطور، ولهذا يبدو بعض الكتاب واقعيين حد الاندماج ويبدو البعض الآخر منفصمين عن الواقع بسبب افتقادهم للتجربة أو الشعور المباشر للأحداث.

لا مجال للشخوص أو الشخصيات في هذا النوع من الأدب، لأن الحدث عام، لكن قد تظهر بعض الأيقونات التي تستحق أن تتصدر النصوص، وهنا تبدو الكتابة جسداً لغوياً له شكل نقابة الموتى يحاكي الذاكرة الجمعية ويبقى بلا مرآة تعكس الآلام.

وعلى كل الأحوال تبقى الكتابة خلال الحرب شكلاً من أشكال الحزن المخزن ونوعاً من أنواع تفصد الروح، وذلك لأنها تأتي في ظروف غير طبيعية وفي اجواء يتغول فيها الخوف والرعب والجوع على حياة الكاتب، وأقصد هنا الكاتب الذي يعيش الحرب وليس الذي يشاهدها من بعد.

ولكي يبقى للكلمة دورها وللكتابة أثرها وجب على الكاتب أن يتماهى مع بكاء الناس وأن يفصح لهم عن آلامهم المكبوتة، وهنا يمكن أن يدخل الإبداع من باب الجوع المصحوب بالبكاء، فالكتابة عن الإنسان هي أصل الكتابة الإبداعية.

………………….

*كاتب من غزة

 

مقالات من نفس القسم