سوزان عليوان.. المتأملة طويلاً في محراب الحقيقة

موقع الكتابة الثقافي
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

(1)

   بالنظر إلي غلافي الديوانين الأخيرين للشاعرة اللبنانية سوزان عليوان (معطف علّق حياته عليك 2012) و(الحب جالس في مقهي الماضي 2014)، نجد أن المقارنة بينهما تفرض نفسها بحيث لا يمكننا تجنبها، ففي غلاف الديوان قبل الأخير نجد حالة دافئة وحميمية تشي بأملٍ ما أو بإرادة امتلاكه علي الأقل، كما يظهر في البيت الأخير من الديوان "شجرة لا يؤرقها سوي ما يورق فينا" إذن هناك شيئاً ما يورق ويعد بالخير الآتي ، وذلك علي عكس الديوان الأخير كما سيتضح لاحقاً .

  نجد علي الغلاف رسماً لبرج إيفل بالإضافة إلي الأزرق الذي يهدر في الخلفية، ويوجد البني الحازمبخطيه اللذين خرجا من الحافة كي يُحضرا الأحمر أو قوة الحب إلي المشهد ليطغي علي الأصفر- المتواجدبنسبة قليلة علي أية حال- ثم كرسي وطاولة تحمل كأسين في إشارة إلي “حدث اللقاء” كما يسميه آلان باديو، أيضاً توجد حراب أو سيوف تنفذ إلي مركز الدائرة التي بدأت تنزف، ربما في إشارة الي السكين الذي وردذكره في قصيدة تشرين الثالث”توأما كأس وسكين/كلام أكثر من العمر“.

أما الغلاف الخلفي فقد تم تقسيمه طولياً بين اللونين الأبيض مع رسم برج إيفل والأحمر مع رسم الكأسينأو بعبارة أخري تم تقسيمه بين نقاء الحب وحميميته، بين الجمال والشغف.

  أما غلاف الديوان الأخير فيحمل وجهاً لملاك رسمته عليوان من وحي وجه ملاك مرسوم بالطبشورالأبيض علي جدار في باريس لفنان مجهول، ونلاحظ أن وجه الملاك يحتل الغلاف الأمامي بالكامل فيإشارة إلي محاولةٍ ما للإحتماء به، ثم يظهر في الغلاف الخلفي بشكل جزئي متوارياً في الخلفية ليفسحالمجال أمام بعض الأبيات التي تناثرت هنا وهناك،والتي تسيطر عليها أجواء الكآبة والسوداوية فياستعراض ليس لحالة عابرة من اليأس، لكن كما لو لتقديم تقرير نهائي عن الإنهزام الكامل، مما أوقعنا فيفخ – تعمدته سوزان ولو في اللا وعي- عرفنا معه سلفاً ما سنواجهه طوال رحلتنا مع الديوان وصولاً إليالتقرير النهائي نفسه متجسداً في البيت الأخير “أحبك وأنت لا تعرف شيئاً عن عذابي/ أنا الملاك الفضيالرصين“.

(2)

   مثل طفلة تشير إلي الأشياء.. تتعرف عليها.. تكرر اسمها.. وتصفها بكل ما لديها من مهارة، تلعب بالمفردات التي تعلّمتها.. وتضعها في تكوينات متعددة، تسأل وتسأل دون توقف،هكذا هي سوزان عليوان، في كل قصائدها علي مدي أربعة عشر ديواناً- تم طبعها في إصدارات خاصة ومحدودة- وكأن كل هذه الدواوين ما هي إلا قصيدة واحدة طويلة مما يضعها في مكانٍ ما بين الشعر المعاصر والشعر الملحميالقديم ،هذا الإمتزاج الذي طالب به بورخيس في إحدي محاضراته التي ألقاها في جامعة هارفارد ضمنبرنامج نورتون لكتشرز

Norton Lectures

  وسوف نتناول الآن علي التوالي بعض الأمثلة التي تغطي المحاور الثلاثة من الديوان قبل الأخير، ثم منالديوان الأخير.

أولاً: الإشارة إلي الأشياء ووصفها،أو ما يسميه جاستون باشلار القوة المؤسسة للفن وهي الخيال وتجسدهفي الأشكال مع وضوح الإتصال الذي يجعلها موضوعات لإدراك الآخرين . (1)  كما في “مسودة رسالة/ كحل الوسادة/نخب قُبلة/ليل كشجرة برتقال/وشاح من عصافير الحبّ / بنفسج في ضحكتك“. و”منديل يحدّث ملاكه عن حجر/ نورس نهر جَنح بعيداً“.

ثانياً: الإستسلام لغواية اللعب بالكلمات، كما يتضح في استخدام الجناس بنوعيه ، وهو ما يعد أحد الأدواتالمفضلة لدي عليوان، كما نجد في “مرآتنا النافذة كنافذة إلينا”، و “بِحيرة بُحيرة .

ثم “من طفل حاسر الخطي إلي وحشٍ خاسر علي الطريق”، و “آذان مغرب وآذان مُطرقة لتسبيح يمام” .“.

ثالثاً: طرح الأسئلة التي تبدو بلا نهاية؛ لكنها في جوهرها سؤال وحيد وأساسي بتنويعات متعددة مؤلمة.ماذا أفعل بكل هذه البراعم في سقف/ وعيناك علي بعد شارع غيمة في غرفة عابسة؟ و “ماذا لو أن هذه النجمة عود ثقاب يتيم في يدي/ لو أن ما قطعناه من الدرب هو الدرب كلها؟

(3)

  لا يمكننا الحديث عن شعرية صاحبة “رشق الغزال” دون أن نذكر هذا الملاك الحاضر طوال الوقت فيالمشهد، ففي رأي لسنج فإن الشعر يصور الأجسام بواسطة الأفعال المعبرة عنها، فالأجسام لا توجد فقط فيالمكان بل توجد مستمرة في الزمان، وفي كل لحظة من استمرارها تبدو في تكوينات مختلفة. (2).

فنجد في الديوان قبل الأخير “ملاك في رأس سهمه بوصلة/نحو معدن الورد في تفاصيلنا“. ثم وبشكل أكثر كثافة في الديوان الأخير حيث نجد “ملاك الحب يضحك”، و “ملاك من فتات ابتساماتنا أرخي القوس والأجفان”، و”ملاك دون مظلة بمخطوطهِ أمامك” ؛ثم يتحول الملاك تحولاً مفاجئاً ويتصرفبقسوة غير معهودة “كذلك الحب الأول/ وشبابيك الخشب التي/ كلما هممت بتذكرها مزهرة/ملاك بمطرقة علي روحي/قطع الشجرة والطريق“.

(4)

  تقول عليوان في قصيدة “وحدي في الحكاية” من الديوان الأخير:” للغيمة أغفر ما سرقته من النبع/ لعصافير تشرين ما فعلته بقش أيامي/ للشتاء نياشينه من جماجم أزهار/للفجر نجمة بلا إجابة/ للدروب الماطرة مفارقها /إلا أنت…أدينك كما يشير ملاك بإصبعه إلي بقعة سوداء ملء المرآة“.

لننظر أولاً إلي “أغفر… للفجر نجمة بلا إجابة” حيث التحديق طويلاً للنجوم ،طويلاً جداً بما يكفي لأن نعقدمعها صداقة تخولنا الحق في الحصول علي إجابات لأسئلتنا؛ لكننا لا نحصل إلا علي هذا الصمت الإلهي المهيب، حيث يكون الصمت نفسه هو الإجابة،وهي نفس الإشكالية التي نجدها في المزمور التاسع عشر حيث نقرأ: “السموات تحدّث بمجد الله والفلَك يخبر بعمل يديه، يوم إلي يوم يذيع كلاماً وليل إلي ليل يبدي علماً، لا قول ولا كلام لا يُسمع صوتهم، في كل الأرض خرج منطقهم وإلي أقصي المسكونة كلماتهم”.(3)

ثم ننتقل إلي”أغفر… للدروب الماطرة مفارقها” وهذه المفارق لا يمكن أن تغتفر حين يكون التأمل/الصدقكما هو الحال هنا – ضرورة حياتية ومعنيً أساسياً للوجود ،لأنها تقطع هذا التأمل وتوجه الإهانة لهذاالصدق، وبرغم هذا فإن الذات الشاعرة تغفر ما لا يغتفر، وكل هذا حتي تصل إلي الذروة الدرامية للقصيدة، والتي يمثلها من لم يتم منحه الغفران:”أنت“.

(5)

   تأخذنا الفقرة السابقة إلي “الآخر” في شعر عليوان،حيث ثمة ضدية يفرضها الواقع تعلن الذات الشاعرةرفضها لها، مرة بإتكائها علي وحدة الطبيعة والجوهر التي تجمع الموجودات والعناصر والأشخاص، كما في هذا البيت من الديوان قبل الأخير” أرض وسماء وكأننا ضدّان/مع أن النجمة تميمة من تراب، ومرة أخري- أخيرة ويائسة- بإتكائها علي القوة السحرية للكلمات،علي أمل أن تتمكن بسلطة الكلمات وحدهامن وضع نهاية مختلفة عادلة ورحيمة، وذلك من خلال طاقة شعرية هائلة يزخر بها هذا البيت من الديوانالأخير “حدّثني عنك وعني/الخوف ظلّنا علي هاوية/الذكري فاصلة في كتاب/ما يؤلم يؤلمنا الآن“.

(6)

   يقول برجسون إن الديمومة هي التقدم المستمر للماضي الذي ينخر في المستقبل ويتضخم كلما تقدم، فما اللحظة الحاضرة إلا ظاهرة الماضيLe phenomene du passé

فماضينا يتبع حاضرنا، إذ يظل الماضي جوهراً للحاضر(4)، وهذا هو ما نجده في عنوان الديوان الأخير “الحب جالس في مقهي الماضي” وفي أجواء الديوان ككل، ليس من منظور البكاء علي الأطلال، لكن لأجل ما هو أعمق من ذلك،لأجل الحقيقة – بمعناها الفلسفي لدي كروتشه حيث يبلغ الفن أقصي درجاتالحقيقة لأنه يتجاوز الحسي أو الفيزيقي- والحقيقة في إحدي تمثلاتها تظهر في القدر، حيث “يرمم كل منا نبضه برماد ما مضي” لأن “لا قدر حقيقي يضيع” .

ـــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1) د.غادة الإمام،جاستون باشلار جماليات الصورة،دار التنوير،عام 2010، ص 68.

(2)أميرة حلمي مطر، مدخل إلي علم الجمال وفلسفة الفن، دار التنوير، الطبعة الأولي،عام 2013 ، ص 125.

(3)سفر المزامير من الكتاب المقدس  19: 1 – 4.

(4)د.غادة الإمام،(مرجع سابق)،ص 82،81.

نشرت في صحيفة “أخبار الأدب”

مقالات من نفس القسم