محمود الرحبي
طلبتُ قهوة. ومع كل رشفة، كانت الحياة توقظني لرؤية محيطي، بينما كلُّ جرعة من النّدَماء تعني الابتعادَ، خطوةً عقب أخرى، عن الواقع.
وفودُ سهرتنا يتجّددون. ستيني يفيض جسده من الكرسي، طلعته باسمة برأس ضخم وأوداج متوردة وعينين تنعكس منهما سيماء البذخ والحب المتجدد للسهر. يرفض أن يُغيّر حرفًا من لهجته المصرية. وحين يسأله أحدُ الوافدين الجدد على السهرة، عن مكان عمله يقول إنّ له شركةً، دون أن يسميها، ثم يعقّب بأنه مقيمٌ منذ أربعين عاما في مسقط ولم يزُرْ مصرَ إلا مرتين، فهو يرسل دعواتٍ لمن يشاء من أقاربه أن يزورَه، ووالدتُه تقيم معه. كان مرِحاً، يضحك قبل السبب، وله القدرةُ على أن يُعقّبَ على كل حديثٍ بما يدعم صحنَ الفكاهة.
اقترب من طاولتنا كهل حاد النظرات، بنيته ضعيفة وقد أرخى خناق دشداشته وهو يمسح صلعتَه ويهتف: هذه علامةُ صحّةٍ وثقافة. لي بطاقتَا حماية. ليس بطاقةً واحدة، اثنتان. أَخرَجَ من جيبه رأسَ بطاقة، ثم ما لبث أن أخفاها. لي بطاقةٌ أخرى سأُريكم إياها بعد أن أتبولَ. ثم غاص في الردهات الداجية للحانة ولم يعد. لم يفهم أحد ماذا يقصد ببطاقات الحماية! ولكنهم لم يسألوه.
آخَرُ يجلس في زاوية قاتمة أمامي مباشرة، ضئيل الجسم، يرتدي نظارة غامقة بما يكفي لتغطية بريق نظراته. تمسح وجهه لحية قصيرة بيضاء. كان يغني طوال الوقت وهو يحرف الكلمات على سجيته وبصوت عال. في أغنية لفيروز تتحول كلمةَ “كحلون” إلى “جحلوت”، وتستحيل “ما خطرتش على بالك يوم تسأل عني ” إلى “ما ختررررتش ألى بالك أوووم تسأل عني” كان صوته أكثر ما يخرج من كرسيه. يكون خافتا في بدايته، ثم مزلزلا فجأة، وفقا للإيقاع الذي يعطيه فوق حقه في البروز. وجلاس الحانة اعتادوا عليه، ومنهم من يختار سماعه بقصد الفرجة وضمان المرح، فيحملون كؤوسهم ضاحكين ليقفوا بالقرب من طاولتنا.
ولا يمكن نسيان الأعمى، صاحب الصفارة، الذي ما إن ينهي ما في كأسه من جعة حتى يطلق صوت صافرته الشبيهة بصافرة حكم لكرة القدم. اكتشفتُ، بتقدم الوقت، أنه لا يستجيب إلى صفارته غيري والنادل، الذي ما إن يصله الصوت المنبه حتى يرفع إبهامه باسما جهة رفيق الرجل الأعمى. ينقر الأخير على الطاولة دلالةَ أن النادل فهم معنى تصفيره وسيلبّي طلباته.
كان جالسا في طرف طاولته، بنظارته ذات الزجاج الفاحم، وهو يحرك في يديه سلسلة مفاتيح، وبجانبه شاب، يبدو أنه سائقه ومرافقه. يرسل إليه كلمتين من حين إلى آخر، فيرد عليه بتحريك شفتيه وهو ينظر إلى الرواد ويصفهم. كان من مهامّه، على ما يبدو، أن يصف له شكل كل الموجودين وهيئاتهم بمجرّد ما يجلس، إذ اعتاد أن يدخل الحانة في الثامنة ويغادرها في تمام العاشرة ليلا. كما كان من مهام مُرافقه أن يصف له هيئة كل داخل جديد، وبذلك، لن يفوته أي تفصيل. وأحيانا، يرسله ليكلم أحدا في الجوار. فيقوم ذلك من مكانه ويمكث في طاولة الأعمى قليلا، ولا يتركه إلا ضاحكا وبصوت عال. وكان المرافق يشرب ببطء من علبة “كوكاكولا”، بدت كأنها مشروب لا ينتهي، تماما مثل محتويات فنجان قهوتي، الذي تركته على برودته، وأنا أرتشف منه جرعة صغيرة كل نصف ساعة كما لو كان دواء.
لم ينتبهْ أحدٌ إلى أنني لم أكنْ أشربُ في ذلك المساء غيرَ القهوة. لم يكن أحدٌ مهتمّاً بغيرِ عالمه، خاصةً حين يتقدم الوقتُ وتزحُف الساعات نحو أعماقِ الليل.
تُقلّد تحية كاريوكا مارلين مونرو. واختيرَ عمر الشريف خطأً في غفلة من زمن رشدي أباظة.. لورانس العرب… ديفيد لين. وأسماءُ وعباراتٌ أخرى وردتْ في تلك السهرة، التي أتذكّرُها الآن بوضوحٍ تامٍّ في سجني.
كان الكلامُ يلقى ويموج ولكنْ بلا ضفاف تستقبله. وبسبب يقظتي حينئذ، فإني أستطيعُ تذكُّرَ كلِّ ما دار في الساعات الطوالِ تلك. ولكنْ ها أنا الآن في الحبس والسهرة لم تنتهِ في رأسي. كانتِ السّهرةَ الوحيدةَ التي ظلت في ذاكرتي، والسبب أني شربتُ قهوةً في حانة.
والآن، جميع المساجين قد ناموا. بينما ظللتُ يقظا. أنا مَن اخترتُ اليقظةَ منذ البداية. الجميع شربوا وناموا، إما في بيوتهم أو في هذا السجن.
هذا السجنُ الذي أنا فيه الآن مَحجَرٌ للسّكارى. ولكنْ ماذا حدث خلال هذه الليلةِ الطويلة؟ تحول السّجنُ إلى حانة. الروائحُ -التي أميّزها بحكم يقظتي المضاعفة- خلقتْ جوا مترَعاً بأنواع الخمور. الروائحُ الخفية تسبح في جو السّجنِ الضيّق. الويسكي، برائحته الصقيلةِ كالصرخة، والبيرة ذاتُ الرائحةِ العشبية المنتمية إلى الأرض والقمر. والنبيذ، الذي تميزه من تلك النكهة المختمِرة. وأولئك الذين اختلطتْ في بطونهم أمزجةٌ من تلك الروائح، كان ما في بطونهم يتبخّر بسهولة في هذا المربع الضيق للسجن المؤقت، الذي تنصبه الشرطة للسكارى، حتى يستيقظوا ويتمكّنوا، في الصباح، من مواصَلةِ قيادةِ سياراتِهم بأمان.
كيف نعود بعد أن نشرب؟ هذا السؤال الذي لا ينتظر جوابا، هو الجملة مقطوعة الرأس التي سمعتها تتردد مرارا في السجن.
أحدهم واجم. وكأنه لم يتصورْ أنه سينام يوماً في سجن. يتفحص الوجوهَ ليطمئنَّ إلى أن أحداً منا لا يعرفه. وآخر يحاول -بعد فواتِ الأوان- أن يكمل حديثاً قطعه الشرطيُّ في وجهه. مغمض العينين يخاطب أحلامه، ثم يستيقظ فجأة وهو يهذي.
آخرُ كان يرمقه طوال الوقت، هتف في وجهه: ممنوعٌ انتقادُ الأوضاعِ في السجن.
دخلتُ السجنَ بسبب “قيادةِ مركبةٍ في حالةِ سكرٍ شديد”، هذه هي التهمةُ المسجّلةُ في محضر الشرطة والتي كانت تقتضي احتجازي حتى الصباحِ جالساً في مكان واحد. ولكنّ الأمرَ الغريب هو أنني لم أشربْ قطرةً واحدة. بل لم أشربْ أيَّ سائلٍ طوالَ ذلك المساء إذا استثنيتُ فنجانَ القهوة، الذي ظل رفيقي الصامد طيلة الساعات التي قضيتُها في حانةِ “الحوت الأزرق”. كانت سهرةً لم يشعر بتفاصيلِ صخبها غيري. الحانةُ تشبه سفينة مهجورة ملقاة خلف الجبالِ والظلام. اعتدتُ ارتيادَها طيلة سنوات دون أن يعترضَ طريقي أيُّ شرطي. وكأن كلَّ تلك الكمية التي احتسيتُ طوال الليل تتحول خلال رجوعي وأنا أقود سيارتي إلى طاقة مضاعَفةٍ من الحذر. هل هذا هو سببُ عدمِ القبض عليَ متلبّساً بقيادة مركبة في حالةِ سكرٍ؟ ربما. سأتذكر استثناءً واحدا، حين أنقذتْني الحيلةُ وليس الحذر. أوقفتني، ذات ليل، دوريةُ الشرطة، أنزلتُ زجاجةَ الباب حتى النصفِ وناولتُ الشرطيَ رخصتي. قرأ اسمي عليها وهتف: “الأخ داود صاك سكران والرّيحة ناقعة”. وبهدوء، استقبلتُ عبارته وكأنها نكتةٌ تستحقّ أن أمنحَها حقَّها كاملا، من الضحك. فهو في النهاية موظفٌ كادح، يقف طوال الليل ليحرُسَ الشارعَ من الأخطار. ليحرُسَني أنا كذلك من اقتراف حادث في حالةِ سكر. ضحكتُ، مُثنياً على بديهته في تدبيجِ نكتة. واستثمرتُ ذلك الرضى منه بأن استندتُ بدوري إلى بديهتي، التي لم تخنّي في أصعب المواقف. فبعد أن أطلقتُ ضحكتي، وأنا اقرأ من خلالها في تقاسيم وجهه ما ينمّ عن الرضى، حوّلتُ نظره إلى بناية تلوح من بعيد، وقلت له:
-في تلك البناية بيتي.
تلفت باحثا في الفراغ؛ ثم سألني:
-أنت متأكدٌ من أنك تستطيع أن تصلَ إليها؟ قلت له:
-تستطيع أن تراني من هنا. وأنا مستعدٌّ -لو شئتَ- لأن أوقف سيارتي وأذهبَ راجلاً..
ودون إضافات أخرى، طلب مني التحرك.
سيارتي من نوع “بي إم دبليو” قديمة قِدَمَ الحديدِ والصّخور، وبها رقمٌ رباعي يساعد على التمويه، محصور بين عددين متشابهين (8 ..8)
كنت آخرَ الخارجين من الحانة. فقد تطلَّبَ أمرُ إخراجِنا تدخُّلَ عمالٍ هنود مستسلمينَ للنوم. قرأتُ في وجوههم ما لمْ أرَهُ من قبل رغم ترددي الطويل على المكان. كان مختصَراً بليغاً للتعب والمعاناة التي تنتج عن الحرصِ على تلبية أدقّ تفاصيلِ متطلبات إمتاع الآخرين. دخلتُ إلى المرحاض قبل خروجي وقذفت القهوة التي حصرتُ ساعات في جوفي، رأيت مغني فيروز وأم كلثوم حانيا جذعه فوق حوض المغسلة، وكأنما يستمع إلى صوت شلال بعيد، مستغرقا يفرك أذنيه الواحدة بعد الأخرى تحت دفقات الصنبور. استوقفني المشهد الذي لم أكن أعيره – في وقت آخر- أدنى التفاتة. ثم خرج وأذناه تقطران، فتبعته. لذلك كنت آخِرَ الخارجين.
بعد أن خرجتُ من الحانة ركبتُ سيارتي، وبين التعب والصحو سرى صوت “أبو بكر سالم” محلقا بالطريق الطويلة من الغبرة إلى المعبيلة. بدت السيارة وكأنما ترقص في الخارج حين سهوت؛ فظهر شرطيٌّ ورائي وأَطلقَ زعيقا من سيارته. ذهنت من غفوتي على شعور مختلط وشك: ” هل أنا سكران؟! “.
سألني من أين أنتَ قادمٌ؟ فقلت له بكل ثقة: من حانة الحوت الأزرق.
-واضح عليك ذلك.
-ولكنّي لم أشربْ.
-هذا أيضا واضحٌ عليك.
وأنا في طريقي إلى غرفة الحجز، كان الفنان اليمني يكمل غناءه في رأسي: “لا ني بنايم ولا ني بصاحي.. “