مصطفى الصايم
زمان، أيام شبابه، كانت لدى “عشري حسّوبة” هواية غريبة، هي الصلاة كل يوم في مسجد مختلف. لم تكن هواية فقط، إنما جعلها عملًا لا يمكنه إهماله ولا التهاون فيه.
بدأت هوايته حين سرح بخياله بعد كلام الشيخ “شعبان الفَل”، حينما قال في أثناء حلقة الذكر إن كل مكان يسجد فيه المسلم، يشهد له يوم القيامة ويأمره الله أن يتكلم، فتجد الأرض تتكلم وتقول فلان صلى فوقي. بعدها قرر أن يصلي في كل مساجد سنهور، كي تشهد عليه سنهور كلها.
اكتشف أثناء تنقله بين مساجد البلد، أن سنهور كبيرة جدًا، ومتنوعة، فيها حاجات كثيرة، ربما كثيرة حتى على حاجة السناهرة أنفسهم. ورغم أنه كان يستمتع بالتجوال في الشوارع بين المساجد، إلا أنه في منتصف الرحلة قرر أن يترك سنهور ويرحل؛ تعجرف عشري، تكبَّر على سنهور، تركها ليعمل بوابًا في القاهرة بعد أربعين عامًا من حياته قضاها بين الفلاحة وصناعة السجاد اليدوي. اقترح عليه “فرج البُرج” السفر إلى القاهرة، أخبره أنه سيكون مثله. و”فرج البُرج” مرتاح ماديًا، جمّع ثروة كبيرة من حراسة العمارات وغسيل السيارات والسمسرة مؤخرًا. سمع له عشري وترك سنهور، سافر إلى المقطم في القاهرة، تأقلم مع عيشة القاهرة بسرعة، ونسته سنهور أسرع، لا تفتكره ولا يفتكرها إلا في أيام الأعياد وأفراح العائلة، أغلقت سنهور صفحة “عشري حسوبة”، ولم تهتم بغيابه الذي طال.
***
قبل أن يسافر إلى القاهرة بأيام، وبعدما عاد من الغيط بعد العصر وقد صلى الظهر والعصر في مسجد بالقرب من غيطه. غيَّر ملابسه، وخرج يودع سنهور، يتمشى بغير وجهة، وقرر أن يبدأ من البعيد وينتهي عند المناطق القريبة من بيته في منطقة الحمدية، وصل إلى منطقة المُجَّمَّع، وهي أبعد منطقة في سنهور من بيته. صلى المغرب في مسجد المُجَّمَّع، قطع المسافة عائدًا إلى بيته وهو في طريقه، لاحظ أن مسجد الحداد قد أوشك على الاكتمال، بعدما هدموه وبناه الشيخ الكويتي على نفقته الخاصة. يفكر، هل يجب أن يصلي فيه من جديد، لعل الأرض الجديدة والسيراميك الفاخر يشهد عليه، أم أن الأرض نفسها هي من يشهد؟ قال: “نصبر لما يخلص ونشوف”. لكنه قبل أن يقرر.. ترك سنهور.
***
في بداية سنهور يوجد طريق سياحي طويل، هو دخلة البلد، يبدأ بالمفارق، حيث ينزل القادمون من “الفيوم” و”فيديمن” و”بني صالح” و”القاهرة”. ينزل عشري السيد حسوبة وعائلته الصغيرة في المفارق، المزدحمة تمامًا بالتكاتك وعربات الأجرة، “التَيّوتَة” كما يسمونها. يرفع رأسه للأعلى، وكأنه يقارن بين سماء سنهور وسماء القاهرة، يتلفت حوله، يلاحظ واجهات المحلات التي تبدلت، “البدري” أغلق وفتح “كرينكل” مكانه، “الحذاء الذهبي” قفل هو الآخر، فتح مكانه كشري وحلواني “المالكي”. يبص إلى يمينه، يرى منطقة الشونة -هي جزء صغير من سنهور، كان خاليًا تمامًا والآن يضم عدة بيوت أغلبها من ثلاثة أدوار- يمضي عشري، لا يدخل يمين ولا شمال، يمشي الطريق الذي ينتهي بمنطقة الطواحين. عند الطواحين يقف متحيرًا بين زوجته وعياله الاثنين، لا يعرف هل يمشي يمينًا فيدخل عزبة صادق عند عميه، ويحكي لهما ما حدث في غربته ربما يساعداه، أم يؤجل تلك الخطوة ويدخل شمالًا، فيمر بمناطق: تحت الطواحين، الشيخ سليمان، ودرب غلاب. ويصل بعدها إلى الحمدية، حيث بيته المغلق منذ سنوات.
احتار، شعر بالاغتراب في أكثر مكان يعرفه، داخله شعور أنه لا يعرف ذلك البلد وأنه لم يعد جزءًا منه. فهم سريعًا أن سنهور لا تبقى إلا على ناسها، وأنها بصقته مثلما يبصق الواحد في سنهور قشر لب عبّاد اشتراه من أبو رجب جلال.
***
وقف أمام بيته، تلقى –وعائلته- سلامات وأحضان من جيرانه، أكثر من حمار أوقفه صاحبه لينزل ويسلم على “عشري حسوبة”، وكعادة الناس في سنهور، يودون لو يسألون: كم مليونًا جمعت في غربتك؟ لكن عشري قطع بهم سبل ذلك السؤال. دخل بيته، الذي سقط جزءًا كبيرًا من عريشته، وأول ما خطّى برجله إلى الداخل قابلته ريحة مقرفة، كأنه دخل قبرًا، شاف فراخ وفئران ميتة، لم يبقَّ منها سوى الجلود والريش، تراجعت زوجته إلى الوراء، وقفت عند العتبة ومعها الأولاد، دخل عشري إلى غرفة نومه، رأى ما جعله يفهم كيف أُستخدم البيت أثناء غيابه؛ رأى كلوتات وقمصان نوم نسائية، لباس رجالي أسود، بقايا عيش “فينو” ناشف قد خرَّمه السوس، علب مربى وتونة فارغين، حقن “ماكس” بها أثر دم متجلط، أشرطة تامول فارغة، مئات من أعقاب السجائر والحشيش. تمتم بصوت مسموع: يا ولاد الكلب يا أنجاس. بدا له البيت أقذر مما تخيل، خرج سريعًا، ومن أمام البيت أوقف توك توك لينقلهم إلى عزبة صادق.
في طريقهم لاحظ أن الحزن على وجه زوجته يمتزج بالغضب، سألها:
- انتي مضايقة مني؟
ردت وهي تنظر للطريق:
- قولت لك يا عشري منسافرش وخلينا هنا احسن فضلت ماشي ورا فرج لحد ما شيلنا طين.
لاحظ الحدة في لهجتها قال بصوت عالٍ قليلًا:
- على أساس انك ماكنتيش مبسوطة يعني؟ ما عجبتكش عيشة المقطم والأكل الدلفري واللبس؟ ماكنتيش بتعملي لي بلوة لو ما خرجناش واتفسحنا في الجناين والقلعة وهنا هنا؟
سمعت كل الكلام وهي تنظر له بأسى لما انتهى قالت:
- يعني بذمتك انت ما كنتش عجباك العيشة هناك؟
- يبقى متلوميش عليا أنا كنت عايزكم تعيشوا في مكان أحسن.
ينقطع كلامهما بمجرد وصول التوك توك أمام بيت رجب حسوبة عمه.
***
في بيت عمه رجب، شرب الشاي دورًا وراء الثاني، منتظرًا قدوم عمه عبد الرازق، لم يتكلم كثيرًا، سأله عمه رجب عن كل شيء، لكنه لم يبل ريقه بإجابة، دخل عمه عبد الرازق مكروبًا، حضن ابن اخيه، جلس، ثم قال:
- حصل ايه يابني، ما لك، انت كويس، العيال بخير؟
نفس الأسئلة التي لم يتلقَّ أخيه ردًا بخصوصها. نظر عشري إلى الأسفل خجلًا، لا يعرف من أين يبدأ.
- ما تنطق يابني.
ينطق، يتكلم بتقطيع:
- الجماعة كويسين، هو بس فيه شوية مشاكل.
يقول عمه رجب الذي فقد طاقة صبره:
- يابني انت هتنقطنا، ما تقول فيه ايه.
ينظر إليهم، إلى عيونهم بالتناوب، يقول في ثبات:
- الفلوس ضاعت، شقا عمري راح يا عمي.
يسود السكون، يفكر عبد الرازق أن ابن أخيه باظ، ضيع فلوسه على النسوان، وجاء الآن ليبكي. رجب لم يفكر في الطريقة التي أضاع بها ابن أخيه فلوسه، بل فكر فيما يشكل ذلك من خطورة على العائلة. سأل عمه رجب بنفاذ صبر:
- حصل ايه بالظبط احكي؟
حكى لهم كل شيء مرة واحدة، وكأنه أكل لأيام متواصلة حتى ضاق بطنه بالأكل فتقيء لساعات. بدأ الحكاية من العرض الذي قدمه له “فرج البُرج” عن الأرض التي لا يسأل أصحابها عنها، رسم له الموضوع بسهولة، أقنعه، خصوصًا أن فرج البُرج نفسه فعلها من قبل، وهو ما لم يصل صداه إلى سنهور. قبل عشرين سنة مثلًا، كان فرج يحرس عمارة، بالقرب منها قطعة أرض فارغة، وأحدًا لا يعرف لها صاحبًا، وهو الذي استغله فرج جيدًا، أقام فوق تلك الأرض عشة، راح وجاء على عشته، نام وأكل وشرب لسنوات، شيئًا فشيء صار يكبرها، في الأخر هدها، بنى غرفة بالطوب الأحمر بدلًا من العشة، والغرفة ولدت غُرفًا بجوارها، حتى اكتمل الدور الأول من العمارة، كل ذلك ولم يسأله أحد عن صاحب الأرض، ولم يسأل صاحبها عنها، حاول الكثيرين أخذها منه لكنه مسك في الأرض بيديه وأسنانه. بالوقت صار فرج البُرج نفسه هو صاحب الأرض التي صارت عمارة، وأجازها له قانون وضع اليد، فأصبحت ملكًا لا يمكن التنازع عنه.
أوقف عمه عبد الرازق استرساله، سأله:
- وانت طبعًا حطيت كل اللي معاك في الأرض دي.
هز عشري رأسه.
- يعني شقى السنين دي كلها ضيعته يا عشري؟
وضع عشري كفيه على وجهه، ولم يرد.
وساد الصمت بعدها.
***
بات ليلته في بيته، بعد أن طلعت روحه في تنظيف غرفة النوم، رقد على سريره، بعدما فرش عليه ملاءة أعطاها له عمه رجب الذي ألح عليه كثيرًا أن يبيت عنده لكنه رفض رفضًا باتًا، بصعوبة ترك زوجته وعياله هناك، وعاد وحده إلى بيته القذر.
على سريره فكر في ورطته، لا يعرف ماذا يفعل، هل يعود إلى المقطم، يحرس عمارة، يعيش بما يوفره له المرتب ويوفر الفلوس التي تأتيه من غسيل السيارات، أم يبقى في سنهور، يستأجر غيط عمه رجب، يزرعها ويأكل من مكسبها؟
لم يتوصل إلى إجابة واضحة، يريد أن يرجع إلى المقطم؛ الدنيا هناك حلوة، والفلوس تأتي بسهولة، غير أنها كثيرة، لكنه يريد أيضًا أن يعيش في سنهور وينسى المقطم، ينسى كل ما هو خارج حدود سنهور، وكأن الله لم يخلق غير سنهور؛ القاهرة بنت وسخة، مغرية، تزرع في الواحد طموحات كبيرة، وهو جرّب الطموح، وفي الأخر وقع على عنقه. أما سنهور، رغم أن العيشة فيها بسيطة، إلا أنها آمنة رغم كل جرائمها، والأهم أنك في سنهور محدود أنت وطموحك، مما لن يدع مجالًا لأن تقع على عنقك وينكسر. طاردته تلك الأفكار حتى الصباح دون أن يرسى إلى حل.
نام الصبح، واستيقظ قبل العشاء، دخل الحمام، وجده مملوء بالخراء الناشف في جميع أركانه، خرج يتأفف بصوت عال، أخذ زجاجة مياه من جانب السرير، غسل وشه في الصالة، وخرج من البيت.
نظر في تليفونه، تبقى على آذان العشاء أقل من نصف ساعة، فكر، هل يصلي في مسجد سعداوي، القريب جدًا من بيته، أم يذهب إلى مسجد جديد ويسترجع العادة التي قطعها بسفره إلى القاهرة؟ يشعر أنه لو أكمل المسيرة في مساجد سنهور، سيظل يبحث عن مساجد جديدة، سواء في سنهور أو العزب القريبة، وأنه بذلك سيتأخر على ما يرجع إلى القاهرة، يسأل نفسه: هل سأعود إلى القاهرة أصلًا أم لا؟ وفي النهاية يقرر، يتمشى في سنهور. يبدأ من الحمدية، يمر بدرب غلاب، يتخطاه، يقول لنفسه وهو يمر بمنطقة البوابة: “نصبر لما نخلّص مساجد سنهور والعزب وبعدها نشوف”.
……………………………
*القصة من مجموعة قصصية قيد الكتابة
*مصطفى الصايم، كاتب مصري، صدر له مجموعة قصصية بعنوان “رجل شديد الأهمية”، ورواية بعنوان “الديانة دوستويفسكي”





