سمير درويش: أحب زحام المدن

فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

حاورته: رشا حسني

* طبيعة الثقافة الشفهية التي ربما لم يتح سواها أمامك طوال فترة الطفولة كان الأرجح أن تقود موهبتك نحو شعر العامية أو السرد الروائي لكنك اخترت شعر الفصحى وقصيدة النثر تحديدا.. ألا ترى ذلك مدهشا؟

– أنا مولود ومعي ملكة الإيقاع، ففي عمرٍ مبكرٍ جدًّا كانت أعضاء جسدي كلها تهتز مع الموسيقى، بانتظام كامل، والموسيقى هي الشرط الأول للشعر، ذلك الذي بدأت علاقتي به مبكرًا حين كنت أقرأ القصائد بشكل عشوائي في المجلات التي أجدها بالصدفة، أو أشتريها من شيخ يفرش الكتب في سوق السبت، الأسبوعي المخصص لبيع الخضروات في قريبتنا، ثم أحفظها وألقيها في طابور المدرسة، حتى إنني حفَّظتَهَا لأولاد وبنات كفر طحلة جميعًا من كثرة ترديدها.

من جانب ثانٍ كنت أحب اللغة العربية وقواعد النحو، وتعجبني القصائد التي تغنيها أم كلثوم: الأطلال ونهج البردة وسلو قلبي وسلو كؤوس الطلا ورباعيات الخيام وأغدًا ألقاك وهذه ليلتي وذكريات وثورة الشك.. إلخ، وكنت أردد كلماتها كقصائد، دون التكرارات أو الإضافات التي تصنعها الجمل الموسيقية، مثل إدخال كلمة “يا حبيبي” مثلًا، وكنت أجد متعة كبيرة في ذلك.

ومن جانب أخير فقد قرأت في طفولتي كتابًا ضخمًا أظن اسمه المنتخب، كان يسلم لتلاميذ المدارس أيام طه حسين، وفيه مختارات من قصائد لشعراء جاهليين، وشعراء أمويين وعباسيين، ومنه أعجبت بأبي نواس وحفظت قصيدته الشهيرة: “دع عنك لومي فإن اللوم إغراء”، كما يميل تكويني إلى العمق والتدبر وإعمال المنطق، وهي سمات تناسب الذين يصنعون بناءً ما، ثقافيًّا أو جماليًّا، لهذا ذهبت مباشرة إلى الكتابة باللغة العربية الفصيحة، فكنت أكتب قصائد رومانسية وأنا في الثانوية، وكتبت روايتين رومانسييتين أيضًا وأنا في المرحلة الجامعية الأولى.

لكن أتصور أن السبب الأهم أنني عشت في قريتي الخمسة عشر عامًا الأولى، ولم أخرج منها إلا مرتين أو ثلاثًا في زيارات خاطفة لبضع ساعات، لكنني –نفسيًّا- لم أكن أنتمي إليها، وكنت أدرك أنني سأتركها حين أستطيع، فأنا أحب زحام المدن والشوارع الواسعة المضاءة والمسفلتة، والنظافة، وباعة الكتب والجرائد، أكثر من حبي لهذا الهدوء الذي يصل حد الموت، الذي يجعلك تمل أصوات حشرات الليل والغرق في الظلام، وكنت أعتقد أن الاستمتاع الذي يظهر عليه أهالينا الذين يعيشون في المدن، في زياراتهم الموسمية، نوع من الاستعلاء.

لهذا كله فالفصحى تناسبني أكثر، وهي الأقرب لي حينما أكتب، حتى حينما أتعمد أن أكتب تدوينة قصيرة على فيس بوك أو تويتر بالعامية، أجدني تحولت إلى الفصحى سريعًا، فأقوم بتعديل بداية الكتابة لتناسب السياق الذي يناسبني أكثر.

* كيف استطعت أن تكوِّن مخزونا ثقافيا دون أن تقرأ حتى الخامسة عشرة كتبا غير الكتب الدراسية المقررة؟

– في المرحلتين الابتدائية والإعدادية كنت أقرأ كتب الأولاد الأكبر مني، وأركز على كتب التاريخ والجغرافيا باعتبارهما مصادر للثقافة، وكنت أقرأ بهدف المعرفة، لا من أجل الامتحانات، وأكون وجهة نظر من هذه القراءات، فأحببت قطز على حساب بيبرس مثلًا، رغم أن المصريين نسجوا سيرة بيبرس لتخليده، وأحببت صلاح الدين الأيوبي وجمال عبد الناصر، كما أحببت محمد علي رغم غضبي الشديد منه بسبب مذبحة القلعة.

في الإعدادية كان جمال عبد الناصر قد مات، وبدأت الصحف حملتها الضارية ضده وضد عصره، ولأنني كنت متيَّمًا به، بدأت أقرأ هذه المقالات كلما وجدتها، ولا أصدقها، فبدأت أكون موقفًا سياسيًّا، تبلور بعد ذلك بسهولة حين علا المد الناصري في نهاية السبعينيات.

ومنذ بداية المرحلة الثانوية التي كانت في مدينة بنها، عرفت مكتبة المدرسة، ومكتبة قصر الثقافة، وسينما الحرية، وأصبحت أقرأ بشكل نهم، لدرجة أنني كنت أنقل بعض الدواوين في كراساتي، كما أدون بعض الفقرات وتحتها اسم الكتاب والكاتب، ووصل الأمر أنني أقرأ الكتاب في يوم، وأحيانًا أكثر من كتاب. من هنا بدأت الدنيا تتسع أمام عيني، وأصبحت أتعرف على الشعراء والقصائد من الدواوين وليس من أغنيات أم كلثوم فقط، وأصبح اسمي في الفصل “سمير الشاعر”، على وزن “أحمد الشاعر”، الاسم الذي كان يطلقه فريق “مدرسة المشاغبين” على أحمد زكي، حين اكتشف مدرس اللغة العربية أن هذا الولد الخجول الذي لا يتكلم كثيرًا يكتب الشعر، كان يتذوق الشعر بشكل كبير، ويطلب مني بعد انتهاء الشرح أن أقف أمام الفصل وأقرأ قصائدي، وكنت أفعل.

* اختيارك لعنوان “العشر العجاف” يبدو مناقضًا لأهمية وغنى تلك المرحلة في تكوينك الإنساني والإبداعي.. هل قصدت المفارقة؟

– العنوان “عشر عجاف” مستوحى –كما هو ظاهر- من الآية 46 من سورة يوسف: “يُوسُفُ أَيُّهَا الصِّدِّيقُ أَفْتِنَا فِي سَبْعِ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ”، فأرى أن هذه السنوات التي تعرضت لها في مذكراتي كانت قاسية عليَّ وعلى أبناء قريتنا جميعًا، الذين اضطروا إلى الخروج من التعليم، أو عدم الذهاب إليه أصلًا، والعمل منذ الطفولة المبكرة في أعمال الحقل، ثم في السجاد اليدوي الذي غزا القرية على يد بعض أولادها الذين تعلموه في القاهرة.

فكرة “الغنى” هذه خارجية أكثر، تشبه نظرة الأولاد والبنات الذين كانوا يأتون إلينا في زيارات موسمية، يرتدون ملابس نظيفة، ولا يعملون، فقط يتعلمون في الشتاء ويتفسحون في الصيف! الأمر بالنسبة لنا كان شقاء فعليًّا أكبر من قدرتي على وصفه. لكنني –وقليلون جدًّا- استطعت أن أبني نفسي وأحلم بمستقبل أفضل، وهذا كلفني الكثير في الحقيقة، وأولها التكلفة الاجتماعية التي تجعلني أتحمل نظرة المجتمع إليَّ كمارق وأنا أتهيَّأ للخروج على قوانينه، فأرفض الاستمرار في كلية التربية التي أجبروني على دخولها كي أذهب في إعارة لدولة خليجية أو إلى ليبيا، كي أبني بيتًا في الغيط وأتزوج ابنة شيخ البلد!

* هل تنوي استكمال سيرتك الذاتية أم ستكتفي بفصول منها؟

– مبدئيًّا يجب أن أقول إنني لم أخطط لكتابة الكتاب الأول، المسألة بدأت بتدوينة قصيرة على فيس بوك فوجئت أنها لاقت استحسانًا واسعًا، فكتبت أخرى، فوجدت متابعة أكبر، ثم توالت التدوينات، بهدف التدوينات وليس بهدف كتابة كتاب، فأصبح لها متابعون، يدخلون في كل مرة لمناقشة ما أكتبه، ويقولون إنني أروي قصصهم أيضًا، وحينما تتأخر التدوينة التالية لسبب ما، قد يكون السفر أو العمل أو غيرهما، يسألون ويلحون على المواصلة، ثم بدأوا يطالبونني بتجميعها في كتاب، وقال لي أحدهم إنه سيكون كتابي.. بمعنى أنه سيكون الأهم بين إصداراتي.

وفيما يخص الاستمرار، فأنا أتمنى ذلك، وأمام عيني الآن –وأنا أمشي في الشوارع- تصورات عن عشرٍ أخرى هي سنوات المرحلتين الثانوية والجامعية، من 1975 إلى 1985، وعشر ثالثة عملت نصفها في مصر والنصف الثاني في السعودية، وعشر قضيتها موظفًا في اتحاد الكتاب، وعشر في العمل الثقافي بالهيئة العامة لقصور الثقافة، إلى جانب تجربتي الغنية في الاتحاد العام للأدباء والكتاب العرب.. هناك تصورات لا أعرف إن كنت سأنجزها أم لا، لكنني أظل أحوم هكذا –كعادتي- حتى أكتب السطر الأول، ثم تستمر الكتابة رغمًا عني، وتخرج الحكايات بعضها من بعض. وهذا ما أتمناه وأنتظره.

* تقوم بتصميم أغلفة كتبك بالإضافة لبعض كتب غيرك.. متى اكتشفت هذا الجانب الفني في نفسك وهل ساعدتك النشأة بالريف في اكتشاف الجمال الكامن فيه؟

– لا أذكر إن كنت أشرت في المذكرات إلى أنني كنت أرسم بورتيرهات للمشاهير وأنا طفل صغير، جمال عبد الناصر والسادات وعبد الحليم حافظ ومحمود ياسين، ووجوه أخرى مميزة، كنت أرسمها في كراسات الرسم بالقلم الرصاص، وكنت أرسن نفسي وحبيبتي، وتصورت في فترة ما أنني سأكون رسامًا، كما تصورت أنني سأكون مطربًا، وممثلًا، وأظن أن هذه الحالات تتلبس كثيرين من الكتاب والأدباء والشعراء في طفولتهم، قبل أن يعثروا على طريقهم.

لكن بشكل عام أنا أعشق الموسيقى والفن التشكيلي، لأنهما أداتان للتعبير دون استخدام اللغة، التعبير بالنغمات أو بالألوان، وفي شقتي الصغيرة ببنها بعض اللوحات الأصلية والمنحوتات على الخشب والحجر لفنانين أصدقاء، وتصاحبني فكرة بوهيمية أنني بعد المعاش سأجلس في بارك واسع على ضفة نهر هيدسون في نيويورك –القريب من بيتي هناك-، أفرد القماش على الحامل وأرسم بالزيت لوحات سوريالية وتجريدية، قد تشبه البنايات الشاهقة في مانهاتن، التي ستواجهني على الضفة الأخرى، وتمتد حتى مبنى الجمعية العامة للأمم المتحدة.

أنا أيضًا أهوى التصوير، لكنها كلها هوايات لم تتوفر لها الإمكانيات، ولا الوقت، فرجل مثلي يسعى وراء قوته طول عمره، منذ كان طفلًا في الرابعة، حتى لحظة كتابة هذه السطور، يحمل آمالًا كثيرة، ويحلم بالوقت الذي سيجده ليحقق بعضها!

هذه الخلفية جعلتني أصمم غلافًا لأحد دواويني على برنامج باور بوينت، وأحوله إلى pdf ليصير ثقيلًا مناسبًا للطباعة، وهو برنامج بدائي تمامًا، ثم بدأت أعلم نفسي الفوتوشوب، ونقلت تصميماتي إليه، إلى أن تعرفت على الكثير من أسراره وبدأت أهدي بعض أصدقائي تصميمات لأغلفة كتبهم، وتطور الأمر شيئًا فشيئًا. كلها متع صغيرة تعوض الكثير مما فات الطفل الذي شق طريقه بنفسه، وخاض تجربة الحياة منفردًا.

عودة إلى الملف

مقالات من نفس القسم