سقوط قلم

maram shawky
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

مرام شوقي

-جلس على أحد كراسي المقهى القديم في السيدة زينب منتظرًا أن يظهر النادل ليطلب فنجانًا من القهوة ، أخذ ينظر يمينًا ويسارًا باحثًا عنه، لكن لم يجده.

 كان مُحَمَّلا بهموم الدنيا على رأسه، نظر إلى السماء، وجد القمر قد حاصرتهُ الغيوم فانطفأ نوره، قال وهو يزفر : حالُك لا يختلف عني كثيرًا أيها القمر، كلانا انطفأ نوره! أفاق من شروده على فتى صغير يتحدث إليه” تشرب إيه يا بيه؟”

“فنجان قهوة مضبوط”.

 

-تنهدت مُنى في حسرة وهي تتصفح ‘الفيس بوك” باحثة عن أخباره التي ملأت التطبيق الأزرق منذ الصباح.

شاهد الكاتب المشهور يتحرش بالفتيات في حفل توقيع كتابه الأخير“.

همَّت أن ترد على تعليقات المنشورات التي تهاجمه واصفة إياه بالوغد والمتحرش، لكنها تراجعت خوفًا من الهجوم عليها.

 

 -أحضر له الفتى الفنجان ووضعه أمامه ومعه كوب مثلج من الماء. تناوله بسرعة ، شربه كاملا كأنه يريد أن يطفئ نارًا تريد أن تشتعل بداخله، بدأ يفكر بهدوء “ماذا حدث؟” ردَّدها بداخله، كلُّ ما يتذكره ثلاث فتيات يقتربن منه في حفل التوقيع مبتسمات، كُنَّ حاملاتٍ روايته الجديدة راغباتٍ في توقيعها منه شخصيًا، رحب بهن بابتسامة وأمسك بالقلم للتوقيع، كن فتيات صغيرات في العقد الثاني أو الثالث من عمرهن على أقصى تقدير.

 

-ظلت منُى تبكي، هي تعرفه جيدًا وتعرف أن كل ما يُكتب عنه الآن في وسائل التواصل الاجتماعي افتراء، هي زوجته من أكثر من عشرين عاما، “ولكن هل أثرت الشهرة عليه؟ هل فعلها حقًا؟” تساءلت في صمت: هل تحرش بهن؟! هل فقد عقله؟!

يومها لم تذهب معه رغم حضورها لأغلب حفلات التوقيع كتبه، عاد ليلتها متجهم الوجه على غير عادته فسألته :ألم يكن الحفل جيدًا؟ قال: َمرَّ على خير مرتبكًا.

 

جاء صَبىُّ المقهى  وأخذ الصينية من أمامه: تأمر بحاجه تانية يا أستاذ؟

أجاب:”شوية بس”

اختار هذا المقهى في الحي القديم بعيدًا عن مقاهي وسط البلد التي تعج الآن بالمثقفين والكتاب والصحفيين الذين يلوكون  سيرته ما بين شامت وحاقد ومتعاطف ومدافع، هو بحاجه للهدوء حاليًا، يحتاج لترتيب أوراقه. هل يُدلي ببيانٍ صحفي، هل يصمت وينتظر مرور الزوبعة؟

تذكر أثناء عمله صحفيًا العديدَ من القضايا التي حقق فيها، كانت لنجوم ومشاهير تورطوا في أمورٍ أسوأ ومرَّ الأمرُ ونُسي بعد سنين، لكن لم يكن هناك هذا الزخم على ما يسمى وسائل التواصل الاجتماعي” ألا لعنة الله عليها” كم من الجرائم محيت قبل ظهورها. زفرها بصوت مقهور.

 

أعادت  مُنى مقطع الفيديو القصير مرات عديدة، إحدى الفتيات الثلاث تبكي وتنهنه قائلة: “مش عايزة أكتر من حقي، حقي وبس أنا كنت بحبه وبحترمه وماتخيلتش أنه يعمل كده

تطالبها التعليقات بعمل محضر في قسم الشرطة لينال جزاءه، ترد عليهم بالنفي مش عايزة أضيع مستقبله كفاية إن الناس تعرفه على حقيقته.

دق قلب منى بعنف حتى كاد أن يتوقف، هي لا تعلم هل تتعاطف معها أم تمقتها حقًا تشعر بتخبط كبير في المشاعر.

 

كان يجلس بجواره  مجموعة من الشباب يصيحون بصوت عالٍ تعليقًا على مقطع فيديو نشرته “البلوجر” عاليا أثناء تحرش أحد الكُتَّاب بها، طالب أحدهم الآخر بركوب “التريند” قائلًا

“احنا نعمل هاشتاج اسمه حق عاليا لازم يرجع وهنعمل تفاعل مذهل لصفحاتنا”.

أشاح بوجه في الجانب الأخر منهم خشية أن يتعرفوا عليه.

 

-تستعد عاليا في حجرتها المجهزة “بميكرفون” والعديد من حوامل الكاميرات لبث مقطع فيديو جديد تتحدث فيه عن الجريمة التي تعرضت لها وكيف أثرت على نفسيتها وجعلتها تفكر جديًا للذهاب لطبيب نفسي لتخطي هذه الصدمة.

وصل المقطع الذي نشرته عاليا لأكثر من مليون مشاهدة وأكثر منها قليلًا في عدد المشاركات، رن هاتف مُنى مئات المرات، أهل وأقارب وأصدقاء وهي لا تجيب ، تعلم جيدًا لماذا يتصلون؟ وليس لديها رد ولا دفاع فهو اختفى منذ الصباح، عندما بدأ انتشار هذا المقطع وأرسله له الكثير من أصدقائه في تطبيقات الرسائل.

بدأ الأمر من تطبيق “التيك توك” ثم انتشر كالنار في الهشيم على كل وسائل التواصل.

أين هو يجب أن يجيب ويشرح لي ماذا حدث؟ صرخت منى بصوت مسموع.

 

صفق  للفتى في المقهى وهو يسمع كلام الشباب، بدأ في استرجاع الموقف: سقط مني القلم وانحنيت لالتقاطه، وبعد صعودي سمعت صوتها وهي تقول: “أنت بتتحرش بيا؟

لم أجب عليها فقط صمت.

“الأستاذ الكاتب المعروف بيتحرش بيا حط أيده على مكان حساس في جسمي من ورا الترابيزة اللي قاعد عليها”

تسمرت مكاني للحظة ونفيتُ بكل ما أوتيتُ من قوة: “لم ألمسك ،ماذا تقولين؟”

ثم بدأت الفتيات بالصراخ هن الأخريات، بدا المشهد كارثيًا، كنت أشعر أنني أشاهد ما يحدث من وراء لوح زجاجي كبير.

“ولكن هل لمستها فعلا؟”

هذا حلم بل كابوس! تدخل بعض الزملاء والقراء لفض هذا الاشتباك، لكن الفتيات اختفين فجأة في وسط الجلبة وانسحبتُ أنا واعتذرت آسفا للحضور، ذهبت للمنزل، خجلت أن أحكي لمنى ما حدث ولكنني لم أعلم أن هذه الواقعة ستكون على صفحات التواصل الاجتماعي كلها بهذه السرعة لم أعلم أنها ستكون عليها أساسًا.

 

-تصفحت منى الحساب الشخصي لعاليا إنها في عمر بنتها تقريبًا لا تزيد عن 20 عامًا يطلق عليها هذا الجيل “بلوجر” تقوم بعمل مقاطع فيديو قصيرة تعرض فيها ملابس، أدوات تجميل، طعام، ترقص، لا تفهم منى كثيرًا من محتواها. لماذا تصور هذا الطعام أو ذاك؟

ما فائدة تلك المقاطع المصورة؟ قاطعت شرودَها ابنتها”ماما شوفتِ فيديو بابا

ابتلت عرقًا وملأت الدموع مقلتيها.

 

-جاء الفتى مرة أخرى “اؤمر  يا بيه؟ “

“شاي خفيف”

ظهرت له رسالة على تطبيق الرسائل الأخضر الشهير من صديق عمره “محمود” يحذره ألا يظهر إعلاميًا الآن، ولا يجيب على أي من الصحفيين حتى يتواصل مع الفتاة ويحاول إصلاح الوضع كما قال.

تساءل دون فتح الرسالة: “وهل يمكن إصلاح الوضع؟ ماذا سيحدث لي بعد هذا الانتشار السريع للمقطع المصور، أبنائي وزوجتي وأهلس، لقد وصمتهم بالعار للأبد كيف يمحى ما جنيت عليهم وعلى نفسي؟”.

 

قال: محمود  للمجموعة الجالسة معه” يجب أن نصل لهذه الفتاة ونقايضها على مسح المقطع أو نفيها له، أي شيء، رد أحدهم ولكنه جزاؤه! تغيرت ملامح محمود، علينا أن نسمع منه أولًا حاولوا فقط مع أحد الصحفيين لنحصل على رقمها الشخصي ونحاول إنقاذ الموقف قدر الإمكان.

 

تصفح تطبيق “الفيس بوك” على هاتفه ليتابع مستجدات المصيبة التي حلت عليه، منشور، اثنان، ثلاثة يقع بصره على صورة تجمع بعض أصدقائه القدامى من الجامعة في لقاء سنوي ينظمونه كل عام.

يبتسم ثم يكبر الصورة ليجد ألفت فيها، ضاق صدره فجأة وعاد بالذكريات لأكثر من 25 عاما، كان قد نسى تلك الحادثة تمامًا، كان يحبها فترة طويلة في كلية الآداب لكن لم تكن له نفس المشاعر مما استثار غضبه بشدة، هي مرتبطة بزميلهما محمد في علاقة مثالية، شعر بالغيرة والنار تتلظى بداخله، ألسنة من اللهب لا تتوقف فقرر أن يستغل تلك النيران قليلًا ويحرقهما بها ذهب لصديقه وأخبره أنها تحدثه كثيرًا وأثار الشكوك بداخله بطريقة خبيثة منتظرًا اشتعال النار بين الحبيبين، ثم قام بدعوتها في كافتيريا الكلية على كوب شاي بحجة أنه لا يستوعب محاضرات النقد ويحتاج لشرحها.

جلس بجانبها  وحاول الالتصاق بها وتعمد إسقاط القلم على الأرض ثم تحرش بها أثناء صعوده لعلها تستجيب له، ثارت ألفت ونعتته بالخائن للصداقة.

غاب عن الدراسة لأسبوع بعدها خوفًا من صديقه، خشى أن يعرف أحد بدناءته وخيانته  ولكن عند ظهوره بعدها وجدها تقف  كالمعتاد مع صديقه بطريقة عادية، تنهد يومها وقال “أهي غلطة وعدت وماحدش عرف” ولكن لماذا لم تخبر أحدًا؟.

قضى الأيام المتبقية في عامه الأخير بالجامعة يتجنب النظر إليها ولكن هل شعر فعلا بالندم؟

هو نفسه لا يعلم أحيانًا يشعر أنه سرق شيئًا ثمينًا منها، هو كرامتها، وأخرى يشعر أنه هو من أهدرت كرامته. في أخر الأمر نسى الأمر برمته.

 

رن هاتف عاليا منذ ذلك الوقت مرات أكثر مما رن في حياتها، صحفيون وإعلاميون يرغبون في تصريحات منها و”بلوجرز” يرغبون في دعمها كانت تبكي في كل مرة معلنة أن الدنيا مابقاش فيها أمان وأنها قد نشرت المقطع لتحترس  البنات من الذئاب البشرية التى تلبس   رداء الحَمَل وثوب الثقافة.

رن هاتفها هذه المرة مظهرًا اسم محمود جريدة…. على تطبيق إظهار الأسماء، همست لصديقاتها ان يصمتن ، ورسمت الحزن على صوتها مجيبة عليه:ألو

مساء الخير” قالها: محمود

أجابت: مساء النور

“عاليا معايا

“آه.. اتفضل”

“بالنسبة للفيديو شوفي عايزه إيه وتشليه من وسائل التواصل كده في مستقبل إنسان وأسرة هيضيع واحنا تحت أمرك ولو عايزاه ييجي يعتذر ونفض سوء التفاهم

صرخت عاليا في غضب “مستحيل اتحرش بيا، ويستاهل اللي يجراله وأغلقت الخط

حكت لصديقاتها  لقد أرسل لي أحد أصدقائه لأزيل المقطع، وحاول استعطافي أن مستقبله هو أسرته على شفا الانهيار.

أجابت إحداهن: يا عاليا أشعر بتأنيب الضمير لنشر هذا المقطع ربما أضعنا حياة إنسان فعلًا، ولا يستحق الأمر هذا.

نحتاج منك إجابة واضحة هل قام بلمسك فعلا وهل كان متعمدًا أم حادث غير مقصود؟

ردت عاليا بسرعة: بل يستحق! مقطع صغير نُشر جعلني مشهورة. في ساعات زادت حساباتي الشخصية بالملايين وقريبا ستقوم التطبيقات بدفع مبالغ طائلة لي وربما يعرض علىَّ عمل سينمائي أو برنامج يتحدث عن حقوق المرأة، أنت تعلمين جيدًا أنني أحاول أن أضع قدمي في هذا الطريق من فترة ولم يلتفت لي أحد رغم مقاطعي التي فعلت المستحيل لتنتشر، حتى الرقص لم يجنِ ثماره، كانت فرصة جيدة ولا مجال للتراجع الآن.

فلتحضروا شرابًا باردًا وننتظر نتيجة ما فعلناه.

مقالات من نفس القسم

عبد الرحمن أقريش
تراب الحكايات
عبد الرحمن أقريش

ألم

محمد فيض خالد
تراب الحكايات
محمد فيض خالد

كشف هيئة