سعيد بوخليط: الأدب العميق تسكنه الرؤية التبشيرية اللانهائية

موقع الكتابة الثقافي uncategorized 20
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

حاوره: بول مخلوف

التاريخ يحمل بعض المعاني والدلالات ويسير دوّماً إلى الأمام بحركةٍ دائرية منّظمة من أجل تحقيق أعلى أشكال المعرفة والحرية. هكذا قال “هيغل” المبشّر الأوّل للحداثة. أورث”هيغل” فلسفة التاريخ  للمشتغلين بالفلسفة من بعده وسرعان ما تبلوّرت أنساق فكرية جاءت على شكل أنظمة شمولية معَولمَة عرضت نفسها على أنها  حلم الخلاص الوحيد بيدها مفتاح الملكوت،  إلا أن الإنسان بقي مسلوب الإرادة،  “مقذوف في العالم” كما قال جان-بول سارتر

لا تحتاج إلى الكثير من الوقت ولا إلى قراءة ممعنة في مسار العالم لتلحظ أن ما يجري اليوم ليس سوى سقطة مدويّة لتيارات فلسفية كبرى وعدت بالنعيم وسرعان ما تبيّن أن فجواتُ بديهية قد تكون على شكل فيروس ممكن أن تطيح بكل جذورها. في ظل هذا الواقع الذي يتركنا معلّقين أمام القلق من أن تأتي النهاية غداً، والندم على خيارات سياسية بدت الآن أنها قرارات وجوديةٍ بامتياز لقدرتها على تسيير أحوال التاريخ، لا يمكننا سوى استحضار أفكار وهموم مفكرين أصرّوا على إعادة تصويب الحداثة ووضعها على السكة الصحيحة، أبرزهم “جان لوي-ليوتارد” ومفهومه للسرديات الصغيرة  التي تتجلّى “بالحدث”أي ولادة لحظة عفوية  تكون بمثابة الضربة القاضية  لمقولات السرديات الكبرى ووعودها،  تماما ًكما يحدث اليوم تحديدا من الممكن أن يكون فيروس كورونا هو نجم المرحلة الراهنة،  لكن في التحليل الأخير من تباهى بصعوده إلى القمر واقتناءه قنبلة هيدروجينية تشجب الأوكسيجين من الهواء بثوان معدودة هو في حالة زعزعة وضياع. العالم يعيش حروبا،  واستعمار. في مكانٍ ما في هذه اللحظة يوجد في حقول القمح في أميركا حيث يعمل المزارعون إنترنت – وهم بغنى عنه – لكن هنالك أطفالًا يموتون جوعاً وعطشاً ومرضاً. الصحف تناقش أي بصيرة رأت المستقبل أفضل؟ هل الأفضلية كانت لعين أورويل أم لهاكسلي؟ الذاكرة الجماعية تستحضرها أفلام “الساينس فيكشن” وكلمة “جائحة” تتصدر المرتبة الأولى على في معجم البشرية اليومي. إننا نعيش “الحدث”،  إننا في داخل هذا “الحدث” ووقتنا كله مكرّس لأجل الصمود. إذا ما أتى مستقبلاً  وكان على المؤرخ أن ينعت المرحلة الراهنة فيه،  لا شيء أفضل من عنوان “حضارة الديستوبيا عام 2020”،  لكن حتى ذلك الوقت لا أحد سوى “ماكبث” يمكنه وصف استنتاجا في لحظات ما قبل النوم:” الحياة قصة يرويها معتوه،  مليئة بالضجة والغضب ولا تعني شيئا”ً

الديستوبيا كما فرضت نفسها علينا، كواقع يومي مُعاش وليس فكرة خيالية قائمة بذاتها،  عن أحوال العالم وعن الرأسمالية الذي يهددها فيروس كان لنا هذا الحوار مع الباحث والمترجم في الشؤون الفلسفية والعلوم الإنسانية،  سعيد بوخليط

س منذ العام الماضي تقريبا والعالم كله لايهدأ. المنطقة العربية مشتعلة بالحروب،  إفريقيا مازالت تحت وطأة الاستعمار، بحيث تعاني مجتمعات الأنظمة العربية إما من حركات احتجاجية عنيفة رافضة أو من ولادة غير مطمئنة لنزعات يمينية متطرفة، وهاهو وباء يدعى ”كورونا”ظهر فجأة مهددا بإنهاء حياة الجنس البشري، ألا تعتقد أننا أمام واقع لايمكن وصفه سوى بالديستوبي وأن الخيال بات متأصلا بكل جنوحه في الواقع؟

ج-أعتقد بأن مآل الديستوبيا أو المدينة الفاسدة الذي أدركناه، بمختلف تفاصيله المكتملة؛ مع اجتياح وباء كورونا للعالم، خلال الأسابيع الأخيرة، لم يكن في الحقيقة مباغتا أو غير ذي معنى أو بلا مقدمات منطقية، بل على العكس؛لم يكن العالم قبله سليما معافى، ومختلف وقائع العقدين الأخيرين، مع تكريس نسق العولمة بخلفيته الاقتصادية المتمثلة في مرتكزات الليبرالية المتوحشة ذات النزوع التوتاليتاري الواحدي؛المحكوم فقط بحافز الجشع.أقول، بأن انهيار المدينة الذي نعاين حاليا تجلياته أمام عجز الجميع،  وكأننا حقا نختبر فعليا على أرض الواقع،  ماأخبرتنا به الأساطير ونحن أطفال،  عن نهاية العالم.فظيع جدا،  حقيقة،  ماتكابده البشرية قاطبة، والعجز العلمي عامة ثم الطبي خاصة، مما جعلها لقمة سائغة تحت وطأة الاكتساح الجهنمي لحقيقة افتراضية؛ وسطوة جسم ميكروفيزيائي دقيق جدا، في منتهى الصغر، لم يتم حتى الآن تحديد مختلف خريطة بنيته الجينية والعضوية.إجمالا، النتيجة الحالية حتمية، ولم نخسر أصلا عالما جديرا بالحياة،  مادام قد صار في نهاية المطاف؛ مسرحا قذرا لرهانات:مافيات معينة تمسك بمصير ملايير البشر، شركات وبائية عابرة للقارة ومجهولة الاسم ترسم بأرباحها الخريطة الجيوبوليتيكية، أرقام فلكية توجه إلى دعم نزعات الموت،  اختلالات إيكولوجية رهيبة،  تعميم الحروب،  قوافل اللاجئين والمهاجرين اللاشرعيين بلا أوطان، وخلفهم حشد هائل من الأطفال بلا مستقبل أو أمل، تعميم أسواق النخاسة ومواخير الدعارة، إلخ. بالتالي، فتفشي كورونا على طريقة النظرية الفيزيائية المعروفة بنظرية تأثير الفراشة، أسقط آخر أوراق التوت،  وكشف بلا رياء عورة الجميع، دون أدنى لبس أو مواربة. 

س-لقد ترجمتَ مؤخرا مقالا فيه مراجعة لأبرز الروايات التي تحدثت عن الطاعون كجائحة تصيب الفرد وتهدد حياة المجتمع مثل روايتي “الطاعون” لألبير كامو، أو ”الطاعون القرمزي”لجاك لندن، فمن بين مختلف هؤلاء الكتاب، أي واحد منهم تشعر بأن روايته تشبه واقعنا اليوم؟

ج-أذكر بأني قرأت أول مرة رواية الطاعون لألبير كامو، بداية سنوات 1990، إبان أولى سنوات دراساتي الجامعية، وقد استعرتها من خزانة عمومية موجودة في مراكش.خلال تلك الفترة من حياتي، كنت متأثرا جدا بالفلسفات الوجودية والتيارات التشاؤمية، فاتجهت أغلب قراءاتي إلى عناوين سارتر وكامو وهيدغر وكيركجورد  وبيكيت وكافكا ويونسكو وعبد الرحمن بدوي…. تمثلتُ العالم أساسا باعتباره خواء وعبثا لامعنى له، واستحضرت بمعية جانب من تلك النصوص لاسيما مع كامو، هاجس الانتحار كطوق نجاة للتخلص من ورطة الوجود؛إلى درجة أني اختبرتُ حينئذ تجربة من هذا القبيل لم تكن بالقوية.انقضت سنوات، وخلال صيف سنة 2018، عثرت صدفة لدى أحد باعة الكتب القديمة، الترجمة التي أنجزها سهيل إدريس لطاعون كامو، لم يكن ممكنا أن أتردد دقيقة واحدة، كي أهرع بها نحو المنزل وإعادة قراءتها ثانية، لاسيما أن صاحب دار الآداب؛ يعتبر من أدق العارفين عربيا،  بدقائق تلك النصوص وكنه رؤيتها الأنطولوجية.أظن،  بأنها رواية تأرجحت بين خلفيتين مضمرتين:أولا،  حدد هذا النص مفهوم الوجود باعتباره مجرد تجسيد مستمر لصخرة سيزيف،  بحمولتها العبثية،  فالطاعون الذي اجتاح مدينة وهران سنة 1947، أتاح المجال واسعا بلامعنى أمام ماكينة الموت؛كي تحصد الناس بلا هوادة ويتساقط البشر تباعا كالجرذان. فلماذا حدث ماحدث؟.أما الشق الثاني، فيتمثل، مثلما صرح كامو نفسه، في الكشف عن وباء النازية، إبان احتلال الألمان لباريس سنوات الأربعينات يقول، بهذا الخصوص،  شارحا جانبا غير معلوم من روايته، عبر فقرات رسالة بعث بها سنة 1955، إلى رولان بارت:”الطاعون أشبه بمحتوى واضح عن نضال المقاومة الأوروبية ضد النازيين.الدليل، أن العدو الذي لم تتم تسميته، اكتشفه كل العالم، وعلى امتداد جل البلدان الأوروبية.يمثل الطاعون، وفق دلالة معينة، أكثر من مجرد سجلّ للمقاومة،  وبالتأكيد ليس أقل من ذلك”.إنها ذات المقارنة، التي أوضحها مؤخرا إدغار موران في إطار نقاش شخصي مع جاك أتالي:”ألم تلاحظ بأن فيروس كورونا، يشبه الغيستابو.لانراه قط.نعلم أنه يتسكع على مقربة منا.نأخذ مختلف الاحتياطات الممكنة بهدف تحاشيه.ثم سرعان،  مايباغتنا !لقد داهم المكان،  فنتوارى هاربين.صاحبني الحظ كثيرا خلال ذلك الزمان”.ولأن الأدب العميق والرصين، تسكنه منذ البداية، الرؤية التبشيرية اللانهائية، المصاحبة للحياة الإنسانية.فقد أخبرتنا وسائل الإعلام، بأن رواية  الطاعون، تتصدر اليوم واجهة المكتبات في فرنسا وإيطاليا وإنجلترا، كما أن ”دار بنغوين”أسرعت إلى إعادة طبع الرواية. 

س –هذا التعامل مع القضايا من خلال الخيال غالبا مايتضح ليصبح استشرافا للمستقبل، برأيك على ماذا يشتمل هذا الحدس ؟ ومن أين ينبع؟

ج-أظن بأن استحضار الهاجس الإنساني، أولا وأخيرا، ضمن أي اشتغال، يمثل ترياقا شافيا؛من جل العاهات التي تربصت بنا دائما.فلا خلاص للبشرية، سوى بإصغائها لصوت الذات العميق، الشفاف جدا والصادق للغاية، وقد تخلصت تماما من مختلف نزوعاتها المادية الضيقة، والاحتياجات الروتينية اليومية الزائفة.صوت نبيل وجد منتبه؛ ظل مبحوحا وهامشيا، خلال عقود تغول الليبرالية المتوحشة وهي تبث أدبياتها التشيئية.في المقابل، فُتح المشهد على مصراعيه، للذئاب ومصاصي الدماء والصيارفة والميركانتليين وحراس المعبد المادي والقتلة والدجالين والتافهين والسطحيين والغوغائيين وصغار العقول وشتى مهندسي تجليات العهر الفكري والمادي.

س-ليس هنالك وقت يصح أكثر من الآن، فأكثر من ملياري شخص قابعين في منازلهم، لمشروعية ودقة مصطلح”العالم بأسره عبارة عن قرية واحدة”.يبدو أن وباء”كورونا”أنجز ماحلمت به العولمة بتحقيقه، وفي الواقع لانشعر سوى بالهلع والخوف ومواجهة عدو غير مرئي من خلال البقاء في حجرنا الخاص والابتعاد عن الآخر، وكأننا تماما تحت سيطرة ديكتاتوري مستبد سلب منا حريتنا بالقوة.كيف يمكننا التعامل مع الحرية اليوم؟ماهو مفهوم الحرية اليوم؟

ج-قاعدة الحرية الحقيقية، كما صاغتها الفلسفات والأدبيات الثورية، واستوعبها الأفراد الأحرار حقا،  تبدأ مطلقا من الداخل وتنتهي إلى الداخل، بمعنى أن الحرية منبعها الفرد أولا وأخيرا،  فلا يمكن بتاتا خلق مجتمعات حرة؛دون وجود أفراد يحسون أولا بكونهم أحرارا بالمطلق،  بغض النظر عن حيثيات لعبة المكان وامتدادات الواقع الموضوعي.أو بمعنى ثان،  تسير وفق جدلية الحرية الفردية والجماعية؛ مسارين متداخلين خلاقين.ولذلك، فمفهوم الحرية اليوم، ثم كيف السبيل إلى الاشتغال عليه، واستيعابه على نحو فعال وملموس؛يتجسد في فتح سجال عميق مع الذات.لذلك أكاد أجزم؛ بأننا لم نخسر أي امتياز، مع هذا الاحتجاز الكلياني الكوني، جراء كورونا، فالحرية قضية ذاتية، جوانية، دون الانقياد وراء وهمية فسحة الفضاء العمومي كما تكرس مع عولمة الليبرالية المتوحشة.   

س-بسبب الإجراءات الوقائية المتبعة من أجل سلامة الأفراد، علقت يافطة في إحدى صالات السينما في نيويورك مفادها:”السينما مقفلة إلى حين استعادة الحياة لطبيعتها، وليس كما تبدو عليه الأفلام”.في رأيك، نحو أي جانب يلزم أن ينصب عليه وعي البطل/الفرد، إلى الخارج أي نقد السياسات الاجتماعية-الاقتصادية، التي ترزح المجتمعات تحتها، أم صوب الداخل أي أن يعيد تقييم نفسه من جديد و إعادة النظر في سلوكه؟ 

ج-يتعلق الأمر، بمسألة وعي مجتمعي حاذق جدا، منتبه للأسئلة الأنطولوجية.حقيقة،  الجميع مذنب، وكل واحد من موقعه الخاص؛يتحمل وسيتحمل نصيبا مما يجري في هذا العالم.المسؤولية مشتركة، يتقاسمها الجميع وفق جدليتي الذاتي والجماعي، الخاص والعام، الجواني والبراني.قيل دائما:”من يحب الحياة يذهب إلى السينما”.لكن للأسف، وبين عشية وضحاها، أضحى ولوج السينما حاليا، استحضارا للموت بكل الحواس؛وقتلا للآخر بحكم إمكانية انتقال العدوى.لكن السؤال المطروح بحدة على مجتمعات التخلف، التي ننتمي إليها، أقصد شمال إفريقيا والشرق الأوسط،  يحاكم لامحالة وبحدة أنظمة الحكم على امتداد تلك البقعة الموبوءة جروحا وانكسارات وفيروسات الفساد، قبل كورونا بسنوات طويلة، بخصوص انعدام مشاريع مجتمعية بناءة، كان يفترض تأليفها بين ديمقراطية السياسي ونجاعة الاقتصادي وذكاء الثقافي وعمق الفني وتمدن الإيتيقي،  تفرز من جوفها مواطنا سويا؛تحركه قيم المواطنة والمروءة، يدرك جيدا مايقع حوله وكذا احتمالات المستقبل.لربما، توفر اليوم بكل يسر، جنس بشري قادر على استيعاب إشكاليات القائم وخبايا الطارئ، في إطار ديمقراطي تسوده روح المواطنة. لكن للأسف الشديد، انتقلت هذه الشعوب فقط من حصار كبير إلى حصار آخر أكبر منه، لأن اتجاه أنظمة الحكم وتحالفاتها الطبقية، انصب خلال زمان ماقبل كورونا، على تجفيف منابع الحياة كيفما أينعت، والدأب على تسميم الواقع، بهدف خلق أقوام من الزومبي، لاترى ولاتسمع ولاتتكلم، وتشييد مجتمعات الكراسي الفارغة، حفاظا على استمرار كراسي حكمها.لذلك، ستؤدي الشعوب، اليوم كالغد مثلما البارحة؛ثمنا غاليا طيلة السنوات المقبلة بعد انقضاء لحظة عولمة كورونا.

س-لقد صرح بوريس جونسون، بما خجلت عن قوله النخب الأوروبية مجتمعة.فقد أفصح عما تضمره الأنظمة الليبرالية عند المس بمصالحها من خلال الاعتراف بأحداث الواقع والتسليم بأمرها.إذ قال: “هناك عائلات و أشخاص نحبهم سيموتون قبل وقتهم”.يعيدنا هذا التصريح إلى نهج القوة كمفهوم البقاء للأقوى الذي يعارضه مبدئيا النظام الديمقراطي المفترض أن يوفر لأبنائه الرعاية الصحية الكاملة كحق مقدس دون أي تمييز على الصعيد الطبقي.هل نحن قادمون خلال المستقبل القريب على حكم سياسي يجسده طاغية؟

ج-نعم،  كان تصريح جونسون المعروف أساسا بالدعابة والعفوية، مؤلما جدا يتسم بطابع جنائزي، للمفارقة !جونسون نفسه أصابه الوباء.من ناحية، ومهما تعددت التأويلات، فقد عكَسَ جونسون في اعتقادي الشخصي؛نموذج القائد الذي يتكلم مع شعبه بكل تلقائية وصراحة.ذكرني صنيعه، بخطب تشرشل والجنرال ديغول، خلال مواجهة النازية، حقبة الحرب العالمية الثانية.أما من ناحية ثانية، فقد أبان اجتياح الوباء، عن عجز المنظومة الصحية الغربية، التي توهمناها، طيلة عقود بأنها جبارة لايشق لها غبار، بحيث حسمت المسألة الصحية.غير أن التهديد الحالي،  الذي يمس بقاء النوع البشري،  أوضح بأن النظام الرأسمالي وصل مراحله الأخيرة، واستنفذ مختلف ذخيرته، مما يحتم إعادة النظر جذريا في كثير من البداهات المكرسة.فكم هي تريليونات الدولارات التي أنفقها الغرب الرأسمالي من أجل تطوير فاعلية أسلحة للدمار الشامل؟وكم هي تريليونات الدولارات التي أنفقت لشراء أسلحة مكدسة حاليا في المخازن والأقبية؟وكم هي ملايين الدولارات التي بعثرت بلا طائل،  يمينا وشمالا، بهدف تمويل حركة انقلابية، وإسقاط هذا النظام أو ذاك؟نكاية فقط في الاختيارات الحرة للشعوب.كم هي الأموال الطائلة التي أحرقها الاستبداد العربي سنة 2011، بهدف خوض صراع دونكيشوتي(نسبة إلى دونكيشوت)، كي تتقعر أكثر فأكثر مؤخرة الكراسي المشروخة أصلا، ويستمر خواء الاستنزاف.عموما، مع جائحة الركود الاقتصادي الناجم بلا ريب عن حصار الوباء، فلا خيار أمام الأنظمة سوى تأبيد قانون حالة الطوارئ، وتجميع كل السلط في يد الأجهزة القمعية والمخابراتية، كي تفعل ماتشاء بالجياع، دون حسيب أو رقيب، وبالتالي مزيد من التضييق على مؤسسات الدولة المدنية.

س-بالحديث عن الليبرالية الديمقراطية، ادعى بعض عرَّابيها والمروجين لها أمثال فوكوياما، بأن حركة التاريخ انتهت مع هذا التيار، نظرا لنجاحه في بلوغ سدة الحكم، بينما أخفق المعسكر الثاني في الاستمرار.هل تعتقد بأن عجز هذه الليبرالية الديمقراطية عن تحقيق الأمان والحجات لشعوبها وعدم قدرتها على مواجهة الأخطار الداهمة، ستسرع فعلا بنهاية التاريخ البشري؟

ج-عندما سقط نظام القطبين،  بداية التسعينات،  مانحا تتويج الانتصار للولايات المتحدة الأمريكية،  بادر فعلا فوكوياما المفكر الأمريكي ذي الأصول اليابانية؛ إلى الدفاع عن أطروحته التي عنونها ب”نهاية التاريخ والإنسان الأخير”، قصد التنظير لانتصار المعسكر الليبرالي بزعامة أمريكا،  وصياغة نظريته الهيغيلية الشمولية،  التي تعكس أساسا وجه نظر المحافظين؛بالإعلان عن نهاية التاريخ ودعوته إلى عولمة الديمقراطية الليبرالية. هكذا،  تسلمت الدوائر العليا في واشنطن، الإدارة المطلقة لتدبير مصير كل الأمم.غير أن هذه الليبرالية الأمريكية، فقدت البوصلة ودخلت متاهات الارتداد؛ بأكلها نفسها،  حتى بلغنا الحرب العالمية الثالثة التي نتابع أطوارها آنيا؛بعد سلسلة أزمات دورية.إذن،  بمناسبة سياق جائحة كورونا،  أكدت كتابات العديد من قارئي السياسة الدولية والفلاسفة و السوسيولوجيين، على أن العالم بصدد ولوجه مرحلة نوعية مختلفة تماما عن ماقبل كورونا،  وأن نظاما جديدا غير الذي عرفناه طيلة العقود الثلاثة الأخيرة بصدد التشكل، وأولى ملامحه في مرحلة التكون، وبالتأكيد لن تزيغ آفاقه عن الإطار التالي:

* لن تستمر الولايات المتحدة الأمريكية، القوة الأولى في العالم.والتوزيع الجيو-سياسي للمنظومة الدولية، سيعرف تحولات بنيوية.   

* إعادة النظر في منظومة الاتحاد الأوروبي؛نتيجة تخاذل موقفه من إيطاليا وإسبانيا.  

* صعود التيارات القومية و الشعبوية والدينية.  

* ثورات شعبية جارفة في المنطقة العربية، وحتما سقوط أنظمة.

س –عندما بلغت الاحتجاجات الشعبية ضد النيوليبرالية، أوجها في التشيلي، كتب شعار على الحائط يقول:”إنها ليست الكآبة بل إنها مرحلة الرأسمالية”.هل توافق على هذا الشعار؟ماتعليقك؟

ج-فعلا،  إنها الرأسمالية التي لاتتوقف عن افتعال حاجات زائفة،  لانهائية، من أجل تسمين عجلها الذهبي،  فإنها تعمم ضمنيا لدى البشري الإحساس المؤرق باللا- اكتمال،  ومن ثمة لانهائية السأم والضجر، مادامت ماهية الرأسمالية، تستند على تهذيب الوهم، والتأجيل الدائم للسعادة.فأساس الرأسمالية وفق صيغتها النيو- ليبرالية،  ينهل من خلق فجوة غير قابلة للردم بين الفرد وكذا السياق المجتمعي، وإضعاف مناعة صموده أمام فوبيا الاستهلاك.    

س-لابد من الإشارة إلى النزعة العدمية التي بدأت تطغى على حياة الأفراد وتتضح معالمها في أبسط بديهيات الخطاب اليومي، وعدم اكتراث بالمستجدات، وكأن وجوده مجانيا.ألا تعتقد أن ذلك يعود إلى فشل المؤسسات خصوصا على الصعيد السياسي والإداري،  بإعطاء مجتمعاتهم وقتا كافيا بعيدا عن إنتاجهم، ليكتشفوا من خلالها معنى لحياتهم؟

ج-الحس العدمي متأصل في بنيان الوجود الإنساني، غير أنه قد يتسيد أو يتوارى إلى الخلف، والأهم ضرورة بقائه عند السؤال الميتافيزيقي، المتعالي، دون سقوطه في حضن براثين الإسفاف والابتذال الإيديولوجيين، لحظتها يتأزم الوضع الإنساني؛ويغدو وباء على نفسه.بحيث يكتسي منظومة عقيدة توتاليتارية قاتلة، تنشر الموت، مادامت تحاصر الهويات وتغتال العقل وتبث روح التشاؤم في كل مكان. أود التمييز بين العدمية كسؤال ميتافيزيقي؛ثم انتقالها من دائرة الذات إلى الموضوعي؛وأخيرا انحرافها نحو الإيديولوجيا.إنها تنتعش كالطحالب وسط المستنقعات الراكدة، أزمنة الصدمات الكبرى التي تشل قدرات التفكير البشري.أيضا، تراكم أرباحها على طريقة تجار الحرب، لأنها تنتعش في السوق السوداء مستفيدة بالدرجة الأولى من النكبات.أبرز مثال،  الفاشية والنازية والأصوليات الإرهابية.

س –هل نحن إذن أمام ملامح الفرد العدمي الحديث الذي تحدث عنه سيوران،  أو أننا سنتفاجأ بظهور سوبرمان نيتشه؟

ج-لاأظنه تباين بين التوجهين والتصورين، بل تحتم صيرورة الحقيقة الإنسانية، تزاوجا تكامليا بين العدمية كحس ميتافيزيقي عميق يخلخل الأنساق المغلقة التي تتوخى اغتيال الإنسان في جوهره الخاص،  أفق يمنح الذات مجردة عن أي انتماء؛مجالا رحبا لتأمل مصيرها المنتهي حتما غاية الموت.ثم في نفس الآن، يحتم وضع من هذا القبيل،  التحلي بروح نيتشوية متوثبة باستمرار؛كي ترسم الذات مسالك أخرى غير سبيل هذا العدم الذي يكتنفها من كل جانب.    

س- في الحالتين معا، هل ترى أننا أمام  إمكانية ولادة طليعية جديدة تقدم تصورا مستقبليا مختلفا في المستقبل القريب ؟إذا كان جوابك بنعم، من هم دعاته برأيك ؟وماهي ميزته؟

ج-يصعب الجزم، لأنه خلال اللحظات مثل التي نعيشها حاليا، تتنافس أصوات كثيرة بهدف تقديم أجوبة كثيرة لأسئلة ملحة، وغالبا ماتتسم الإجابة بداية؛بالانفعالية واللاعقلانية.لكن، مع اتساع مساحة التأمل وتوضح أبعاد المشهد.حينذاك، تصمت كل اللغات، لصالح خطاب الحكمة والتروي والنضج ووضع المعطيات ضمن خانتها الصحيحة.لكن، المفارقة غير القابلة للحسم، أن البشرية سرعان مايداهمها النسيان وتعود إلى ارتكاب نفس الحماقات.  

س- إذا كان لابد من تغيير بنية الأنظمة أو ظهور نموذج مختلف فور انتهاء هذه الأزمة، هل تعتقد أنه سيأخذ بعين الاعتبار نظرية باشلار عن القطيعة المعرفية ويرتكز هذا النظام الجديد على مقومات حديثة غير تقليدية، فيكون بذلك قد أخذ بعين الاعتبار كل النظريات المابعد-حداثية التي قوضت الحداثة ؟  

ج-جيد، أن سؤالك استحضر مفهوم القطيعة الابستمولوجية الباشلارية، الذي شكل آلية منهجية في غاية الفعالية والتثوير أكثر من التطور، أمدت الصرح المعرفي بحلول إجرائية، أخرجته من الباب المسدود،  الذي أدركته العلوم الدقيقة بداية القرن العشرين بسبب النظام المعرفي لمقتضيات إشكاليات اختلفت طبيعتها عن التي تمحور حولها العلم الكلاسيكي.أود القول، على ضوء ذلك، بأن باشلار يمثل فيلسوف التوافقات العظمى، فقد استطاع بعقلانيته المنفتحة المرنة والتطبيقية، إيجاد أرضية وحدت المعارف ضمن بوتقة خلاقة، ومن خلال ذلك، استثمار منصف لمختلف الملكات التي تميز تعددية الكائن الإنساني، في إطار القطبين الكبيرين: العلم والأدب، أي الذكاء والجمال، العقل والخيال….تأسيس لايتوقف، يهذب الكيان الإنساني في أبعاده المتكاملة والمتوازنة.

س- بالعودة إلى سؤال المعنى، الذي يبدو الآن مناسبا، أكثر من أي وقت مضى، فما معنى الفلسفة اليوم؟

ج-الإنصات الدقيق للأسئلة التي تطرحها مستجدات الحياة البشرية، وعدم التوقف عن دق ناقوس الخطر.

س- كلمة أخيرة؟

ج-وأنا منكب على تدبيج أجوبة هذا الحوار، قصفتني الفضائيات بخبريين تراجيديين؛كالتالي:

*طبيب أمريكي في مستشفيات نيويورك؛ يرتدي أكياس القمامة، احتماء من عدوى مرضى كورونا !…

*انتحار توماس شيفر وزير المالية؛ لولاية هيسن، وقد استشعر من الآن، مثلما شرحت بعض التقارير الإعلامية، رعب الكارثة الاقتصادية التي سيخلفها الوباء….

أمام حدثين من هذا النوع،  لايمكن للواحد سوى الانكفاء على ذاته؛صمتا وتأملا،  والشرود بعيدا؛حقا بعيدا جدا.         

مقالات من نفس القسم