حاوره : خلف على حسن
منذ بدأ الكتابة الإبداعية فى منتصف الستينيات، ظلت قريته تلازمه كأنها عقدة زمن، فى كل كتاب ينهل منها، ليسطر لنا حكاية جديدة عن جماعاته المغمورة والمهمشة وناسها المعذبين، يحضره دائما حنين جارف إلى زمن مضى، يقطره بحكمة فى ثنايا نصوصه وكتاباته، ورغم ما شهدته القرية المصرية من تغيرات طرأت على طبيعتها فى الوقت الراهن، تظل قرية القاص سعيد الكفراوى التى يوثقها للتاريخ فى كتابة أشبه بالأيقونات، آخرها مجموعته القصصية «شفق ورجل عجوز وصبى» التى جمع فيها ٣٤ قصة منتقاة من مجموعاته المختلفة، تلك القصص التى يلونها الحنين وجدليات الحياة والموت.. عنها وعن الفضاءات يدور هذا الحوار:
■ مجموعتك الأخيرة «شفق ورجل عجوز وصبى» عبارة عن مختارات من قصص السابقة.. لماذا الإقدام على هذة الخطوة؟
– هذه الخطوة قام بها الناشر لإحساسه بالظلم البين الذى يقع على القصة القصيرة، بأن ليس لها رواج على المستوى الثقافى، وخارج اهتمام القراء فى وقت يطلق النقاد على تلك الفترة زمن الرواية.
■ فى كتابك «حكايات عن ناس طيبين» أحوال لعدد ممن اقتربت منهم مثل «نجيب محفوظ ويحيى حقى» وغيرهما، وهناك أحوال مصدرها التاريخ مثل شجرة الدر وفاطمة إسماعيل إضافة إلى الناس المجهولين.. فهل حكاياتك مصدرها الناس أم موضوعها الناس؟
– تأملى للبشر من حولى يشكل ذاكرتى التى أبحر من خلالها لأطل على الدنيا، عاشرت «نجيب محفوظ» فى لقاءات امتدت لسنوات، وقابلت «يحيى حقى» وأكرمنى بطيبة الأب والمعلم، آخرون كانوا بالنسبة لى مفجرين للذكريات مثل «محمد عفيفى مطر» فهو مثال لذاكرة العمر فى الحياة.. كذلك الخالة «خضرة» التى أرضعتنى حين جف لبن أمى، وكانت مع اللبن تعلمنى الفهم، وتشير ناحيتى وأنا مع أول الخطو، تقول ضاحكة وسعيدة «هذا لبنى يمشى على قدمين»، وكانت تحممنى وتجفف جسدى قائلة «لولا النور ما كان الظلام والرحمة بين الناس».
■ تمثل القرية القديمة إحدى تجليات أعمالك، برأيك لماذا أصبحت تلك القرية الآن خارج سياقها، خصوصا أن ١٠ ملايين فقير يعيشون فى قرى مصر؟
– أنتمى لقرية قديمة تكاد تختفى، إن لم تكن اختفت بالفعل، بعض الأماكن من الماضى لاتزال موجودة، فكثيراً ما أتوجه إليها لمعاينة زمانها وبشرها كذلك أنتمى لعدد من الكتاب يحافظون على ذاكرة القرية مثل خيرى شلبى ويوسف القعيد ومحمد روميش وعبد الحكيم قاسم، وقبل كل هؤلاء يوسف إدريس، كلنا خرجنا من هذه القرية، من بيوت الطين وسكك الروح والكتاتيب القديمة، وتكونت ذاكرتنا من لهجات الكلام، ومضامين الحكايات، ولون أيام تلك الحقب التى مضت من أعمارنا، وكل هؤلاء منشغلون بالحفاظ على ذاكرة تضيع وبشر يذهبون للنسيان، يأتون بالماضى ويثبتونه على الورق كأنه الصوت الذى يجىء من بعيد وحين تفنى تلك المراحل ستجد تلك القرية موجودة على الورق، والآن ليست القرية القديمة هى من تحول معظم سكانها إلى فقراء، بل القرية المستحدثة، وأغلب المصريين الآن فقراء يعيشون هزيمة روحية، لم تكن على بالهم، ولم يقدر لهم أن عاشوها من قبل.
■ أنت شاهد عيان لما وقع فى مصر فكيف عبرت بالكتابة عن المتغيرات التى شهدها الوطن؟
– صدقنى، أنا فى أحيان كثيرة أتأمل أحوال بلدنا العزيزة، وأشعر بالحزن، أصابتها الشيخوخة وحل بها الوهن.. أنظر لأحوال الناس وتلك الفوضى العارمة التى نعيش فيها…أحتار كثيراً فى الأسباب وأتساءل: هل من الممكن أن تكبو الأوطان العظيمة لكى تصل إلى هذه الحال؟ «هل الحق على الناس ولا الحق على الحكومة، أم أن الحق على الاثنين؟» هل تذكر ما جرى مع الجزائر؟ عندهم وعندنا.. إنه شىء لا معنى له، إلا أن نكون قد بلغنا درجة من سوء الأحوال الشديدة – لقد تركنا القيادة الإعلامية فيما جرى لعدد من الذين كانوا لعيبة، وهم لا يعرفون الموهبة الإعلامية لا فى تليفزيون الحكومة، ولا على الشاشات المستقلة – وكما تعرف أنه قبل ذلك، حدثت رحلة المصريين للخارج وكأننا فى الزمن العثمانى، واكتسح الإسلام السياسى الوجه الليبرالى، وفى يوليه استبدل الحاكم نفسه بالأمة، وشكلت سياسة الانفتاح ضربة للقيم التى كان يعيش بها المصريون، فانتهى الأمر بالبعض إلى الثروة والفساد، وجاء الإعلام القبيح بوجهه المغيب للوعى، وتجذرت سينما المقاولات، وأغنية التفاريح والرقص، وغابت الثقافة وإبداعها الجيد، وأصبحت أقدام أى لاعب كرة أكثر قيمة من رأس مبدع أو فنان كبير.
يا سيدى هناك فرق وأنت تعيش الآن خارج الزمن، وسط منافسة مرعبة تقودها الثروة والعلم فيما أنت تغط فى «الشخير».. شخير نسمع صوته فى الأنحاء العربية بين شماتة البعض، ودهشة البعض الآخر، فكيف أن الحرية تتراجع من كثرة المطالبة بها؟ وكيف السعى للنهوض يترجم تقهقرا؟ وكيف أن مقاومة الغزو الثقافى تؤول إلى زيادة التبعية للغرب، هكذا هى الأمور التى أراها الآن، فى واقع دون حرية، لا تتداول به السلطة، وتغيب فيه كل شروط المجتمع المدنى، وأرى بعينى فى مساحته، انهيار التعليم وضياع حقوق الناس.
■ هل كان ذلك نتيجة ثورة يوليو التى قلت عنها من قبل «مضمون ثورة يوليو الاجتماعى خدعنى أنا شخصيا وانتهى أمرنا لما نحن فيه»؟
– أنا من أبناء ثورة يوليو بالتأكيد، تعلمت فى ظلها، وآمنت فترة من حياتى بقيمها عن العدالة الاجتماعية والتحرر الوطنى ومقاومة الاستعمار والأفق المفتوح على الحرية الموعود، وعشت ردحا من الزمن، أصدق الرئيس بالذات عندما كان يصارع العدو الصهيونى، وقوى الاستعمار العظمى.. وكانت تبهرنى لمعة عينيه، وهو يخطب فينا، انتهى أمرى مع هذه الثورة. «وعلى فكرة..أنا من المؤمنين بأنها لاتزال فاعلة فى الحياة السياسية حتى الآن.. تأمل ما جرى فى الواقع، وأحوال الناس، والخراب فى الروح والبنى الاجتماعية وغياب الدور الوطنى، واستبدال الرؤساء الثلاثة أنفسهم بالأمة، نحن نعيش عبر حقب يوليو الثلاث.. محنة يهددنا فيها التعصب الدينى، والتطبيع مع العدو وسطوة الإرهاب، وتحكم الدولة التسلطية، وسيطرة التخلف وسيادة قيم الغوغاء والفاسدين.
■ وبرأيك.. لماذا صمتت الحركات الأدبية فى الفترة الأخيرة خصوصاً حركة «أدباء من أجل التغيير» التى شاركت فى التوقيع على بياناتها ؟وهل هو نوع من اليأس؟
– لم يصمت المثقفون عن الفعل والمعارضة والكتابة، ومازال المشهد الثقافى يعانى التوتر، ويعيش مشكلاته على المستوى العام، وإحساس المثقفين بإتساع الهوة بين الثقافة الجادة وإعلام تغييب الوعى، أصبحت شاسعة.. تأمل ما يقدمه الإعلام حتى على المستوى العربى وعبر أدواته المرئية والمسموعة، وكثرة ترديده شعارات الحرية والمسؤولية والتقدم والازدهار بينما الواقع يعيش أزمته.أقول لك.. إننى أنتمى لجماعة ظلت منذ الستينيات فى صف المعارضة، تعارض بالعمل السياسى، ومواجهة التجاوزات بالكتابة، ولم يعد يشغلها، بسبب تقدم العمر بها، ولا ترى وطننا قد تحرر من سطوة النخبة صاحبة المصالح، نعم.. وكما يقول د.جابر عصفور هى أزمة «إتساع المسافة بين طليعة المثقفين والجماهير هى إحدى المشكلات الأساسية فى ثقافتنا»، لكن الوعى لدى المعارضة الثقافية كان وسيظل ركيزة أساسية لمواجهة جميع التجاوزات القائمة الآن من السلطة والعنف الإرهابى والتعصب ضد الآخر وجماعات مصادرة الرأى والتفكير.