بدا الأمر لي في البداية ثقيلا، وربما يشي الموضوع بالملل، وراودتني أصلا الشكوك حول جدوى تحليل النصوص، فقد كنت أعتقد أنه لا حاجة لنا بذلك كي نكشف الموقف الحقيقي للمؤسسات.
تهاوى ذلك تدريجيًا مع قراءتي لهذا البحث الشديد الأهمية لكاتبة تعد من أجرأ وأهم الباحثات في الفترة الأخيرة. إذ يشكل موضوع “السلطة” الهاجس الرئيسي في مشروع بسمة عبد العزيز، وقد عالجته من زوايا مختلفة، ففي كتابها (إغراء السلطة المطلقة) ناقشت دور الشرطة وهي أحد أسلحة السلطة الرئيسية، وحاولت تحليل سلوكياتهم ورؤيتهم وتكوينهم الأيديولوجي، ثم ظهر كتابها (ذاكرة القهر) الذي يعد بمثابة رحلة في ذاكرة الألم والتعذيب، تناولت فيه الباحثة جوانب التعذيب المختلفة من وجهة نظر القاهر والمقهور سويًا، ثم أتي هذا الكتاب.
تساءلت في البداية لما الأزهر بالذات، ثم عرفت من المقدمة أن الباحثة كانت تنوي إجراء البحث على الأزهر ومؤسسة الكنيسة سويًا ثم اكتفت بالأزهر في البداية لتشعب وتعقد الموضوع. وقصة البحث نفسه كما ترويه المؤلفة يحوي قصة أخرى عن السلطة والقهر، فقد كان الكتاب مخططًا له أن يكون بحثًا للحصول على درجة علمية لم تستطع الكاتبة الحصول عليها وسط رفض المشرف للبحث لأسباب لا تخفى على القارئ ذلك أنه يعد معاديًا للسلطة بالطبع بشكل كبير.
إن فكرة فهم موقف مؤسسة ما كما تعلمت من هذا الكتاب قد يكشف عن الكثير من جوانبها تحليل خطابات المؤسسة. وإن كان فرويد قد قال قديمًا أن زلات اللسان تكشف كثيرًا من مضمون اللاوعي، فيبدو أن الكتابة حتى في أقصى درجات الوعي لا يمكنها أيضًا التستر على نوايا صاحبها كاملا، ويمنحنها المنهج النقدي في تحليل الخطاب بعض التقنيات والوسائل التي تساعد الباحث في كشف موقف صاحب الكلام.
تناول الكاتب موقف الأزهر في تلك الفترة العاصفة عبر مجموعة من البيانات والخطب، وتأرجح موقفه مع السلطة والحكم العسكري وجماعة الإخوان المسلمين والرئيس الحالي عبد الفتاح السيسي. وكشف تحليل الخطاب عن حجم الاضطراب الذي لحق بالأزهر وحجم التناقضات التي سقطت فيها المؤسسة. فقد حرمت مثلا المؤسسة التظاهر ضد النظام مرتين: بعد تسليم مبارك الحكم لنائبه عمر سليمان، ودعوات العصيان المدني إبان حكم المجلس العسكري. في نفس الوقت الذي أباحت فيه الخروج السلمي على الحاكم إبان حكم محمد مرسي بعد فتاوى رجال دين كثيرين تابعين لمعسكر الجماعات الإسلامية المختلفة بتحريم الخروج عن الحاكم.
عبر تحليل النصوص كشفت الباحثة تردد واضطراب الأزهر عبر محاولاته لإيجاد هوية مختلفة له وسط الأحداث، فهو مؤسسة دينية في الأساس، وفي نفس الوقت حاولت المؤسسة أن تصنع لنفسها هوية قومية ودورًا سياسيًا. ويظهر هذا في الألفاظ المستخدمة في الخطاب فهي ألفاظ تنتمي إلى الحقل الديني والسياسي على السواء. ورغم كل محاولات كاتب الخطاب لإظهار موقف متماسك دائمًا إلا أن التحليل الواعي يكشف عن لا وعي الكاتب. فبعد خطاب السيسي الذي طلب فيه التفويض من الشعب لمحاربة الإرهاب تغير خطاب الأزهر كاملا. كانت المؤسسة قد أصدرت بيانًا قبل دعوة السيسي بدعوة كافة الأطراف للحوار الوطني بما فيهم جماعة الإخوان المسلمين، ثم خنع الأزهر بشكل غريب لدعوات السيسي للشعب وطالب الشعب بمساندة جيشه والاستجابة للدعوات والتزام السلمية، وهي دعوة تقتضي ضمنًا استبعاد أحد الأطراف من الحوار بشكل واضح والتنازل عن البرنامج الذي دعا إليه في البادية. ثم تعود المؤسسة للتراجع بعد كل ذلك الدم الذي أسيل وتحاول التراجع عن موقفها في الخطابات التي تدين العنف ليبدو جوهر الأزهر مترددًا.. تارة يهاجم السلطة وتارة يغازلها، وتارة يخنع لقوة القطيع، ومع تجاهل السلطة الكامل لكافة اقتراحاته وإخراجه كاملا عن اللعبة يعود متوددًا إليها! عبر ألفاظ معينة تتضح أن التأكيدات بشيء تشكل تخوفًا في الأساس منه… هكذا يمضي التحليل.
يعرض لنا التحليل نقاط في غاية الأهمية كالتماهي مثلا بين شيخ الأزهر ومؤسسة الأزهر فلا يوجد أي فارق في الحديث وتختلط الضمائر بين المفرد والجمع، فعندما يتكلم الشيخ يتكلم الأزهر، وعندما يهين أحدهم الشيخ فهو يهين الأزهر. وطرح هذا التساؤل عن جماعات الدعم التي تساعد ي صياغة الخطابات ومدى حرية القرار داخل الأزهر، وسيكتشف القاريء أن الأزهر مثل أي مؤسسة دينية تقوم على التراتب الهرمي الشديد وليس هناك مجال حقيقي لممارسة أي نوع من الديمقراطية في اتخاذ القرارات. يقرأ الشيخ بنفسه كل كلمة في البيانات والخطب بل يكتب أغلبها، وليس هناك مجال للاختلاف الحقيقي معه مثلما يتضح ذلك فيما يخص الشيخ حسن الشافعي مثلا.
إن تحليل الخطاب يظهر بشدة أزمة الأزهر كمؤسسة دينية وتخبطه في البحث عن دوره الحقيقي بين السياسي والقومي والديني، ومحاولاته إيجاد دوره وسط كل هذه الفوضى، وتطرح الكاتبة أسباب محتملة لمغازلته للدولة المدنية ورفضه للدولة الدينية، ففي الدولة المدنية تكون له السيادة الدينية، ولكن مع حكم الإخوان ليس هناك من مجال له، فهي سلطة سياسية ودينية على السواء.
يحوي تحليل الخطاب في رأيي قدرًا كبيرًا من الاستفادة من مجال التحليل النفسي، وهو ما برعت فيه الكاتبة بحكم تخصصها في الأساس، فاستخدام الضمائر والصفات المختلفة يعبر عن نظرة الأزهر للأطراف المختلفة في الصراع، وتغير موقفه منها مع الوقت، ومحاولاته تهميش طرف ومغازلة طرف آخر في وقت ما.
جاءت النتائج والتوصيات في نهاية الكتاب قليلة من وجهة نظري.. فهذا البحث يكشف لنا الكثير ولا يمكن أن تنحصر نتائجه في وجوب فصل الديني عن السياسي، كما أن هذا الفصل غير ممكن إحداثه كاملا فالديني يتفاعل ويتماهى مع كل الأحداث اليومية. فشجب ورفض إسالة الدماء هل يمكن توصيف ذلك بالسياسي مثلا؟ أليست تعاليم الدين تتماهى مع الأفعال اليومية للبشر وتتعارض مع كثير من ممارسات الدولة؟ أعتقد أن الأمر يحمل إشكالية كبيرة فالخط الفاصل بين السياسة والدين غير واضح من وجهة نظري بهذا الشكل البين، بل المشكلة الرئيسية تنبع في بنية هذه المؤسسات الاستبدادية التي تجعل مواقفها في النهاية رهينة مصالح فئة أو طبقة معينة بدلا من أن تعبر عن دورها الديني والإنساني الحقيقي على السواء.
إن مشروع تقويض السلطة المهيمنة على حد تعبير الباحثة كان لابد فعلا وأن يتطرق إلى خطاب السلطة، وأعتقد أن المشروع لم يكتمل بعد.. نحن في حاجة إلى تشريح خطاب السلطة الدينية الأخرى، بل وفي حاجة إلى الكثير من الأبحاث التي تتناول السلطة من كافة النواحي الاجتماعية والمعرفية الممكنة حتى يبني ذلك المنهجية المعرفية اللازمة التي يمكن من خلالها إنشاء بنية حقيقية بديلة.
تحية إلى بسمة عبد العزيز التي مازلت أتعلم منها وأحسدها على هذه القدرة الفائقة على الالتزام والمنهجية، والجدية الشديدة في تناول موضوعات خطيرة.