محمد أسامة
لو سألنا، ما السبب وراء إحياء الجدل على شخصيات من أول جمال عبد الناصر وصدام حسين وهواري بومدين إلى الحجاج بن يوسف الثقفي، رغم انتهاء عصورهم منذ مدد بعيدة واختفاء الجيل الذي عاصرهم وعرفهم، ستتعدد الإجابات طبعا على كل شخصية بل وتمتد بعضها لتربط بين شخصيتين مثلا، لكن لو نظرنا بوجهة نظر أخرى، هل يمكن أن تلك الشخصيات هي ما تعيد إثارة الجدل؟ وهي ما تجدد نفسها بوقود ذلك الجدال؟
– يقاومه وهو فيه
❞ يقول أحد الغيلان: «موتي أبعد ما يكون عن هنا، إنه هناك، في المحيط الواسع. في ذلك البحر توجد جزيرة، وفي الجزيرة تنمو شجرة بلوط خضراء، وتحتها صندوق معدني، في داخل الصندوق سلة صغيرة، في السلة أرنب بري، وفي الأرنب بطة، وفي البطة بيضة، من يجد البيضة ويكسرها فهو يقتلني» ❝
البطل بألف وجه – جوزيف كامبيل
يوضح هذا الاقتباس فكرة وجدت في الأساطير والمرويات باختلاف تفاصيلها وهي مقاومة الفناء، ومن ذلك التشابه “في هذا المثال ومثال آخر عن تصور المائدة التي لا تنضب من الطعام في قصة أمير الجزيرة الوحيدة وقلعة توبر-تينتي” وضع الكاتب علة لهذا التشابه بأنه سيكولوجي يتأصل في علاقة الطفل بأمه وقت الفطام-إذ أنه ينفصل عن أمه ولو بقدر- وكما يقول كامبيل ينتابه حالة عدوانية بتمزيق الجسد الذي انفصل عنه “التصور الأول للأب” ولكن لأن الانفصال لا يكون مكتملا بوجود الرعاية فتنزاح هذه الأفكار نتيجة القلق والتفكير بأنه لو مزق هذا الكيان الكبير “الأم” سينتزع هو الآخر إلى الخارج “حيث الانفصال التام”، فيحاول على مدار طفولته المقاومة خشية تحقق تلك الخيالات بدوافع مثل ” القلق على نزاهة جسده، وخيالات استعادة ما هو مفقود، والاحتياج العميق الصامت للثبات والحماية أمام قوى «الشر» القادمة من الداخل والخارج، في تشكيل وتوجيه النفس ” كما أفرد كامبيل
– صورة وبقايا الأصل
-بعد قراءتي لقصة الغرف المنسية “من مجموعة حروب فاتنة للكاتب حسن عبد الموجود” والتي نرى مشاعر الشخصية الرئيسية من صورة عبد الناصر تترنح بين الحب الشديد وهو يقول معاتبا زميله الوحيد “نحن نأكل من خير عبد الناصر” وبين الخوف وتحاشي النظر إليه عندما اختلى بخادمة الغرفة، ذكرني بعد ذلك بصورته التي رأيتها في دكان لتصليح الأحذية القريب من بيتي، وقلت لنفسي حين واتتني تلك الذكرى ما المعنى؟ فالبطل في القصة منتفع بمرتبه الثابت دون عمل، ومثله شخصية “رحمة” في رواية وراء الفردوس للكاتبة منصورة عز الدين والتي استفادت من قانون الإصلاح الزراعي لتصنع ثروتها، ولكن إن نظرنا نظرة عامة على القصة-واستدللنا بمفتاح العودة الفلسطيني- ككل سنفهم العلاقة بين رمزية مكتب الاتصال القديم وجملة “من عصر الديناصورات” التي قالها أحد مرتادي القطار، والتي تعني ربما أن تمسك الناس بالقديم يبقيهم، خافوا إن انسلخوا منه تنفلت من أيديهم الحياة وتصبح بلا معنى، يستمد قوته من جراءة ربما تنفلت من عين صورة عبد الناصر، فيعتبرونه كأب يدارون به شرخ حياتهم المتسع، كما يداري أحد أبطال فيلم دكان شحاته شرخ الجدار بصورته.
-السيد الذي يُرى في الداخل، لكنه غير موجود
-أما إن سألنا عن سبب ذلك، من خلال تأمل لفكرة كامبيل لرمزية “البوديساتفا” الموجودة في البوذية وتفسيره ترجمات الكلمة “يُرى -وأصلها يرى- في الداخل” والتي تتقارب في نظري مع أفكار صوفية عن الاتحاد “وجاءت فعلا في بعض الهوامش أقوالا لأبي يزيد البسطامي عن ذات الفكرة”، ولكن لو صغرنا التفسير الضخم، وافترضنا أن عبد الناصر -بتباسطه في بعض خطاباته مع الشعب، والتأكيد على فكرة الوحدة بمناصرته للحركات الوطنية المجاورة، والقرارات الجريئة الأخرى -شديد الدهاء، سيكون افتراضا صائبا؛ وإلا لم نر في ثلاثية الأمالي لشيخ الحكائين خيري شلبي جملة “سلملنا على ولد أبو عبد الناصر” وتغني حسن أبو ضب بالانتصارات على العدو وقت العدوان الثلاثي في أولنا ولد، أو صدمة حسن في ظنه أن عائلة عبد الناصر هي التي خربت قريته في ثانينا الكومي وقوله مستجيرا “كلنا عائلته” ويقصد بها عبد الناصر، فالناس رأت أنفسها في عبد الناصر بصور مجزأة، صورة المندفع والمشاحن ثم الوسيط، صورة الشاب الطموح صاحب العنفوان، وصورة العمدة المتواضع الذي يضع أهل قريته في المشاورة ولو كانت رمزية، والأهم من ذلك صورة الأب المكسور الهارب” وتقريبا ما دفع الناس للنزول ودعوته لأن يتراجع عن فكرة التنحي، فكل منهم يحمل صفة له في ذاته مخفية ينقصها الجراءة، تخزن وتتراكم لتصير في وقت ضعف الشيخوخة وتبدل الأحوال صورة الأب الحامي الذي كان وكان.
ملاحظة: هناك بعض الأمثلة تتشابه تماما مع المثال السابق “مثل قصة صورة المرحوم من مجموعة بلاد الطاخ طاخ وشخصية هوارية التي منحت صورة بومدين تبجيلا زائد نتيجة ما توارثته” لكن هناك اختلافات طفيفة، فصدام حسين أو الحجاج بن يوسف رغم ما نالاه من شعبية جارفة وذاكرة حاضرة في بال الناس مقاومة الفناء نتيجة ما آل إليه الأمور حاليا -أو بعدهم عموما- من تقلبات “في تداول مقاطع محاكمة صدام أو مشاهد من مسلسل الحجاج” لكن تنبع فيهم تفردات ذاتية “من صفاتهم السالفة” تجعلهما ينفصلان عن تلك العلاقة، فنرى في قصة بلاد الطاخ طاخ للكاتبة إنعام كجه جي، أن أفضل أداء لمن يمثل الجنرال هو نفسه، والقصد حتى لو انفض عنه ما يكامل تلك العلاقة، بعضهم يكتفي بسيرته مهما كانت مقاوما الفناء إلى حين.