أسوأ قراءة لرواية “سرور” أن تعتقد أنها تؤرخ وتسجل وتوثق، بينما هى تصنع ما هو أعظم وأعمق، إنها تخلق معادلاً فنياً يناطح الواقع المختلط ، تجعل من حياة فنان عظيم، عملاً فنياً لم يستطع هو أن يكمله، أو أن يقنع الآخرين به، ترسم لوحة كولاج من بقايا صور ودموع، تجعل العادى فى مواجهة المختلف والإستثنائى، تحتفى بالموهبة حتى لو كانت مريضة، وتسخر من الواقفين فى الطابور، حتى لو كانوا من المحسوبين فى المجتمع على الناجحين.
سر رواية “سرور” هو نفسه سر حالة “نجيب سرور” الذى لم يكن مدمناّ إلا للفن وللخيال، ولم يكن مخلصاً إلا لمنطقه فقط، والذى كان يستدعى الواقع وقتما شاء، ويستدعى الخيال كيفما أراد، بناء الرواية بأكمله يعيد لعبة نجيب مع أطبائه ومجتمعه، يفهمها باعتبارها لعبة الفن، يأخذنا طلال بصنعة فن الى ما يشبه حيرة بطله العظيم، وبعد أن يضع نقطته الأخيرة، يكاد يسألنا: هل ما زلتم مشغولين بتطبيق قانون الواقع على سحر الفن ؟ أنتم لم تفهموا نجيب إذن، وأنتم لم تفهموا الرواية.
صورة الفنان فى مرضه ومأساته متعددة الأصوات والمرايا، ترويها أولا ثلاث شخصيات من أقاربه (1) زوجته الروسية ساشا التى تراه نبياً هبط الى أرض الأوغاد، شقيقه الأكبر ثروت الذى يرى نجيب شاعراً موهوباً اصابه المرض والاضطراب (3) زوجته المصرية الممثلة مشيرة محسن .. أنت تعرف طبعا معادلها الحقيقى، والتى تقول إنها بريئة من تهمة تدمير نجيب، وأنه هو الذى دمّر سمعتها ، ثم يواصل أطباء نجيب الثلاثة السرد (1) عبد السلام محسن الذى استقبله فى مستشفى العباسية يراه مريضا بالفصام (2) جلال الساعى زميله فى نفس المستشفى لا يراه مريضاً على الإطلاق لا نفسيا ولا عقليا (3) كمال الفوال الذى عالجه فى مستشفى المعمورة يجده مريضاً بجنون الكحول، ثم يأخذ السرد مستوى أخر بشهادة ثلاثة أصوات إضافية (1) طلال فيصل مؤلف الرواية، وهو هنا صحفى يقرر أن يتحقق بعمل كتاب عن نجيب سرور، يجمع شهادات من يعرفونه، ثم يحولها الى رواية (2) نجيب سرور نفسه من خلال أوراق ومذكرات يقول طلال أنه حصل عليها من أطباء سرور (3) أبو العلاء المعرّى، الشاعر الفذ الذى يعشقه سرور، كتيبته الخرساء تفتتح الرواية وتغلقها، تشهد على نجيب وحكايته وروايته.
أرجو أن تلاحظ أن كل الأصوات بمن فيها طلال، ومهما كان لها ظل من الواقع، قد انفصلت عن حقيقتها، وتحولت الى شخصيات فى رواية، وبالتالى من الخطل أن تتعب نفسك فى المقارنة بين الأصل والصورة، أوبين ما حدث فعلاً مقارنة بما تخيله الراوى طلال، أوبين ما هو وثيقة أونصف وثيقة أو ما هو محض اختلاق، المعنى، وهو معنى الرواية ايضاً، أن الفن يصنع من الواقع شيئأ آخر له قانونه الخاص، تماما كما كان نجيب فنانا له قانونه الفنى الخاص، وظلت مشكلته أنهم كانوا يعاملونه بقانون العلم.
من السهل أن تكتب تحقيقا عن حياة سرور، ولكن طلال قرر أن يكتب رواية، هنا معادلة أخرى تماما، ليس هدف الرواية أن تنتهى الى كلمة أخيرة فى حالة المواطن سرور، بل إنها على العكس، تريد أن تنقل لك أنك أمام شخصية غير عادية، متعددة الأبعاد، هدف الرواية أهم حتى من إيهامك بالوثيقة الفلانية، إنها تجعلك تكتشف أن الإنسان، والإنسان الفنان، على وجه الخصوص، هو حالة فريدة ولا يمكن تكرارها فى الصحة أو المرض، حالة أخطر وأهم من أن يلخصها تقرير طبيب فى مستشفى العباسية.
يذكر أحمد فؤاد نجم أن الشاعر الكبير محمود حسن اسماعيل، قام بتوصية مسؤول كبير لتعيين الفاجومى، وقال للمسؤول: “ناشدتك الله هذا شاعر”، طلال يقول لنا فى عمله البديع :” ناشدتكم الله هذا فنان، فكيف اختزلتموه فى وثيقة أو فى قصيدة بذيئة كتبها فى المستشفى؟ كيف نسيتم أعماله وحفظتم حياته المضطربة؟ لا يليق بفنان عظيم سوى أن يكون بطلاً لعمل فنى، أن يكون موضوعا لرواية عنه.
لاشئ مؤكد فى رواية “سرور”، لا الوثائق، ولا توصيف طبيعة المرض، ولا القطع برواية من الروايات، الشئ الوحيد المؤكد أن بطلنا فنان، وأن ما كتب عنه، بأمر الشاعر الفنان أبى العلاء، هو عمل فنى اسمه الرواية، وماهى الرواية؟ يجيب صاحب الكتيبة الخرساء كاشفاً اللعبة، ومنبها العقول والأفئدة : “ذاك فن يظهر فى زمانهم، يبدأ من الحقيقة وينتهى الى التوهم، ويبدأ من التوهم وينتهى الى الحقيقة، لاتكون الذوات فيه ذواتها، ولا تكون الذوات فيه إلا ذواتها، تقرؤه فتبصر فيه نفسك وإن خالفك الاسم، وتقرؤه فتبصر فيه غير نفسك وإن وافقك الاسم” ..هذه هى بالضبط رواية “سرور”: معادل فنى خالص، يأخذ من الواقع ما يحتاجه فقط، من اجل أن يصنع حقيقة فنية أهم وأعظم حتى من الواقع نفسه، كل الشخصيات الواقعية لم تعد كذلك، لم تعد تلك الذوات ذواتها، أصبحت عجينة فى أيدى الفنان طلال فيصل، يضع على ألسنتها ما شاء، أصبحت الذوات لا تنتمى إلا الى ذواتها الفنية.
يقول نجيب سرور فى المستشفى :” هناك شئ ما بداخلى لا يمكن لآحد أن ينتزعه منى، مهما بلغ من سطوة الكهرباء، أو من سطوة أمن الدولة، فإن خيالى ملكى وحدى”، وعندما يتكلم عن الكتيبة الخرساء التى تنبأ بها أبو العلاء المعرى، يجعل الشاعر الضرير قائد الكتيبة، وخلفه هاملت ودون كيخوتة والمسيح نفسه، فنان يقود نبى، وخيال شاعر ومخرج مسرحى ينازل بمفرده المهدئات الكبرى وجلسات الكهرباء، وموهبة تصنع من المرض فناً ومن الخيانة مسرحية ومن المأساة استعراضاً فى الشوارع، وصحفى يصنع من التحقيق الصحفى رواية، أما الحكاية ففيها ذلك، وفيها غير ذلك، فتدبّر وانظر وراء الشهادات، واعلم (أعزك ألله) أن مهمة الفنان ليست أن يجمع الوثائق، ولكن أن يجعل من عمله بأكمله وثيقة وشهادة وبصيرة ونبوءة، واعلم أخيراً أنّ أعظم تحية لأى فنان، هى أن نجعل من حياته فناً لا يقل جمالاً عما كتبه، وأن أعظم تحية للشاعر الراحل العظيم أن نستعيد الفنان نجيب سرور من المريض محمد نجيب هجرس.
وهذا ما فعله الروائى الموهوب طلال فيصل باقتدار فى روايته المدهشة.