د. محمد سمير عبد السلام
تعيد مي التلمساني إنتاج الشخصية الروائية ، و تؤولها من خلال تراكم الصور ، و الأصوات ، و الروائح ، و أطياف الحكايات ، و الأساطير ، و كذلك الحركة الإبداعية الخفية المميزة للأشياء ، و يبدو هذا التصور الفني واضحا في رواية (هليوبوليس) ، الصادرة عن هيئة الكتاب بمصر سنة 2003 .
تبحث البطلة / ميكي – من خلال تفاعلها الأدائي مع الصيرورة الإبداعية / السردية للنص – عن تشكيل متجدد لكينونتها الفريدة من داخل تحولات الزمن؛ و من ثم مواجهة التلاشي المحتمل.
إنها تحاول القبض على وهج الماضي ، دون أن تناله التغيرات السلبية ، أو أن تصيبه لحظات التوقف ، أو الجمود .
و أرى أن احتمالات التشيؤ التي رافقت جسد البطلة منذ السطور الأولى للنص ، قد صاحبتها طاقة فنية مجازية مضادة للعدم من داخل علامات الجمود ، و الغياب ؛ فالعلامة الشيئية التي اختارت الساردة أن تضعها داخل روح ميكي؛ و هي الماريونت – تحمل وهجا إبداعيا خفيا يكاد ينطلق خارج الخيوط ؛ إذ يعلن دائما عن طاقة داخلية استعارية مضادة للسلبية من داخلها ؛ هكذا تواجه ميكي الزمن بالأثر الفني للهوية بصورة دائرية تعزز من استمرارية الأثر في النص ، و الحلم ، و الذاكرة معا.
و تسترجع البطلة – في رحلة بحثها عن تجددها الذاتي – أطياف العائلة ؛ مثل الجدة شوكت ، و زوزو ، و العمة أمينة ، و العمة آسيا ، و غيرهن ، كما تستدعي آثار المشاهد القديمة ، و روائحها ، و لحظاتها الجزئية ، و حكاياتها ، و كأنها تشرق للتو في الوعي المبدع ، و تكتسب بكارة جديدة تشبه تجدد العلامات الكونية .
تقوم رؤية الساردة – إذا – على عنصرين جماليين ؛ هما :
أولا : نقل الذات في روح الصور الفنية المتراكمة ؛ أي في اللحظات النسبية البهيجة ، و الفريدة التي تجسدها الكاميرا ، أو الحكاية القصيرة ، أو الطاقة المجازية للشيء ، أو الأثر.
ثانيا : دمج الأشياء بصيرورة الاستعارات النصية التي تمنحها حضورا ديناميكيا ، كما تتوحد بها الشخصيات في مستوى حدسي ، أو شبحي ، بحيث تقع في المسافة التداخلية بين الوعي ، و السياق الواقعي.
و يمكننا رصد أربع تيمات رئيسية في رواية (هليوبوليس) ؛ هي :
أولا : التشكيل المستمر للكينونة .
ثانيا : سرد إبداعي للأشياء.
ثالثا : إيماءات للوعي الأنثوي.
رابعا : لا مركزية العلامات النصية.
أولا : التشكيل المستمر للكينونة :
تنقل ساردة مي التلمساني هوية البطلة في وهج السياق الآني للصور المستمدة من إيماءات الماضي ، و المستقبل المنتج بواسطة الوعي ؛ و من ثم تكتسب الكينونة وجودا روحيا يطمح للاستمرارية ، و مقاومة تغيرات الزمن ، بينما يثبت تخليه المستمر عن مركزية المادة التي صارت شبيهة بالماريونت ، و كأنه يقف على حافة التجاوز ، دون تلتحم به الكينونة الجديدة التحاما كاملا.
تؤكد البطلة رؤية الأديب ، و الكاتب المسرحي الفرنسي بول كلوديل للماريونيت ككلام يتحرك ، و ليس كممثل يتكلم ، ثم تنقل نفسها في وهج الصورة ، و تأويلاتها الآنية ؛ فهي تحرك الكلام ، و تخلط الضمائر ، و الأسماء ، و ترى أن الزمن سينتصر على التاريخ.
إن ميكي تحاول القبض على القوة المجازية للأثر الكامن فيما وراء الكينونة المؤقتة ، و الموضوعة في القيود الزمكانية ؛ فهي تقاوم تغيرات التاريخ ، و الذاكرة بمنطق التحول الكامل في روح الصورة ، و ليس شكلها ، أو حضورها المؤقت ، و تظل بين مادية الدمية ، و جماليات الكلام الشبحي المصاحب لها في المسرح ، أو صيرورة السرد .
و قد تتوحد البطلة بالصورة كقناع فني للوجود يقاوم العدم من خلال الطقوس اليومية المصاحبة للموت نفسه ؛ فهي تمزج الجسد الميت بالصورة ، و الجنازة بالعمل المسرحي ، و فراغات الموتى بصور لأعداء ، أو أحباء جدد يثيرون التعاطف.
الصورة عند مي التلمساني مادة غيبية منتجة لحياة دائرية استعارية متوافقة مع صيرورة الوعي المؤول للذات ؛ و من ثم نعاين وهجا يكمن خلف الفراغ ، أو الموت ، و مخاوف التلاشي في الصوت المتكلم ، و قناعه معا.
و قد تكتسب الكينونة انتشارا جماليا ، و تضاعفا لصورتها في الوعي المبدع للبطلة ؛ فهي تعيد إنتاج الأم زينات من خلال أخيلة التضاعف الكامنة في فعلي الكلام ، أو الحكي ؛ فزينات تعلن عن رأيها عن طريق آراء الآخرين بشكل غير مباشر ، أما زوزو فتنقل آراء الآخرين بحياد يخفي رأيها الشخصي المباشر ، و لكن البطلة وجدت كينونة الأم في تضاعف مادة الحكي في حواديت الأم.
لقد جمعت خاصية التضاعف الجمالي بين الصوت ، و الصور المنقسمة ، و الحكايات في كينونة واحدة ، و كأن البحث عن الهوية لا يكون إلا من خلال الإضافة ، أو الزيادة التي تفكك مركزية الأصل البنائي للشخصية ، و تستبدله بالتعددية التأويلية المنتجة لفعل التجاوز دائما.
و قد يصير السياق النسبي لفعل التصوير نفسه موضوعا جماليا في الوعي المبدع للبطلة ؛ فقد استعادت ميكي حركية وعي كل من العمة أمينة ، و المصور في لحظة التصوير ؛ فأمينة تحرص على أن تترك أثرا طيبا في الصورة ، و المصور يحاول اقتناص تلك البهجة الروحية .
إن دمج البطلة بين الأثر ، و القناع الذي يتشكل في موقف التصوير ، و حياته الخاصة ، يوحي بأن الإيماءة التي تستضيف الصوت ، أو الكينونة هي دائما تكون قيد التشكل ، و اللعب في المستقبل ، و كأن الساردة تنتظر خروجا أسطوريا ، أو جماليا لهذه الآثار ، الصور ، و الأقنعة المتحولة.
و قد تصير الحكايات الخرافية القديمة مادة خيالية تفسيرية في وعي البطلة ؛ فحكايات الطفولة التي تحوي شخصية خرافية رمزية ؛ مثل أمنا الغولة تتحول إلى وظيفة سردية تجسد مخاوف التلاشي الكامنة في الوجود النسبي للبطلة .
إن المادة الطيفية للصورة تتجاوز الكينونة من داخلها ، و كأنها تعيد إنتاج الذات في صيرورة السرد ، و التجدد الجذري لصورة البطلة ، و صوتها.
و تصل سيمفونية الصعود ، و تجاوز الدلالات القهرية للدمية إلى الذروة عبر وسيط / مسلة هليوبوليس ؛ ففي هذه المرحلة تنطلق الدمية ، فتلامس وثبة روحية كبيرة ، أو طفرة فيما وراء الفراغ ، ثم تكثف الساردة وسائل الصعود في دوال الشجرة ، و الهرم ، و السلم ، و غيرها حتى تتصل بالعوالم الأبدية في سياقها القديم ، و المتجدد في آن.
يندمج الفراغ – إذا – باتساع الكينونة في عوالم اللاوعي ، و الذاكرة الجمعية ؛ فالدمية هنا تعاين اختفاءها الأصلي ككلام مجرد ؛ فهو يحمل طاقة جمالية دائرية تقاوم المحو ، و احتمالات التلاشي في عملية ارتقاء روحي تتجاوز المادة ، و أطيافها التصويرية معا .
ثانيا : سرد إبداعي للأشياء:
للأشياء حياة داخلية خاصة في رواية مي التلمساني ؛ فلتكوينها الجمالي وهج ، أو طاقة تؤكد تحولها في عوالم الشخصيات المحيطة بها من جهة ، كما تنتشر في الفراغ ، و تتضاعف – مثل الكينونة الإبداعية للبطلة – في الأثر الذي يطمح للتكرار ، و الدائرية ، و مقاومة التلاشي التاريخي من جهة أخرى ؛ و من ثم نلمح ذلك التجدد الجمالي للأثر في أحداث متطايرة في الزمن من الذاكرة ، أو رائحة تتجدد ، أو أصوات مصاحبة للوجود الإنساني في لحظة فريدة قابلة لإعادة التشكل في الوعي ، و اللاوعي ، و الواقع الاستعاري المتجاوز للمادة من داخلها.
إن ساردة مي التلمساني لا تكتفي بوصف التكوين الجمالي للأشياء ، و لكنها تلامس حركيتها السردية الخفية في المسافة التداخلية بين وعي الشخصيات ، و آثار الواقع .
تتذكر البطلة ميكي ذكريات الطفولة المرتبطة بشجرة الفل ، فتتجاوز الشجرة نفسها إلى ولوج رائحة الفل لأصابع الأطفال ، و تمزج صيرورة الرائحة بصورة الكرسي الأسيوطي ، و قهوة الجدة ، و أقراص الأسبرين.
لقد تحول الفل إلى فاعل ذي وظيفة سردية في النص ؛ فرائحته تختلط بروح البطلة ، و تعيد إنتاج التكوينات الأخرى في المشهد كأطياف تشبه الرائحة ذات الفاعلية الخفية المقاومة للعدم.
و قد تتصاعد النغمات المولدة عن النزعة السردية الإبداعية الأصيلة في الأشياء ؛ فتصير جزءا رئيسيا من المشهد ، أو تأويلا جماليا دائريا لأحداث الذاكرة المتوهجة في اللحظة الحاضرة .
تقول الساردة عن مائدة إفطار رمضان :
” تعلو أصوات الملاعق على صوت أبي الذي يطالب عبثا باستخدام الشوكة ، و السكين” ص 58.
الملاعق تعزف لحنا جماليا تتجسد فيه إيماءات الاجتماع على الطعام ، و أطياف الشخوص ، و التفاصيل الاجتماعية ، و الإنسانية لمشهد الأكل ، و لذته التي التحمت بروح الصوت ، و تحولاته في الفراغ .
و تقول عن المائدة :
” المائدة المصنوعة من خشب الورد تظل وحيدة منسية في غرفة الطعام ، لكنها تصلح للاختباء تحت أرجلها” ص 58 ، و 59.
و كأن المائدة ترسل طاقة جمالية للوحدة في الشخصيات ، أو تدعوها إلى احتفال كوني بهيج بين الأشياء الحية المنسية ، و البشر.
و تقول عن الأواني الموضوعة على مائدة العمة آسيا :
” و الكريستال البوهيمي الأصلي يتلألأ في ضوء الغروب فتكتسي الغرفة لونا نحاسيا كلون مدينة التماثيل المسحورة في ألف ليلة و ليلة ” ص 59.
الأشياء تومئ بإيماءات طبقية تتجاوز الطبقة في أثرها الجمالي الممتد ، مثلما تتجاوز الواقع نفسه إلى الاندماج الإبداعي بأخيلة الحكاية ، و كأننا أمام وظيفة سردية متكررة للأشياء في الرواية ؛ و هي تحويل الوجود الساكن للشيء ، و الذي يشبه الدمية الأولى إلى تفاعل خلاق بين الأزمنة من جهة ، و الواقع ، و المجاز من جهة أخرى.
ثالثا : إيماءات للوعي الأنثوي :
تقوم رواية هليوبوليس على البحث المتجدد عن كينونة مبدعة ، و صوت دائري يحاكي الوجود الطيفي للصور ، و القطع الفنية من خلال شخصية نسائية رئيسية ؛ و هي كيمي ، و شخصيات نسائية أخرى محيطة بها ، و قد تجلت الخصوصية الأنثوية في وعي البطلة في رصدها لبعض التفاصيل الصغيرة الخاصة بجماليات الملابس ، و كذلك رصدها للتناقضات الأنثوية الداخلية لكيمي ، و درجة تداخلها مع الأساطير القديمة.
تذكر البطلة أن العمة آسيا تعشق جميع الألوان في انتقائها للملابس ، ثم تسهب في التفاصيل الخاصة بكل لون على حدة ؛ فالبني منه العسلي ، و الجملي ، و الفضي ، و الكريمي ، و سن الفيل المائل للأصفر ، ثم ترصد أسلوب التشكيل الجمالي للثوب ؛ فقد يكون نباتيا ، أو هندسيا ، أو تجريديا.
الثوب النسائي هنا موضوع جمالي بحد ذاته ؛ و من ثم يتجسد في الوعي الأنثوي كعنصر للتأملات الشعرية المنتجة لتضاعف حالات الذات ، و شكولها بحيث لا يمكن فصلها عن القطع الجمالية الفنية الممثلة في أساليب الفن الطبيعية ، و التعبيرية.
و تحيط الساردة شخصية كيمي ببعض الأساطير التي تومئ بشكل مباشر إلى التمثيل المجازي لتناقضات الأنثى ؛ فهي تبحث أحيانا عن الحب ، ثم تلتهم الرجل ، و كأننا أمام دمج استعاري بين الميدوزا التي تحول من ينظر لها إلى حجر ، و أفروديت الجميلة في سياق تأويلي يختص بكينونة المرأة ، و تحولاتها الشعرية في النص الروائي .
رابعا : لا مركزية العلامات النصية :
تتقاطع المجالات المشكلة لشخصية ميكي ، و نساء عائلتها بحيث تتضاعف العلامة ، أو تنتشر في سياقات تجسد مبدأ الاختلاف الثري ، أو التعارض أحيانا ؛ فميكي تخاطب صورتها في المرآة ، و تعلن رغبتها في الحفاظ على إرث العائلة ، ثم تقول إنها ستصير – مع الأخريات – كقطع مرصوصة في صندوق كبير بلا جدران ، أو كظلال للأشياء.
و تبدو أصالة اللامركزية في بنية العلامة في أمرين :
الأول : اختلاط البحث عن أصالة الكينونة بتضاعف الصور الأخرى الممثلة لها داخل المرآة ، أو الأشياء ، أو الآثار ، و الأطياف المولدة عن تلك البنية التي تصارع الغياب .
الثاني : تداخل ثبات الأشياء ، و حضورها المركزي بأحلام اليقظة ، و الظلال الطائرة ، و الحكايات ، و الأساطير المولدة عنها ، و كأنها تعاين الخروج من مادتها الصلبة بشكل متكرر.
*رؤية العالم في هليوبوليس :
تجسد رواية هليوبوليس بعض الإشارات الطبقية الخاصة بالبطلة ميكي ؛ فهي تمثل قراءة فنية ، و إبداعية ، و روحية لبعض التفاصيل الخاصة بالمستوى الأعلى من الطبقة الوسطى ؛ فهي تنحاز للنزعة الفردية ، ثم تتجاوزها في تجدد إيحاءات الصور ، و هي تواجه ضغط الزمن ، و الذاكرة بدرجة أكبر من التأثير الشمولي للطبقة على الشخصية ، كما تتعاطف – على المستوى الإنساني – مع شخصيات من الطبقات المهمشة ؛ مثل صابرين ، و غيرها ، دون أن تتخلى عن التماسك الاجتماعي للشخصية ، و الذي ينبع هنا من منظور فني بالدرجة الأولى.
و تعاين البطلة مجموعة من التحولات السياسية ، و الاجتماعية في سياقها التاريخي ، مع استقرار طبقي نسبي يسمح بانفتاح التأملات الأنثوية لتفاصيل العالم الداخلي للبطلة ، و واقعها.
و أرى أن الرؤية الاجتماعية للبطلة قد تشكلت – في النص – من خلال التحول في بنية الروح الفردية المميزة للبورجوازية ؛ فالبطلة مهددة بمشاعر الغياب ، أو تلاشي الكينونة نفسها ، أو اتصالها الخفي بالأشياء المميزة لعالمها الاجتماعي ، و الفني معا ؛ و لهذا أحدثت انشطارا – بصورة غير واعية – في الاستقلالية البنيوية المميزة للوجود الاجتماعي القائم على الفردية في شخصية ميكي ، لصالح الصور ، و الأصوات ، و الحكايات ، و الظلال الفنية التي صارت بديلا عن الوجود المادي المهدد الذي يشبه الدمية ، و كأن النص يجسد أحلام الوعي الممكن للبطلة بشكل مستقر من حضور فردي فني دائري ، و ليس حضورا اجتماعيا مهددا ، و إن كانت تلك الرؤية مولدة من النزعة الفردية القائمة في الوعي القائم للبطلة ميكي .
أما الأشياء ، و تفاصيل السياق الاجتماعي للبطلة ، فقد انشطرت باتجاه السرد القائم في الوعي ، و الواقع معا بحيث تخرج عن صلابتها ، و حدودها التي تؤدي إلى انفصال حتمي عن الشخصيات التي ارتبطت بها .
إن النص يحرك بنية الأشياء نحو الاتصال الممتد ، لا المقطوع بالفرد في لحظات التجاوز ، و التأويل المتجدد للكينونة ، و التي يحاول النص أن يقبض عليها.