نورالدين بوعمود
لم تأت رواية “بوهيميا الخراب” لترسم ظلا مأساويا آخر، يضاف إلى سلسلة ظلال مآسي هذا الكائن الموصوف بالمواطن العربي فحسب، وإنما جاءت لتنقل، بالحرف الموجع والصورة الداكنة والحكي الأسود المتقد الضاغط، واقعَ اغتصاب بوهيمي لشعب بأكمله، من قبل الحاكم وبنيه، وعبر أجهزة، تارة تسمى الحزب الحاكم بذراعه الأمني، وتارة تسمى أجهزة المخابرات، وتارة تسمى لجن الجيش الشعبي، وتارة بدون اسم..
رواية ” بوهيميا الخراب” لصاحبها الروائي العراقي صلاح صلاح (دارالتنوير، بيروت، 2009)، رصد مؤلم لسيرورة الموت الجماعي، ولتفاصيل الجحيم اليومي، الذي تتحطم على بواباته الأجساد والأنفس والمصائر..
ولقد استطاعت لغة الرواية ـ إلى حدود بعيدة جدا ـ أن تضيء هذه التفاصيل بسرد مجروح، معالمه القبح والفوضى والانكسار وتدن للأعراف وللأخلاق وللعلاقات، سرد مكتو بنار أرض موبوءة، احترق فيها كل شيء، حتى أصبح فيها الموت الوجه الآخر لحياة قائمة على الإستحالة..
استحر الموت في الجماعة البشرية المؤثثة لفضاءات الرواية وأحداثها، فاستحالت معه الحياة؛ حتى إن المتتبع لأحداث الرواية وتفاصيلها ليدرك ــ وببساطة ـ تمزق البطل، ومعه باقي الشخصيات، بين وترين متنافرين: وتر المستحيل، ووتر حياة ممكنة من مستحيل غير ممكن؛ هنا ينهار العالم ويتفسخ، فيذوب في لغة مستقاة من قواميس مؤلمة، تلقي بظلالها القاتمة على كل مكونات الرواية،من سرد وفضاءات وشخوص..
1 ـ تكثيف المكان/ تمزق الذات
1 – 1 تكثيف المكان
لم يتشكل المكان في رواية ” بوهيميا الخراب” كإطار هندسي، ملؤه المقاسات والأعداد والأبعاد،يخلقه الكاتب ويقدمه للقارئ كزينة وصفية ( كما نجد عادة في المتن الحكائي الكلاسيكي) ؛ وإنما جاء مشبعا بصور “شاعرية” تطفو على سطح اللغة، متوثبة، يقظة، متسامية، لاغية منطق السببية، نابعة من رؤية الكاتب المسبقة للعالم العيني والماورائي..
تبدأ الرواية بمسح مكاني، يطال الأفضية الثلاثة التي تشكل الشريان الحيوي للعراق: بعقوبة وبغداد والكاظمية. وبلمسة ساحرة لراو يتموقع خلف الأحداث/1/،يُرصَد نهر “خريسان” وهو يلتف على “بعقوبة” شاقا مساره بين المنارات والحسينيات والجوامع:” كان النهر عظيما جدا كبيرا ورهيبا وهو يلتف على مدينة بعقوبة ومنارات الحسينيات والجوامع وكأن هناك لغة مشتركة بين الله وروح الإنسان”(*)) ص9 )
لا ينفك المكان في الرواية عن بناء علاقات متقاطعة مع رؤية الكاتب للوجود وللغيب على السواء؛ بل إننا نكاد نجزم أن هذه التقاطعات تشكل البنية المفصلية لكل أحداث الرواية وتفاصيلها، انطلاقا من السرد ومرورا بالفضاء ( كمكان ) وانتهاء بالشخصيات. وتعتبر الصفحة الأولى من الفصل الأول عتبة التقاطعات؛ فلا يكاد الكاتب يشير إلى المكان/النهر حتى ينقدح الوعي غير المطابق،فتغرق الرواية في لغة منجذبة إلى أعماق الذات، فلا يتردد في مساءلة الحقائق، دونما القطع بالإعتقاد فيها: ” كيف خلق الله كل هذه الدنيا وهذا العالم دفعة واحدة وبكلمة واحدة.. ومن لا شيء. لم أجد دليلا قويا على وجود الله في الكتب ولكنني أدركته من خلال نغمات الطيور ومن خلال الوجع الساكن في قلوب المجروحين” الرواية ص 9.
وانطلاقا من رصد مؤقت للنهر كمكان دال، يمعن الكاتب في الإنجذاب نحو اللغة الحادة، الكثيفة دلاليا، المنعرجة على ضفاف الغرابة والغلو في تفكيك الصبغة الإشارية لطبيعة اللغة ” على ضفة النهر كنت أحلم بالملائكة وهي تمنحني سلوى الله على هيأة نقاط دوائية. لكن الدواء يختفي فجأة مثلما يظهر فجأة وكان النهر عظيما كبيرا ورهيبا ” الرواية ص 10.
تملك الرواية هذه القدرة الجذابة على المراوحة بين رصد المكان و تأكيد ارتعاش الذات وتخبطها ـ بل وتمزقها ـ وبين السؤال والتقرير والحلم. فما علاقة ضفة نهر خريسان بالحلم بالملائكة وهي تمنح الراوي/ الكاتب (صلاح صلاح) سلوى على هيأة دواء؟ إن لم يكن المكان في الرواية متجاوزا لمكانيته كأبعاد هندسية، منصرفا إلى ” التسامي المحض” حسب تعبير باشلار/2/، حيث يلعب الخيال دوره في ربط المكان بحقول تتجاوز معماره المادي، لتنسلك الذات المنكسرة في عوالم خفية، فرارا من عوالم النار والخراب، التي فرضها النظام السياسي في العراق،والتي تطفح بها فصول الرواية وقضاياها، من بدايتها إلى نهايتها..
للصورة المكانية وميضها الداخلي، جذوة روحها المتأججة، حلمها اليقظ المتألق:” كنت أحلم بالنهر، أحلم بخريسان وهو يشق المدينة العائمة. بعقوبة سحر عفوي ومثالي للممارسة الأحلام وتصفحها ” ص 10.
وللصورة المكانية ما يؤهلها، لتكون ركن الإنسان/ الكاتب الأول، وكونه الأول، كما يذهب إلى ذلك باشلار/3/، لتحتل درجة كبرى في العشق، والسياحة في هذا العشق إلى الأبد..:”هكذا عشقت النهر، إنه سكين تنخرني إلى الأبد. حتى الشمس حينما تلتف على بعقوبة تكون قد سقطت في وهم المتخيل والمناكفات الهستيرية الماتعة على الضفاف” ص 10.
للغة الكاتب وهجٌ يرافق دلالتها لتخز متقبِّلها؛ ولعملية انتقائه للمفردات وتوظيفها في زيادة قسوة المشهد بالغ الأثر على توجيه المتلقي إلى ملامسة مظاهر الخراب الطافحة على امتداد فصول الرواية ؛ فكيف تلتف الشمس على بعقوبة؟ وكيف يشقها نهر خريسان ويلتف عليها أيضا ؟.. فالشمس تسطع ولا تلتف، والنهر يمر ولا يشق، لكن وعي الكاتب بحجم الدمار الذي وقع على المدينة، وعلى العراق ككل، من جراء صلف الحاكم وبنيه وأجهزتهم، وسوء تقديرهم للأمور، ووعيه ـ أي الكاتب ـ بجدوى تقاسم هذا الدمار مع القارئ، جعلَ للوجود حركيةً مذهلة؛ فالإلتفاف مصطلح صِدامي، له بعد عسكري في الغالب، والشيء الذي يقع عليه الإلتفاف، ينكمش تحت وطأة هذا الفعل، فتكون نتيجته الإنهيار الكامل.. ألم يصب الوطن كله بالإنهيار الكامل ؟ ألم يُشق هذا الوطن إلى نصفين، وشُقَّ ـ بعد ذلك ـ كل نصف إلى أنصاف ؟؟…
للغة الكاتب ألقها الدافق الذي يرقى بالمكان إلى مستوى الوجود الناطق:” خريسان يملك سحرا خاصا بالرغم من أنه نهر صغير، ساقية متوهجة لكنه يمنحني نوعا من التواصل مع الأقمار والنجوم العشرية والهواء ” ص 11.
1 – 2: من تكثيف المكان إلى تمزق الذات
يمارس الكاتب لعبة المراوحة ( المُضنية بالنسبة للقارئ أحيانا) بين تكثيف عناصر المكان والتفصيل في وصف “ذات”متشظية مكتوية بلظى أمكنة لم يعد لها وجود إلا على سبيل الإحتراق. وفي سياق هذه المراوحة، تبرز أولى مشاهد التشظي، حيث ما إن ينغمس الكاتب في تحويل المكان إلى وجوده الناطق، حتى يبرز متغير رهيب يدفع بمنطق الأحداث إلى مسار متوتر؛ إنه متغير الزوجة والأطفال:” لكن الضباب الشحيح والمتمرد والذي يندفع مثلما تندفع الغرانيق يجعل من بوابات العالم شيئا سحريا حيث تنتظرك الزوجة والأطفال وهم ينظرون إليك بنظرات مشوهة.. لا أعرف كم مضت من السنين. السنون طويلة، هائلة ومبرقشة بالوسخ والأزبال. هذا على أقل تقدير ما ألمحه الآن وأنا أنحني لأغترف من النهر فيما زوجتي وأطفالي ينظرون إلي بروح مودعة وكأني سوف أفارقهم إلى الأبد.. ” ص 11.
لم يفصح الكاتب عن سبب الفراق هذا، لكن، ومن سياق تسلسل السرد وتسارع الأحداث، نستنبط أن البطل مُوَرط في التجنيد العسكري الإجباري، وأنه سيدفع به إلى الحدود العراقية الإيرانية ليعيش جحيم حرب فرضت على شعبين كانا متساكنين..
لا يدري البطل ما ينتظره هناك على الجبهة، لكن إحساسه الذي يشبه التنجيم، يوحي إليه بأنه متجه إلى الممالك الحزينة،حيث الحياة ستتحول إلى غمامة كبيرة..
كل ما سيأتي بعد هذه اللحظة الإنشطاريةـ لحظة الفراق بين البطل والزوجة والأولاد ـ غمامة كبيرة، يلبس فيها العراق سواد الحزن والدم والنار..” لقد هربت منهم، لكن زوجتي استطاعت أن تعرف الطريق إلى نياحتي. جاءت مع الأطفال، ضعت وأنا أغترف من النهر. إنهم لا يعرفون شيئا مما يحدث في هذا العالم الذي خلقته صدفة بأصابعي وذهني. مساكين، أطفال يضيعون في العاصفة “.ص 11.
لحظة الفراق هذه لا تشبه شيئا في الوجود غير شكل الموت وثقله:” المطر ينزل وأنا أنظر باتجاههم. عيني كانت تلاحظ ابتساماتهم الملغزة والمطر.لقد مت لكني لم أعرف أن للموت هذه الروعة الخيالية والعارمة” ص 11
هناك إصرار لافت من قبل الراوي ــ الذي هو الكاتب في هذه الرواية ـ على تذييل رصد الأمكنة بتيمة الموت. يذكر المكان فيعقبه ذكر الموت، سواء أكان موت ” الأنا” ( وهي متضخمة في هذا المتن)، أو كان موتا جماعيا كما سيأتي.. وكلما أسست الرواية فضاء ما، واسترسلت في جرد جزئياتهبما تحفل به من رونق وماء، سواء في بغدادأو بعقوبة، كلما برز الموت في لحظة متسللة من نزوة حاكم، فعم الخراب في المكان نفسه، ولحق الموت الأنا المتضخمة في سردية موجعة وموجوعة: “.. معا الأشياء كانت تتأسى بشوارع بعقوبة بعد الأمسية السحرية، حيث القمر ينزلق متاخما الحدود، تضاء من نور داخلي مسحور. صوت مياه خريسان، شدة التفق اللاعج. والمصباح والترنيمة الدنيا تفوح في الأماكن..
أنا بكل معاني الإنحطاط أموت وأحيا ضمن ديماغوجية الحياة. دائما كنت مرتبطا ببعقوبة، بالشوارع الكسولة والمياه الدافقة.الزمن والعطر في بعقوبة عبارة عن مباهج درامية تتكون في السماء ثم تنزل إلى الأرض ” ص 12.
1 ـ 3:من الطوبوفيليا/4/إلى الوعي الإلفي:
يظل المكان، بأبعاده المادية والروحية، المكون الأساس لرواية ” بوهيميا الخراب”؛ به تم افتتاح السرد كما سبق، وبه انتهى. والحقيقة أن الكاتب/ الراوي لم يأل جهدا في عملية مسح لجزيئات المكان البسيطة” الطوبوفيلياTOPOPHILIA “، والإعلان الصريح عن الانجذاب إليها والذوبان في عطرها ولونها وطقسها، والإنغماس الحميمي في تفاصيلها.. وتطفح الرواية بمقاطع متعددة وهامة لهذا الانجذاب السحري والعفوي والبسيط تجاه الأمكنة، والتي ستشكل، في بادية هذا الإنجذاب، وعيا إلفيا/ طفوليا مرتعشا و متناعما مع صدمة الكون الأولى، بين المكان الأول التي تتفتق حوله الأعين،وبين وجدان الكاتب/الراوي؛ فتزدحم الأمكنة، ليس بأجزائها المادية فقط، وإنما بحمولة ذاكرتها أيضا:
* المقطع الأول:” بعقوبة سحر عفوي ومثالي لممارسة الأحلام و تصفحها” ص 10
* المقطع الثاني” شوارع ‘بعقوبة’.. حيث القمر ينزل متاخما الحدود، تضاء من نور داخلي مسحور، صوت مياه خريسان، شدة التدفق اللاعج ” ص 12.
* المقطع الثالث: ” في ارتعاش المكان تستطيع أن تقرأ أبجديات جديدة”ص13.
* المقطع الرابع:”عشقت الضباب هنا مثلما عشقته في بغداد. كنت أذهب دائما في الصباح الباكر إلى نهر دجلة وأقرأ دائما في تاريخ المكان. الأمكنة في بغداد مزدحمة دائما، ليس بالأشخاص وإنما بالتاريخ. كل قطعة أرض سار عليها قبلك الزنج والعباسيون والبابليون وزبيدة والشطار وحراميي بغداد (**) وجنون ألف ليلة وليلة” ص 14.
* المقطع الخامس:” كل شبر من بغداد يمنحك تناذرا عميقا للمادة السحرية. حتى القحاب وصراخهن في الحواري والدرابين يعطيك التماثل في تلك المقصورات الهجينة والمتاخمة للحجر الطيني الأصفر. تنام القحاب مع المتصوفة والمتصوفة مع الولدان والولدان مع الفرخجية(***). نذوب كلنا في بهاء الأمكنة والأصوات والريح والمطر ثم انبثاق الزمن من عبثية الجنون الصرف ” ص 16.
تشكل هذه المقاطع الخمسة مادة خصبة للدلالة على هذا المسح ” الطوبوفيلي” لجزيئات المكان في ارتباطها المباشر والجدلي بنمط من أنماط الوعي الإلفي ذي الروابط الحميمية الأولية مع أمكنة كانت تستوطنها مادةً سحرية، فتحولت بفعل العاصفة إلى ركام.
يرتبط هذا المسح بعناصر ثلاثة للمادة: الماء والهواء والتراب، فتثرى هذه المواد في وجدان الكاتب، تتفاعل ثم تتداخل لتسهم في اطراد سرد جميل، تتخلله صور شعرية دالة؛ يحكي عن ‘ بعقوبة’ وبغداد، و يجعل من بعقوبة سحرا عفويا لتصفح الأحلام، تضاء شوارعها من نور داخلي مسحور، فينبعث منه تدفق مياه نهرها اللواعج، فيرتعش المكان وتُقرأ الأبجديات الجديدة..ويجعل من بغداد بؤرة لتناذر المادة السحرية، حيث تتفاعل المتناقضات لتبعث في المكان وجودا لا يقوم إلا على المغايرة والإختلاف: أي نعم الإختلاف والمغايرة هما سر وجود هذه العاصمة منذ الأزل؛ فبغداد لم تستو في زمن إلا بعد خراب، ولم تخرب إلا بعد استواء، ولم تعمر إلا بتجاور المتناقضات جنبا إلى جنب: الزهد والتقوى في مقابل المجون والشذوذ واللواط، والإيمان في مقابل الزندقة و الإلحاد، العقل في مقابل النقل، والسلم في مقابل الفتنة، والثبات في مقابل الثورة.. هي ذي بغداد، وعلى مدى قرون مضت، مزيج من الثنائيات الضدية الضامنة للإستمرار الوجودي، من جهة، والباعثة على الخراب من جهة أخرى.
تشَرَّب وجدان الكاتب هذه الثنايات، الوجودية والقاتلة في نفس الوقت، فسخر لها هذه البنية السردية ـ وعلى رأسها البنية المكانية ـ ذات الرموز الإشارية، المؤسسة على شبكة من العلاقات والشفرات، تعكس رؤية الكاتب وتوجهاته الإيديولوجية والفلسفية اتجاه ما يجري.
1 ـ 4: المكان والتقاطبات المكانية polaritésspaciales /5/
يتعلق الأمر هنا بجدل الأمكنة والتقابل الضدي بين مكانين متعارضين، يشكل الواحد منهما نقيض الآخر. والحقيقة أن ” بوهيميا الخراب” رواية شُكلت تفاصيلها كلها من هذا البناء السردي المتين الذي يدفع في اتجاه التقابل المكاني بهدف رفع حدة التوتر في العلاقة التي تربط الشخصية بالمكان؛ وهو توتر ينبني على حنين( نزوع) هذه الشخصية ـ وجدانيا ـ نحو مكان نشأتها الأولى، مكان الماضي الجميل، مكان الطفولة الأولى والحلم، ونفورها ـ بالمقابل ـ من مكان معاد صنعه الخراب. وقد أولى “يوري لوتمان” في كتابه” بنية النص الفني” أهمية كبرى للتقاطب المكاني الذي يأتي على شكل ثنايات ضدية ( سماء/أرض مثلا)، فينشأ عن هذا التعارض تعارض آخر إيديولوجي أو رؤية للعالم مغايرة لما هو كائن، فتبسط معالمها على مكونات الرواية ككل.
والتقاطب المكاني في رواية بوهيميا الخراب تقاطب جامع بين مكانين: مكانُ ما كانَ، ومكان الخراب؛ فأما المكان الذي كان، فهو ما رصدته هذه المداخلة، والذي شكل هاجس نزوع نفسي جميل و”لذيذ”، نزعته نفسية الراوي/البطل، فتمثلته خصبا يفوح من عظمة نهر خريسان الملتف على المدينة، ومن اللغة المشتركة بين الله وبين الإنسان، والتي طرزتها معالم الجوامع والحسينيات، ومن عمق المكان الذي تمتزج في روائح زهر الرمان والعطر بزمن ثقيل بخصب التاريخ والأحداث العظيمة التي مرت وبقي أثرها شاهدا عليها..
وأما المكان الخراب، فهو المكان المضاد والطاغي على تفاصيل الرواية كلها( باستثناء مطالعها)، وهو المكان الذي خلقته صلافة النظام السياسي في العراق في فترة التسعينيات وما قبلها وما بعدها، ومن سوء تدبيره لمجريات الأمور، وسوء إدراكه للعواقب.والطابع العام لهذا المكان هو السواد القاتم والقاتل، والذي فُرض على جماعة بشرية، فحولها إلى ركام لحم لا أحاسيس لها ولا حياة، بل إلى حيوانات تجبر على الساهمة في تأثيثه.. يقول الرواي” أن تعيش الخراب فتلك مصيبة، لكن أن تساهم فيه فتلك شناعة أكبر” ص 26.
للمكان الخراب في الرواية أوجه متعددة:
1ـ مقر الحزب: وهو مكان سيء الذكر في تلك الرقعة المحروقة من الأرض، حيث استطاع اختراق الجامعة، فحولها إلى وكر بوليسي تجسسي:” في الصف الدراسي الذي أقبع فيه، هناك أربعة من الأمن العام، واثنان من الإستخبارات العسكرية، وفرد من رئاسة المخابرات وثلاثة من أمن بغداد وثلاثة من حلقة الحزب الأمنية ” ص 26. وكان يساق إلى مقر الحزب “قطيع من البهائم”، بلغة الراوي، مكون من طلبة وغيرهم، ضدا على إرادتهم، فيجبرون على حضور اجتماعات طويلة ومملة، يتعرضون فيها لأشد أنواع التأنيب والتهديد من المسؤول الحزبي الذي هو مسؤول عسكري في الأصل. يقول الرواي:” أخذت أنظر.. إلى الطلاب الجالسين أمامي، هناك الكثير من الذين استعملت القسوة لإجبارهم للإنتماء إلى الحزب. كان الكثير من الطلاب البعثيون ( يقصد البعثيين) يساقون إلى الإجتماع الحزبي مثل البهائم. كنت أحس بأنهم يلعنونني. كنت أمارس نوعا من الفاشية الداخلية وأنا أنتظرهم أمام أبواب القاعات الدراسية من أجل جلبهم للإجتماعات”ص 24.
2 ـ البناية رقم أربعة: وهي غرفة همجية وخيالية، مخصصة للإستنطاق، مع ما يرافق ذلك من فنون التعذيب. يقول الراوي: الذاكرة منبعجة، وهي تتذكر غرفة همجية في البناية رقم أربعة. كان هناك مندوب أمن بغداد. غرفة مزينة بالملفات الكثيرة بالإضافة إلى أدوات التعذيب هناك خرق لتعصيب العينين وكلبشات وعصي رفيعة وأشياء أخرى تلهم المشهد نوعا من اليوتوبيا الحلمية عن أماكن خيالية. رائحة الغرفة دائما هي مزيج من ثاني أوكسيد الكاربون والميتان والتبغ مضافا لها رائحة البول العتيق ” ص 25.
3 ـ مقر منتدى الأدباء الشباب: وهو منتدى يضم جماعة من المثقفين العراقيين الذين كان من المفترض أن يكونوا مشاعل للتنمية الثقافية، لكن النظام السياسي حولهم إلىكائنات مدجنة لا دور لها سوى تصريف لونه الإيديولوجي وتمرير خطاباته وتوجهاته. في هذا المقر كانت تمارس كل الأشياء التي تخطر على البال، عدا الثقافة، التي كان حظها من حظ الخراب العام. يقول الرواي ” قررنا أنا و”خ” أن نأخذ الباص إلى منتدى الأدباء الشباب، كان هناك اجتماع لعقد منتدى القصة القصيرة، ودورها في الإنتصارات على الفرس المجوس، وجدنا هناك عاهرات وسكارى.. كان سبب وجودنا أنا و”خ” هو الحصول على دعوة لحضور المهرجان بأي ثمن، ومن تم التمدد في فندق المنصورة والشيراتون والسكر إلى الأبد على حساب وزارة الثقافة” ص 45.
4 ـ مقر تسلم الجثث: وهو مقر ذائع الصيت لكن ذكره سيء ؛ يسبح ـ شأنه شأن العراق الكبير ـ في وجع جماعي قاتل. تتوزع الجثث بين قتلى الجنود العراقيين في الحرب العراقية الإيرانية، وبين المحكوم عليهم بالإعدام للأسباب سياسية؛ وكان من المعدومين والدة بطل الرواية، وذلك بسبب انتمائها إلى الحزب الشيوعي العراقي. يقول:” اقترب المسؤول الحزبي مني وردد اسم أمي، نزل الدم فجأة إلى ساقي، أحسست فجأة بالعار والدهشة والخوف. كنت أعرف أنهم قتلوها، لكني لم أستلم جثثها بعد.” ص 35. ولم يكتف الخراب بإعدام الأم لأنها اختارت لونا سياسيا مغايرا، ولكنه تجاوزه إلى منع أهل الضحية من إقامة مناحة أو مراسيم عزاء، مع إلزامهم بدفع ثمن رصاصات الإعدام !:” في غرفة جانبية كتبت تعهدا بأن لا أقيم مناحة ولا أنصب عزاء. مراسيم الجنازة كانت أن أبكي وحيدا ثم أن لا افتح النعش. بأصابعي المتجمدة والليلكية وقت التعهد واستلمت النعش بعد أن دفعت ثمن إطلاقات الإعدام” ص 35.
4 ـ المقبرة: لا يتردد الكاتب في بسط الأمكنة / الكوابيس عبر وصفها الدقيق، وذلك للدلالة على ما يعانيه من وحشة وظلمة ورعشة وألم. وأجدني،في هذا السياق، مضطرا لنقل مقطع وصفي لمكان المقبرة رغم طوله النسبي، حيث يتعالق السرد ـ كحوار داخلي في هذا المقطع ـ مع اشتغال الوصف، فينشأ هذا التآلف الجميل بين عين الكاتب الراصدة، وما يعتمل في دواخله من مآس وآلام، يقول ” مررت على المقبرة التي ترقد فيها أمي، مسدت القبر ووضعت ياسا وشمعة استلفتهما من قبر مجاور. المقبرة والظلمة وحشة أبدية، صمت عميق لا يبزه شيء. وضعت كفي على الشاهدة، جلست أمامها مباشرة حالما أنها لم تكن، لكنها اختارت أن تكون تحت التراب. الإنسان عبارة عن ذاكرة فقط، وحينما يموت المرء تبقى ذكره الحية مبثوثة في العقول. لم أجد وأنا أمام القبر كلمات أقولها، لكن صدري منقبض. ثمة شيء داخله يموت كل لحظة. وجدت نفسي فجأة في عالم الوحدة التامة ووحدة الوجود والليل والرعشة التي تسربل جسمك بدءا من الرأس وانتهاء بأصابع القدم ” ص 68
5 ـ جبهة القتال: هي فضاء الموت المجاني، سياق حرب عرفت بالحرب العراقية الإيرانية، فرضتها شهوة رعناء، فجعلت من قدر البشر الخروج من حرب والدخول في أخرى، مع ما رافق دلك من دمار. يصف الراوي مشاهد القتل في الجبهة فيقول:” كنت أقتل لكنه قتل مجاني لا يحاسبك عليه أحد. الجندي المقابل لي في الساتر المعادي لا يشكل لي حالة إنسانية، إنه رقم، شيء يتحرك، لعبة كومبيوترية وعلي اصطياده بسرعة قبل أن يهرب. قتل إنسان في الجبهة يشبه قتل عصفور بائس وضعه القدر أمامك بغتة وعليك التخلص منه.. الطرف المقابل ـ العدو ـ عبارة عن قملة وبرغوث وحيوان تائه” ص 111.
وبما أن قدر البطل كان هو مشاركته في كل حرب تفرض على شعبه، فقد كان حظه أن استدعي ثانية لتلبية “الواجب الوطني” في حرب أمريكا على العراق، فجاء توصيفه لمشهد الدمار كالتالي: ” دمروا كل شيء، جربوا كل شيء، كل اسلحتهم الموبوءة بالوجع والعماء الكوني.. مقدار القنابل التي أفرغت على رؤوسنا تعادل عدة قنابل من حجم قنبلة هيروشيما وناكازاكي.. كانوا يقصفوننا بحرقة تشبه حرقة التبول الكلي في مرحاض الوقت الضائع، في شهوة طازجة غير مريحة..” ص 30
انتهى القسم الأول
……………………………………….
1 ـيتعلق الأمر بالرؤية من خلف حسب التقسيم الذي صاغه “تودوروف” حول تعدد زوايا الرؤى: الرؤية من خلف والرؤية مع والرؤية من خارج. حميد الحميداني. بنية النص السردي ص 50
(*) للتوضيح وللأمانة العلمية، فقد وردت في نص الرواية أخطاء إملائية ونحوية غريبة، بالمقارنة مع القدرة التعبيرية للمؤلف،مع خلو النص من علامات الترقيم في الغالب،لذلك فسأضطر إلى نقل التستشهادات كما هي في أصلها،مع فتح القوسين من عندي للتصحيح.
2 ـ باشلار.جماليات المكان.ص 21
3 ـ باشلار:نفسه ص 36
4 ـ باشلار: نفسه
(**) ـ يقصد: حراميو بغداد ( التصحيح من عندي –)
(***) ـ المعممون الهتلية من وكلاءالمراجع
/5/ ـ لوتمان: بنية النص الفني