سما زيادة
من الأمور التي توجب التوقف عندها في النصوص الأدبية، عندما يستطيع الكاتب تطويع الأسطورة والتاريخ لرصد الواقع، وهو ما استطاع الكاتب السكندري محمد العبادي، أن يقدمه ببساطة وفنية في مجموعته القصصية الجديدة ” في مديح الجاموس الأبيض”، الصادرة أخيرة عن الهيئة المصرية العامة للكتاب.
يقدم العبادي في مجموعته الجديدة، نصوصًا محكمة تجمع بين البساطة الظاهرية والعمق الإنساني الدفين، مستلهما الأسطورة والتاريخ في بعض النصوص لكي يقدم قراءة جديدة للواقع.
منذ القصة الأولى، يضعنا العبادي أمام عالم مألوف لكنه محمّل بالدلالات: شخصيات عادية تعيش مواقف تبدو بسيطة لكنها ترمز لصراعات أوسع بين الفرد والمجتمع، بين الرغبة والخوف، بين الحلم والانهيار.
الفلاح الفصيح أسقط الطاغية
يبدأ العبادي مجموعته بتقديم معالجة جديدة للقصة الفرعونية الشهيرة، الفلاح الفصيح، لكنه حين يحاول أن يستنهض صوت الفلاح المصري القديم، يجده لا يزال حبيس الشكوى والانكسار والظلم، كأن التاريخ دائرة مغلقة.
وتتطور فكرة السلطة والفرد، في قصته “رعاية صحية”، حيث ندرك أن هؤلاء الطغاة عندما يتركون السلطة والنفوذ، يتعرون تماماً من أقنعة الجبروت، يصبحون وكأنهم لم يُخلقوا أبداً، وهنا ينُزل عليهم العبادي الكارما المستحقة، ويصالح الفلاح، في نهاية مستحقة، تختلف تماماً عن نهاية “الطواشية” هؤلاء الأشخاص منزوعي الإرادة، والذين يملكون مكانة بلا نفوذ فعلي، فكانت نهاياتهم مناسبة لفئة تنازلت عن الكثير مقابل البقاء في دائرة الضوء.
التحرش وأشياء أخرى
لم تتوقف مجموعة “في مديح الجاموس الأبيض” فقط عند مناقشة العلاقات السلطوية بتنوعاتها، إذ تقدم قضايا اجتماعية أخرى، وثيمات فنية مثل الثيمة الفنية، فيناقش العبادي، في في لفتة صارخة مؤلمة معضلة التحرش الجنسي بالأطفال في المدارس -كما في قصته “دراسات اجتماعية”- وأثره النفسي عليهم طوال حياتهم، مما قد يؤدي في النهاية إلى الانتحار. أوليس هذا ما نقرأه يومياً من مآس؟
وينتقل العبادي من قضية الهوس الجنسي بالأطفال إلى هوس من نوع آخر، وهو الهوس بالظهور والنرجسية “هيستريونيك”، متطرقاً إلى الأذى النفسي الذي يصيب كل من تطاله يد المصاب بهذا الهوس.
ومن نظرة مهووسة بالنفس، لنظرة دونية للآخر، تستعرض القصة التي تحمل اسم المجموعة “في مديح الجاموس الأبيض” علاقتنا بالآخر والبعد عنه، وكيف يمكن لهذا الجدار الذي نبنيه بيننا وبينه أن يجعلنا لا نفهمه، ولا نستطيع التعامل معه، وعندما ننظر لما وراء هذا الجدار نجد أن الآخر ماهو إلا صورة جديدة لنا بطريقة أو بآخرى.
عندما وقعت سيمين في أيدي الأنكشارية
وبجانب البعد النفسي والجانب السياسي، يأخذنا العبادي في رحلة ثلاثية لعالم التعصب الديني الأعمي، وأثره النفسي والاجتماعي والسياسي على الفرد والمجتمع، من خلال قصص “التابعون” “الانكشارية” “دعونا نتحدث عن سيمين”
وقد أوضح الكاتب من خلال ثلاثة مشاهد، مفهوم التعصب، وكيف بدأ، وما الأثر الذي تركه، وضرورة الثورة عليه.
وبعيداً عن هذه القضايا الجادة، وفي قصة تقدم “كوميديا سوداء” من جانب وهماً مبطناً من جانب آخر، تناقش “هوامش على دفتر الفتة” في إطار تخيلي “عالم الطعام الصحي” ـ هيلثي ـ بلا طواجن ولا مكرونات أو فتة، ومعاقبة كل من يُمسك بهذا الجرم، فمن الرقيب؟ أظن المعدة هي شرطة الأكل هنا.
نيران داخلية:
تحمل مجموعة “في مديح الجاموس الأبيض”، أسلوب محمد العبادي المميز ولغته السلسة، كما نجد أن الجمل قصيرة، لكنها قادرة على فتح أبواب التأويل على مصاريعها. لا يتورط معها في تجميل الأحداث والآلام؛ بل يقدمهما بلغة كاشفة، تدفع القارئ إلى التورط العاطفي مع النصوص دون عناء.
ورغم تنوع موضوعات القصص، فقد استطاع أن يجعل المجموعة كلها تبدو كلوحة فسيفساء متكاملة، تكمل بعضها بعضاً، وتستحق مجموعة بمثل هذه القوة أن يفكر مؤلفها في أعماله المقبلة في انتهاج أساليب مختلفة ومتنوعة من التجريب في السرد لتصبح تجربته أكثر نضجاً وثراءً.