- ما الذي نعرفه عن وفاة الفنانة “سعاد نصر”؟
…….
- إن كان السبب خطأ طبيب التخدير، فلماذا كان الحكم عليه مخففًا، فقط عام واحد مع إيقاف التنفيذ؟
……
- هل نعرف مساحة دور طبيب التخدير في غرفة العمليات، وفيما يفكر وهو على وشك نقل المؤشرات الحيوية لجسد ما إلى أقرب مسافة ممكنة من الموت؟
……
من زاوية ما لا نعرفه إنسانيا أو تاريخيا عن علم التخدير وأهله بصفتنا مرضى محتملون أو أقرباء لمرضى محتملين يخرج كتاب “الإكسير سحر البنج الذي نمزج” وهو كتاب إلكتروني صدر 2018 عن مؤسسة هنداوي للنشر والتوزيع، للقاص والروائي “أحمد سمير سعد”، ويحاول فيه طرح إجابات ممكنة عن تلك الأسئلة بصفته كطبيب تخدير.
في رحلة تبلغ المائة وأربعين صفحة مقسمة على سبع مقالات طويلة نسبيا، بدأت بـ”أحلام تحت تأثير المخدر”، ومرت بـ”وليام مورتون؛ بزوغ شمس التخدير”، “سعاد نصر؛ التخدير دوما متهم”، “أن تكون طبيبا للتخدير”، “أكسيد النيتروز؛ غاز الضحك والانتشاء”، “جرعة بنج زائدة”، ثم انتهت بـ”مستقبل البنج”.
تلك المقالات سبقها مقدمة قصيرة شرح فيها الكاتب هدفه من وراء كتابتها: فـ“هذه كتابة تهتم بأنسنة الأشياء؛ فكل نشاط –حتى ولو ادّعى البعض كونه ميكانيكيًا أو محكومًا بقوانين وأبحاث جامدة- هو في الأصل فعل إنساني وعلاقة إنسانية… كتابة تسعى لأنسنة غرفة العمليات وجهاز التخدير وغازات التخدير، تسعى لتحويل ما يعتمل في الصدر إلى كلمات وجمل، تسعى للاستفادة من ميراث إنساني طويل من الحكايات والطرف والأساطير، قاوم بها الإنسان الظلام والخوف والمجهول “.
يمكننا نظريًا قبول فكرة الخطأ الإنساني، خاصة وإن كان المخطئ نحن، فأنا مهما بلغت مهاراتي الشخصية في عملي، تبقى أمامي نسبة خطأ محتملة بصفتي إنسان، إلا أن تلك النسبة المهنية المحتملة للخطأ ليست أمامي الآن وأنا أقف خارج العناية المركزة، أنظر من الزجاج على جسد أبي الهامد بفعل غيبوبة عميقة بسبب خطأ من طبيب.
أرى من حول جسده الأطباء والممرضون وهم يتحركون ببطء مستفز. ما يقفز إلى ذهني أن أولئك العاملون في الحقل الطبي “متبلدوا المشاعر”؛ من كثرة ما مرت عليهم حالات المرضى، وأبي الذي يعتصر قلبي عليه بالنسبة إليهم ما هو إلا رقم منوم في سرير أو غرفة.
تلك الصورة يقابلها صورة أخرى من زاوية الطبيب.
فمثلًا أطباء التخدير يتعمدون وصف مرضاهم بالنائمين ولا يجرؤون على وصفهم بـ”المخدرين، ولا المبنجين”.
“نحن –أطباء التخدير- قوم متطيرون، نؤمن بالفأل الشؤم والفأل الطيب، ونعتقد في الغيبيات والماوراء، ونستعيذ –بالله- من الشياطين ومن عبثهم، ونتودد للملائكة ونأمل في مساندتهم –بإذن الله- لنا.
ليس الأمر كما يبدو تسليما بالخرافة أو معالجة لمرضانا بشكل غير علمي تجريبي؛ على العكس تماما، فما أعلمه يقينا أننا قوم نؤمن بالطب المبني على دليل… أعتقد أن ذلك يرجع ربما وإن كانت الأرقام حدية ولا تقبل الفصال، والمضاعفات حتمية بنسب معينة محسوبة ومقدرة، إلا ان لعبة الاحتمالات صادقة جدا عندما ننظر لعينة واسعة، لكن عندما يتعلق الأمر بشخص واحد فقط هو الذي بين يديك، فالاحتمال هو إما أن يحدث الأمر أو لا يحدث بنسبة مائة بالمائة”.
في تلك الحالة أبي كمثال، مهما كانت احتمالات الخطأ أو المضاعفات فيما يخص حالته محسوبا على نطاق واسع بسبب عدد المرضى الذين يتلقون العلاج معه في نفس الوقت، والتي ربما لم تتعدى الـ 1% الذي يخص حالة أبي في هذا اليوم، إلا أنه بالنسبة لنا كأهل للمريض فقد حدث الخطأ بنسبة مائة بالمائة. مع ملاحظة أن جسده كان مصابا بأمراض خطيرة واحد منها يكفي كسبب لوفاته –سرطان كبد، دوالي مريئ، اسداد شرايين، سكري…- إلا أننا وقتها لم نلاحظ ذلك.
فالكاتب يلفت نظرنا إلى أن الطب وظيفة كأي وظيفة أخرى لها حدود وأمام تحديات بسبب ظروف العمل القاسية وقلة الإمكانيات في دولة نامية كمصر، هذا بالإضافة إلى نسبة الخطأ الإنساني الفردي المقبولة، فالأطباء بشكل عام يدرسون ظاهر العوارض، يضعون خططا مباشرة وغير مباشرة للحفاظ على حيوات غيرهم، إلا أن الصعوبة تكمن في أن حياة كل مريض هي تجربة فريدة بذاتها ولذاتها، لهذا ربما تحدث مضاعفات لمريض لم يكن متوقعا حدوثها إلا أنها تحدث ببساطة.
ندرك حقيقة أن مهنة الطب تعتني بصحة أجساد تتآكل طبيعيا بمرور الوقت. فحياة الإنسان في حد ذاتها مخاطرة تحمل في طياتها احتمال الألم، والضعف وبالتأكيد الموت، كغرفة العمليات، كقدرة المخدر السحرية على إفقاد جسد لمؤشراته الحيوية لدرجة تقترب من الموت ثم قدرة أدوية سحرية أخرى يحقنها الطبيب تساعد ذلك الجسد على استعادة مؤشراته الحيوية مرة أخري ليعمل بأقصى كفاءة ممكنة.
كما يوضح لنا الكاتب دور طبيب التخدير في غرفة العمليات، فوظيفته ليست فقط حقن مريضه بجرعة مناسبة من مخدر مناسب لحالته الصحية، فهو أيضا المسئول الأول عن تأمين مجرى التنفس للمريض ومتابعة المؤشرات الحيوية العامة لحالته، لتسهيل عمل الجراح.
ورغم أهمية تعرفنا على المشاعر الإنسانية لطبيب تخدير يراقب مرضاه وهم: “يغمضون عيونهم في هدوء، وينسحب الوعي، أحاول أن أعبر بالقارب آمنا بهم، ليس قاربا كذلك لشارون، الذي يعبر من الحياة الدنيا للعالم الآخر ويأخذ أجره عملات ذهبية من عيون زبائنه، بل قارب نحاول تخيله كسحابة رقيقة وعوالم حلم، قارب نحاول جعل انزلاقاته هادئة وآمنة، أهمس في أذن النائمين طوال الوقت، وأسمع اصواتهم طوال الوقت، وأستدعي ابتساماتهم؛ هي رحلة بسيطة وهانئة، وسنعود جميعا سالمين”.
إلا أن الكاتب في رأيي لم يوفق في اختيار عنوان جاذب للقارئ الذي يحتاج فعلا إلى تلك الرحلة الإنسانية من المكاشفة والمبادلة للأسرار بينه وبين طبيبه.
“أحمد سمير سعد” روائي وقاص صدر له ثلاث روايات: “سفر الأراجوز، شواشّ، المزيّن”، وثلاث مجموعات قصصية: “الضئيل صاحب غيّة الحمام، طرح الخيال، الله..الوطن..الهو..”، وصدر له أيضا كتاب “تسبيحة دستورية”، وكتاب “اللعب مع الكون”.