سبعُ حالات ملتبسة

شيرلي جاكسون
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

قصة قصيرة للكاتبة الأمريكية: شيرلي جاكسون

ترجمة:د. إقبال محمد علي

يبدو قبو محل بيع الكتب واسعاً جداً. صفوف طويلة من الكتب التي لا ترى العين نهاياتها بسب العُتمة… تغص أرفف خزاناته الخشبية الممتدة على طول حيطانه بالكتب و على أرضيته تتكدّس، أكوام كبيرة منها. في محل العرض الصغير النظيف في الطابق الأرضي يوجد سلم حلزوني ضيق يؤدي إلى القبو، تنتهي آخر درجة فيه بطاولة السيد هاريس الصغيرة التي يتخذها مكتباً له حيث يتولى في هذا الركن، عمليتيّ البيع و الشراء.

على الطاولة التي ينيرها مصباح متسخ يتدلى من السقف توجد فهارس كتب مرمية بفوضى… نفس الضوء، ينير رفوف  المكتبات المزدحمة المحيطة بمكتبه.  ينير الطاولات الممتدة حتى نهاية الجانب الآخر من القبو، مصباح متسخ  آخر ، يتدلى من سقف القبو، يفتحه و يطفئه الزبون بعد أن ينتهي من اختيار ما يريد ليتوجه بعدها إلى مكتب السيد هاريس الذي يقوم بلفها بعد قبض ثمنها. السيد هاريس يعرف عنوان و مكان كل كتاب على هذه الرفوف.

كان لديه في تلك اللحظة زبون شاب يبدو بعمر الثامنة عشرة، يقف في نهاية القبو تحت أحد المصابيح، يتفحص كتابا اختاره من الرف. كانت غرفة القبو الكبيرة، باردة، و كان كلٌ من السيد هاريس و الشاب يرتديان معطفيهما. كان السيد هاريس ينهض من مكانه بين آونة و أخرى،لملء  مجرفته الهزيلة بالفحم من الشوال و رميه في الموقد الحديدي الصغير الواقع في عطفة السلم. كان الهدوء يملأ المكان و الكتب يعمها السكون وضوء المصباح خافتا، لولا حركة الشاب لإعادة كتابٍ إلى الرف أو توريق كتاب آخر، أو قيام السيد هاريس، من خلف طاولته.

فجأة انقطع حبل الصمت، حين سمعا أصواتاً تأتي من الطابق الأرضي، حيث يعرض السيد هاريس فيه، الكتب الفنية و الكتب الأكثر مبيعاً. كان السيد هاريس و الشاب يتنصتان، سمعا بعدها صوت البائعة الشابة تقول: يمكنكما استخدام هذا السلم للنزول إلى القبو كي يقدم لكما السيد ما تحتاجان من مساعدة.

نهض السيد هاريس من مكانه و توجه ليقف أسفل السلم مضيئاً أحد المصابيح كي يتمكن الزبائن من معرفة طريقهم عند النزول. أعاد الشاب الكتاب الذي في يده إلى الرف واضعا يده خلف ظهره، يتسمع. لاحظ السيد هاريس ان هناك امرأة تنزل من السلم، تراجع من مكانه بأدب قائلاً: احذري الدرجة الأخيرة.أدرك ان هناك شخصا آخر يتبعها.. واصلت السيدة النزول بحذر، ثم وقفت تنظر حولها، اثناء ذلك، هبط رجل بتأنٍ شديد حانيا رأسه كي لا يرتطم بسقف القبو: انتبه للدرجة الأخيرة (صاحت الزوجة بصوت هادئ). انتصب الرجل واقفاً إلى جانبها و رفع رأسه ينظر فيما حوله كما فعلت المرأة.

– لديك الكثير من الكتب. (قال الرجل)

– ضحك السيد هاريس ضحكته العملية: كيف يمكنني مساعدتكما؟

نظرت المرأة إلى الرجل الذي قال بعد تردد: نريد شراء بعض الكتب… أقصد، مجموعة من الكتب. (مؤشراً بكلتا يديه)

– إن كنت ترغب بمجموعة من الكتب (قال السيد هاريس مبتسما)فلربما سترغب السيدة بالجلوس عند الطاولة. تبعته المرأة.. سار الرجل بين الطاولات مسدل اليدين خوفا من الإرتطام بالكتب أو كسر شيء. قدم السيد هاريس مقعده للسيدة و جلس على حافة الطاولة من الجانب الآخر مزيحا مجموعة من الفهارس إلى الجانب.

– مكان ممتع. (علقت السيدة بنفس النبرة الهادئة التي سمعها حين تحدثت معه في  المرة الأولى)

السيدة، تبدو خجولة في منتصف العمر، ترتدي ملابس أنيقة تناسب عمرها. الرجل، كان مديد القامة، ودوداً بوجه مُحْمَرّ بسبب البرد و يمسك بيده قفازين من الصوف.

– نرغب بشراء بعض الكتب.. أقصد، بعض الكتب الجيدة.

– هل يوجد في ذهنك شيء معين؟ (سأل السيد هاريس مستفسرا)

ضحك الرجل بصوت محرجٍ عالٍ:ربما سأبدو لك ساذجا. أنا في الواقع، لا  دراية لي بهذه الأشياء.. أقصد الكتب….لكني لا أريد زبالات كتب اليوم.. (وابتلع ريقه)

– كنت في صغري، اقرأ لديكنز. (أجاب الرجل المديد القامةأرغب بكتبٍ من هذا النوع.(رفع نظره و شاهد الشاب الواقف بين صفوف الكتب يسير بأتجاههم)، أريد معاودة قراءة ديكنز.

– سيد هاريس؟ (سأل الشاب بصوت هاديء)

– نعم سيد كلارك! (نظر إليه السيد هاريس مستفسراً)اقترب الشاب من مكتب السيد هاريس غير راغبٍ في قطع الحديث بينه و بين الرجل الضخم

– أريد إلقاء نظرة على كتاب “إمبسون”.( استدار السيد هاريس إلى المكتبة ذات الأبواب الزجاجية الواقعة خلف مكتبه و سحب الكتاب: ها هو ذا. يجب ان تتفحص هذا الكتاب الغالي الثمن جيداً، قبل ان تقرر شراءه، ثم استدار مبتسما للرجل المديد القامة و زوجته: في اليوم الذي سَيُشْتَرى فيه هذا الكتاب سأعلن أفلاسي من وقع الصدمة.(ابتعد عنهم الشاب ماسكًا الكتاب بيده)

– مال الرجل بجسمه تجاه السيد هاريس قائلاُ: أظن انني أرغب بشراء مجموعتين جيدتين من الكتب الكبيرة، بحجم كتاب ديكنز و مجموعتين من الكتب الصغيرة.

– و نسخة من كتاب “جين إير”، ( أضافت السيدة بصوتها الهادئ)، كنت مغرمة بهذه الرواية.

– يمكنني إعطاءك طبعة جيدة بغلاف أنيق، من روايات”برونتي”.

– أريد طبعات جميلة ومتينة (قال الرجل)،لأنني أنوي قراءة جميع أعمال ديكنز مجدداً.

– توجه الشاب إلى السيد هاريس، ليعيد له الكتاب: ما زال الكتاب بحالة جيدة.

– سأحتفظ به لك هنا، متى قررت شراءه. (قال السيد هاريس، أثناء إعادة الكتاب إلى موضعه)

– أعتقد أنه سيبقى في هذا المكان، لفترة طويلة. (رد الشاب)

– ما اسم هذا الكتاب؟ (سأل الرجل الضخم بفضول)

– “سبعُ حالات ملتبسة(أجاب الشاب)، أنه كتاب قَيم.

– عنوان جميل لكتاب (قال الرجل المديد القامة موجها كلامه للسيد هاريس). يبدو  أن هذا الشاب في منتهى الذكاء ليقرأ كتابا تحت هذا العنوان.

– أنه من الكتب الجيدة بالتأكيد.(أجاب الشاب)

– أحتاج شراء كتب قيمة (قال الرجل المديد القامة للشاب)، أريد إعادة قراءة بعض أعمال ديكنز التي فاتتني قراءتها… فأنا من المعجبين بديكنز.

– “ميرديث”، كتاب جيد.(قال الشابهل جربت قراءة، ميرديث؟

-“ميرديث”؟ (ردد الرجل المديد القامة متسائلاً). أريد إلقاء نظرة على البعض من كتبك ( مخاطباً السيد هاريس)، لأنتقي منها ما في ذهني.

– يمكنني مرافقة السيد، فأنا في كل الأحوال، ذاهب إلى هناك، لأخذ قبعتي.

-سأذهب مع الشاب لرؤية الكتب يا أميمة (قال الرجل مخاطباً زوجته)، يمكنك أن تبقي جالسة في هذا الركن الدافئ…

-عظيم (قال السيد هاريس مخاطبا الرجل المديد القامة)، أنه مِثْلي، يعرف مكان كل كتاب في هذا القبو.

بدأ الشاب بالسير في الممشى الممتلئ بطاولات مكدسة بالكتب، يتبعه الرجل المديد القامة الذي كان يسير بحذر، محاولاً ان لا يرتطم بشيء. تعديا المصباح المشتعل حيث ترك الشاب قبعته و قفازيه. أضاء الشاب مصباحاً آخر يقع في نهاية الممشى حيث يحتفظ السيد هاريس بسلسة من المختارات الجيدة في تلك الركنة. دعنا نبدأ البحث، (قال الشاب و قرفص أمام خزانات الكتب ممرراً اصابعه بخفة على جوانبها و سأل الرجل): هل بذهنك مبلغ معين؟

– بين مئة و خمسبن دولاراً إلى مائتين.

( نظر إليه الشاب مبتسما): بمثل هذا المبلغ يمكنك الحصول، على الكثير من الكتب الجيدة

– لم أر في حياتي كتباً بهذهِ الكُثرة، (عَلَق الرجل). يعتريني شعور لذيذ الآن، فلم يدر بخلدي ذات يوم، إن أدخل متجراً لبيع الكتب لشراء الكتب التي كنتُ أحلم باقتنائها. لم تسنح لي الفرصة لقراءة  الكثير( قال الرجل)، كنت يافعاً. كنت أصغر منك بكثير حين بدأت العمل  في ورشة السيارات التي كان والدي يشتغل فيها، وفجأة وجدت نفسي أمتلك بعض النقود التي لم نكن أنا و زوجتي نحلم بها  يوماً. لذا قررنا شراء بعض الأشياء التي كنا نتمنى أقتنائها.

– زوجتك معجبة بِ”برونتي”، و هذا المُجلد بحالة جيدة.(انحنى الرجل ليلقي نظرة على الكتب التي أشار إليها الفتى) وقال: ليست لديّ معرفة بمثل هذه الأشياء. تبدو جميلة. ماذا عن المجلد الثاني الذي بجانبه؟

– أنه لِ”كارلي”، يمكنك تجاهله، لا أعتقد أنه يتلاءم مع ما تريد. “ميرديث” كتاب جيد.. لِ “ثاكري”. أعتقد انك ستستمتع بقراءة “ثاكري”، أنه كاتب عظيم.

(أخذ الرجل كتاباً من الكتب التي أنتقاها  له الشاب و فتحه بعناية مستخدما اصبعين من أصابع يديه الكبيرتين، لتوريق الكتاب): يبدو جيداً..(قال الرجل)

– سأدرج الكتب التي تريد شراءها على ورقة، (اخرج الشاب مذكرة جيب من جيب معطفه)… بونتي.. ديكنز، ميرديث، ثاكري.( كان الشاب يمرر يده على المجلدات أثناء قراءة عناوينها).

– ضيّق الرجل المديد القامة عينيه، و قال: أريد مجلداً آخر، فهذه المجموعة لن تملأ أرفف المكتبة التي اشتريتها لهذا الغرض.

– “جين أوستن” (قال الفتى) ستكون زوجتك سعيدة جداً بهذا المجلد.

– هل قرأت كل هذه الكتب؟ (سأله الرجل)

– أغلبها. (أجاب الفتى)

– سكت الرجل لهنيهة ثم قال:لم تكن لديّ فرصة للقراءة. كنت أخرج للعمل مبكراً. الآن استطيع تعويض كل ما فاتني.

– أنا واثق أنك ستستمع بذلك. (أجاب الفتى)

– ماذا عن الكتاب الذي كان بيدك؟ (سأل الرجل)

– إنه عن”علم الجمال”.. علم الجمال في  الأدب..كتاب نادر. كنت أحاول شراءه منذ فترة طويلة لكن، تعوزني النقود لاقتنائه.

-هل أنت طالب جامعي؟ (سأل الرجل)

– نعم.

– هذا كتاب آخر، أريد قراءته (قال الرجل)، أنه لِ “مارك توين”. قرأت البعض من كتبه حين كنت صغيراً. أعتقد، أصبح لديّ الآن ما يكفي من الكتب كبداية.(و نهض واقفاً)

نهض الشاب أيضاً، مبتسماً:ستنشغل بقراءة هذه الكتب، لوقت طويل.

– أُحِبّ القراءة. (قال الرجل) أنا أحِبّ القراءة، فعلاً. (توجه حيث يجلس السيد هاريس ماراً عبر ممرات و خزانات الكتب الخشبية. تبعه الشاب بعد أن أطفأ المصباح وأخذ قبعته و قفازيه. حين وصل الرجل المديد القامة حيث يجلس السيد هاريس خلف مكتبه)، ثمّ قال مخاطباً زوجته: هذا الفتى، في منتهى الذكاء. إنه يعرف موضع الكتب يميناً و شمالاً.

– هل اخترت كل ما كنت تريد؟ (سألت الزوجة)

-اختار لي الشاب قائمة رائعة من الكتب (ثم استدار للسيد هاريس) مستطرداً: كانت تجربة غير عادية بالتعرف على  عاشق الكتب هذا. كان عليّ ان أعمل لكسب العيش، حين كنت في عمره.

سلم الشاب ورقة سجل فيها قائمة الكتب و أسعارها: سيقضي الكثير من الوقت، لإتمام قراءة  كُل هذه الكتب.

ألقى السيد هاريس نظرة على القائمة ثم هز رأسه:مجلدات ثاكري، في غاية الروعة.

وضع الشاب قبعته على رأسه و قال للرجل المديد القامة، عند بداية السلم: أتمنى أن تستمتع بالكتب. سأعود لإلقاء نظرة على كتاب إمبسون يا سيد هاريس.

– سأحاول أن أحتفظ به لك، و هذا ليس وعداً كما تعرف.

-آمل أن أجده في نفس مكانه، المرة القادمة

سمع الشاب أثناء صعوده السلم الرجل المديد القامة، يصيح: شكرا يا بُني، لن أنسى مساعدتك لي.

– بكل ممنونية.(رد الفتى)

– ولد في غاية الذكاء. (قال الرجل المديد القامة للسيد هاريسشاب بهذه الثقافة، سيكون له مستقبل واعد.

– شاب في غاية اللطف (قال السيد هاريس) و أنا متأكد مِن نيته اقتناء هذا الكتاب.

– هل تظن أنه سيشتريه؟ (سأل المديد القامة)

-أشك في ذلك. (أجاب السيد هاريس)هل لك أن تكتب اسمك و عنوان البيت لحين إكمالي تسجيل أسعار الكتب.

بعد أن كتب الرجل الضخم اسمه و عنوانه، وقف دقيقة ينقر بأصابعه سطح المنضدة، ثم قال: هل أستطيع إلقاء نظرة على الكتاب؟

– تقصد إمبسون! (رفع السيد هاريس رأسه متسائلاً)

-الكتاب الذي كان الشاب مهتماً به. (سحب السيد هاريس الكتاب من المكتبة التي خلفه. أمسك الرجل المديد القامة الكتاب بعناية، كما فعل مع الكتب الأخرى و أخذ يورقه مقطباً جبينه، ثم وضعه بعدها، على مكتب السيد هاريس)

-إن لم يكن الفتى راغباً جداً بشراء هذا الكتاب، هل يمكنك إضافته إلى قائمة كتبي؟

توقف السيد هاريس عن عملية جمع الأرقام و رفع رأسه لثوانٍ، ثم أضاف ثمن الكتاب للقائمة، جمع المبلغ الكلي وسلم الفاتورة للرجل. استدار السيد هاريس إلى المرأة، أثناء انهماك الرجل بمراجعة الأرقام، قائلاً: ختار زوجك الكثير من الكتب التي ستستمتعين بقراءتها.ا

– سعيدة لسماع ذلك…. كنا ننتظر هذا اليوم، منذ زمنٍ طويل.

قام الرجل المدِيد القامة،بِعَد النقود بتأنٍ وسلمها للسيد هاريس الذي قام بدوره بوضعها في درج مكتبه:إذا كنت لا تمانع، سنقوم بإيصال الكتب إلى بيتكم في نهاية الأسبوع.

– رائع. (صاحَ الرجل المديد القامةبحبور ) ثم التفت لزوجته قائلاً: هل أنت جاهزة يا أُميمتي؟

نهضت المرأة من كرسيها، تراجع الرجل إلى الوراء، ليسمح لهابالمرور أولاً.

وقف السيد هاريس على مقربة من السلم و قال للسيدة: انتبهي للدرجة الأولى… وبقي واقفا حتى اختفيا عن ناظره. أطفأ المصباح الوسخ المتدلي وعاد للجلوس خلف مكتبه.

.

25.10.2020

 

مقالات من نفس القسم