ناصر الحلواني
في تلك الليلة، رأت، ولم تحكِ.
في الليلة التالية، آثرت السُّهدَ.
وبعد ليالٍ عديدة، دَانَ وهَنُهَا، ولم تعد قادرة على أن تواصل القبض على الحُلمِ، حلمٌ رأته تلك الليلة.
ولم تحكِ:
تحت سماء زرقاء، يُهرع الحرَاس إلى البوابة المتترسة بالسور الحجري، يقترب صوت نفير زاه، فتعدو هي إلى أجمة قريبة لتختبئ في كثافتها، يُدير الحرَّاس دولاب الجسر، يهبط بطيئا، كإيقاع حبات ساعة رملية، يمتد بين ملكوته الذي يجري بحسب اشتهاءات خليفة صبي، وبين كونٍ من ولاة وأمراء، يتنازعون السماء المهدَرة تحت أقدامهم.
على أخشاب الجسر المعمول من أبدان أشجار حِيكَت في ظلها غزوات، كان فيضٌ من دبَّات حواف خيل تترى، وأصوات أبواق صقيلة، تنتصب في وجه اليوم الراجف بفعل الأحداث المنهمرة، هِجائيِّةٌ للحُلم، مثل زُرقة ساجية تنوش سلاما ساكنا، كحِرابٍ مُحاصَرة تلوذ بشرفها إلى مَقاتِل أجساد منثورة، فيسقط سكون الجسر إلى الماء المعتم، غائصا دون جلبة إلى فراغه الجديد.
ويزدحم الجسر بفرسان وأفراس، وطبول افتخار وصبابات الأمير المتأنق، يعتلي فرسَته المكحولة، المُطهَّمة بزُخرُفٍ له سمت الدَّمِ والشمس الغاربة وزرقة السماء، يسعى في خُيَلاء ذَكَرٍ إلى طلب أميرة، يُمنِّي القلب بالأفراح المحتملة، ويُمنِّي النَّفسَ باتساع إمارته، يشحَذُ عَرُوضَ شِعرِه، ويداعب مقبض سيفه، ويراجع معارفه بالكون والأشياء وتفانين الإغواء، يذكر بشارة عرَّافهِ الأعمى، ويبحث في عينيه عن نظرة سابية تُرجِّحُه.
وخلف الأمير وليّ، وخلف الوليّ أمير، فخليفة يتبعه طائفي، فمُرابط، ثم موحِّد، فسلطان من سلالة الدَّمِ، اُغتيل ذات مرة، فعقد العزم على أن يحوز السلطنة، ولا يُبقى في أرض غرناطة سواه ، وأن يدخل بالأميرة في ظل أجساد مغتاليه، على مخمل سريره الأزرق، فيما تتشرب هدباته قطرات دمهم.
فتفزع من بين حشايا الحرير، تقوم إلى شٌبَّاكها، تحيطها وصيفاتُها، وفي سمعها يَهمِي صوتٌ مُبهم المصدر، لقَينَةٍ تشدو:
لو أن الزُرقة مجرد حُلم
ماذا سيكون من أمر البراءة؟
ماذا سيكون من أمر القلب
لو أجدبت ينابيع الحب؟
ولو أن الموت هو موت
ماذا سيكون من أمر الشعراء
ومن أمر الأشياء النائمة
التي لم يعد يتذكرها احد؟
آه يا شمس الآمال
أيتها المياه الرقراقة
والقمر الجديد
يا أفئدة الأطفال
يا أرواح الأحجار الصُلبة
اليوم أشعر في فؤادي
باختلاجات غامضة للنجوم
وكل الورود
بيضاء كأحزاني.(1)
ـ “هل يُحيل الفزعُ زرقةَ الحُلم إلى حزن أبيض؟”
تتساءل الأميرة وهي ترفرفُ عن مجلسها ترومُ مصدر الصوتُ، تَخفُّ إلى فضاءات الأبهَاء، تحطُّ في بهو العذارى، تدور في الأروقة، تحتملُ ظلالَ أعمدتها الرخامية على جسدها المنساب إلى بَهوٍ يَذخَر برائحة القَصيدِ والشَّجن، وصدى ترديد لمَّا يَزل ينتفض بشهوة الحزن لترانيم حبيب، وأطياف تحكيها الشمس على نافذة المكان، إلى اللائذة بالخفاء، ووجع مطمور، وأغنية خريفية.
تهبط إليها رَندُ، كَمَن إلى كِنِّهَا، تجلس أمامها في سكون، يرتاح إلى سكونها الفرس المشغول في زجاج النافذة، ويثير في نُطق الأميرةِ السؤال:
ـ “أي روعة لهذا الشجن الأندلسي، لمن هو؟”
تومئ رَندُ بأهدابها جهة النافذة، وتجيب:
ـ “لحبيب من مملكة غرناطة، كان يزرع الحقول والفصول بأشجار الزيتون والقصائد”.
ـ “أي اسم كان له؟”
ـ “اسم يُضيء بترداده الليلُ ، لمسامع حروفه القدرة على أن تُخثِّر الدم النازف من جسد الفارس المطعون، أن تُحيل زنزانات المقبوضين من العُشَّاق إلى لفحة عطر في حرير امرأة تسكن تَخيَالَهم، أما له، فلم يكن سوى “لوركا”. لوركا الذي أجاد الحبَّ بمثل ما برع في الموت وصوغ القصائد”.
ـ “لو أن الموت هو موت
ماذا سيكون من أمر الشعراء
وما الذي صار إليه؟”
ـ “حتى أنه لم يدع لنا جسدا نلمسه في ليالينا الموحشة، وكأنه روح خالصة، أو ضوء نجم فَنَى”.
ـ “وعلام تضعين زهورك في ذكراه؟”
ـ “على صدري، قصائدهِ، رسومهِ، قلوبِ الأطفالِ، صخورٍ قذف بها، دروبٍ مرَّ بها، رصاصةِ مرَّت به، أو حتى في حذائه”.
وتقوم الأميرة إلى نافذتها، تتبعها رَندُ، تمران ببصرهما عبر زهرة برتقالية نابتة في زجاج النافذة، وترنِّمُ رَندُ:
ـ “في ذلك الحقل البعيد، هناك، يقف رجل نحيل مثل وردة، يبذر الحَبَّ، في شجن أغنية عميقة، إنه هو، وتلك الساعية خلفه مثل رائحته، ماريانا؛ نحرُثُ ونبذرُ ونروي حتى ترحل شمس اليوم، وحول نار المساء نجلسُ، يتراقصُ ظِلَّانا خلفنا، حتى يصيرا ظلا واحدا، ونَغَمَ قصيدةٍ جديدة يُسمعني إياها لننام، وفي الحُلمِ، يبزغُ الحَبُّ مثل نور نهار جديد، وتسودُ الخُضرةُ مساحة البَصرِ، ونصحو على أرض شاحبة مجدبة، وفضاء من صُفرة جافة، ولا صوت، لرقرقة ماء، لخفقات أجنحة طائر، ليس سوى دبيب رمل يصعد في العروق المهشَّمة، لشجيرات مستغرقة في موتها.
كانت الأرض جميعها مثل كلمة مُبهَمة، يتوقف وجُودُكِ على فهمها ، معلقة أمام بصركِ، لا تدركين لها معنى، سنوات امتلأت بالصلابة والفناء، حتى كنَّا نأكل قصائدَنا، والأرغفةَ اليابسةَ في حكاياتِنا القديمة، ولا جدوى، ولا صوت، غير أنَّاتٍ مؤرَّقة جائعة، تتضور برنَّات أنين لا يكَلّ، وألمُ ينفضونه، عساه يسقط مثل زغب اللقاح في أرض نديَّة ترويه، تردده صلصلة أجراس، تتساقط رنّاتُها على أوجاعنا، وعلى خوذات سادة يتصنعون السؤدُدَ، تهيِّجُ الأفراسَ الضامرة، وما بقي من فرسان، وأتباعٍ رَهَقُوا من إطعام الموتى، وحَملِ صُلبانهم الخشبية، فخَاطُوها على صدورهم، وفي دروعهم، وحملوا على مَشرِقِ الدنيا؛ قلبها المقدَّس.
سادةٌ امتطوا شهوات جوعِهم وآلامِهم الربَّانية، تتبعهم أسراب من فقراء انتعلوا حفاءهم، وما بقي من رغبة الأرض على حملهم، وقبضوا على سيوف ورِماح ودُّوا لو طَعِموهَا، ومعهم كانت، ماريانا؛ أحلمُ بأرض الخلاص، وأحمل في رَحِمي بعضا من روح لوركا، وخطوطا من أغانيه، ونظرة أخيرة حطَّها في عيني”.
وبعينيها، تمر رَندُ، عبر عينين لهما لون سماء شتوية لفارس يسكن في زجاج النافذة، إلى فضاء يصل إلى حيث يحلّ نون، في حجرته القريبة من مدارات الطير والنجوم، تراهُ، يخطُّ بريشتها خطابَه إليها، وتشمُّ للمكان رائحة نعناع غمسه في شَايِه الدافئ، يرشفه ويطوف بين أشيائها؛ سيفها المعلَّق في جدار الجير، شريط الحرير، وسهم منزوع من دم قديم، وخطوط، ونهاية قصيدة لشاعر من خريف غرناطة، حفرها بمسمار في جير الحائط ..
اليوم أشعر في فؤادي
باختلاجات غامضة للنجوم
وكل الورود
بيضاء كأحزاني
وبمِثل الإيقاع يرقب الحمامات السابحة في فضاء نافذته، تحوِّمُ مثل وردات بيضاء، مثل حُزن يتقاطر من زمان بعيد، مثل أرواح تنسرب من جِراحِ مدينة مُحَاصَرة، أو حبَّات نار شهق بها منجنيق.
ويكون إلى مدينة معلقة في طرف نافذته، وشارع صغير يستقبل الغروب بظلال يخلُقُها اللهب الكامن في رَحِم اللمبات الرقيقة، ونور شمعات تتأرجح نارها على شُبَّاك المَقَام، تُنير للشيخ الجالس أمام أوراقه، يدوِّن تاريخَ بيت المَقدِس، ويحسب الشهداء، ويَنظِمُ تواريخ الرَّايات والأسماء، ويرنو إلى سَلخَة النور الخارجة من الباب الموَارَب لدكان أم الخير، الجائلة في حجرة أسرارها، تُملِّس على صندوق يؤوي حبيبا، وأسفارا، ورسما لقلعة مأسورة، تماثيلَ أُسدٍ، بهو عَذَارى، عقودا مقرنصة أرحامُها، ومحرابا، وأميرة خلف نافذة ملونة بأطياف شمس، تصعد إليها أم الخير، يحملها شدو ينفطر حزنا، وألم منظوم بلغة لا تعرفها، فتكون بين يدي الأميرة، وقبلها سؤالها:
ـ “أميرتي، ترنيم القَينَةِ يشرح حالَك، وجمرة هواكِ تلفحُني”.
ـ “إن لها صوتاً تبثه أحزانها، أما لي فليس سوى الموت، أو وهم الحلم”.
ـ “حاشا سيدتي”.
ـ “سأدع لروحي أن تخلصَ من الجسد المأسور بالحدائق، وأرحل”.
ـ “لكن أميرتي، الموتُ حالةٌ في لحظة، لا ندري ما يكون حالُنا بعدها، ربما كان للروح أشقَى”
ـ”إذن، سأدع لهم مادة وجودي، وأصعد في مقامات الشوق إلى منتهى الغيب، وأمتطي الحُلمَ”.
ـ “ولكن الحُلمَ حُلمُ، واليقظة لا ريب حاصلة بعده، الأمر مرهون بزمن، ولكل زمن نهاية، وبإشراق صباحك التالي ستعودين، بعدما ذُقتِ متعة التحويم في رؤيا الأبد، وتمتعت بلذة الترحال في الكون، فأي ألم سيكون ما يملأ صباحَكِ، وأي عذاب تشعرين، وكيف لتلك الروح التي لامست الأبدَ وأسبابَ الوجود، وعاينت الكونَ في تجلي ديمُومَتهِ، أن تستقر في جسد أميرتي بعدما تؤوب من رؤياها؟”
ـ “ولكن عذابات الفقد أخفُّ من عذابات الحرمان مع الشوق”.
ـ “حقا أميرتي، لكن الحُلمَ أقدرُ على أن يضنيك بأكثر من أن يُحوِّلَ لون عذابك، أن يُنهِكَ وجودَكِ، بين النوم واليقظة، بأعظم من أن يُتيح لكِ مستقرا”.
ـ “لقد تعلمت الحكمة، والنِّزال، وقَرضَ الشِّعرِ، فلم أجد لي مهربا سوى الحُلمِ”.
ـ “بل هناك سواه، إن للعقل حدودا، وللقلب طوقا، والجمال هائم بين ذوائق البشر، وبين الذات والوجود ثمَّ أبدٌ من المعرفة، فيضٌ لا نقدر على الإحاطة به، هكذا رَهِقَ قلبُ مولاتي عند درجة من درجات هذا الزمن، الذي لا زمن له، أو ربما هَبطَت بينما كان لها أن تصعدَ، أو سَارَت فيما عليها أن تُحلِّقَ”.
ـ “ملأتِ القلبَ رغبة ورهبة، أسرعي ببيانك وانبئيني بالسبيل، أيتها المعرفة المتجسدة في صورة امرأة، أظنك من كانت تحوز يوما حكمة دِلفِي، وانحنى أمامها سقراط الشاب يسألها سرَّ فلسفته”.
ـ “ما بين قصركِ ومَنزِلِهِ مسافة ضئيلة بالمكان، سحيقة بالزمن، تحددُها علامات منظومة في أشجار، وأودية، وتواريخ، وبحيرات، وأحداثٌ صَاغَها أمراءٌ وولاةٌ وخلفاءُ، اجتيازها بالفهم يُنجزُ الوصولَ، اجتيازها بالبصر يُسلِمُكِ إلى الظَّاهرِ لا سواه”.
ـ “ها أنتِ ترسمين أمام خيالي متاهةً، كمثل مرايا تأخذ بي إلى مرايا، وليس غير الوهم”.
ـ “هذا ما ستصيرين إليه إن بقيتِ في حسِّكِ، أو سرتِ حسب ما تشعرين به من لذة”.
ـ “عشقي معرفةٌ، ولذَّتي فَهمٌ، وهواي بالعالم حرفٌ وخطّ، والحرف عِلم، أأقدر بهذا أن أجتاز السورَ الحائل مثل زمن لا يُستعاد، والجسرَ المنبسطَ مثل فُلك ولا بحر؟”
ـ “تقدرين، شرط أن تجتازي متاهتكِ إليه”.
………………….
*قصيدة للشاعر الإسباني لوركا، من ترجمة المؤلف عن الإسبانية.
*الفصل الخامس من رواية “مطارح حط الطير”