زياد الرحباني.. نشيد العقل الحزين

فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

أسامة كمال أبو زيد

وُلد وفي قلبه نغمة، وفي أذنه هدير مدينة تنام على صوت القذائف.

كان طفلًا من بيت فيه الموسيقى تنساب كل صباح مع القهوة، والعبارات تُصاغ كأنها شعر، والنوتة كائن حي من أفراد العائلة.

لكنه لم يرث النغمة كما هي، بل كسرها، أعاد ترتيبها، وضعها في ميزان العالم الجديد، وقال: هذه بيروت كما أسمعها أنا، لا كما تحبّ أمي أن تراها.

في داخله فيروز، وفي قلبه لحن لا ينام.

> “شو دخلنا.. نحنا بالحرب؟”

لم يكن زياد شاعرًا في صوته، بل ساخرًا في موسيقاه.

ولد وفي لبنان جرح يتكلم. ففتح البيانو على اتساعه، وبدأ يعزف، لا لكي يداوي، بل لكي يفضح.

كانت موسيقاه بيانًا سياسيًا، وأغنياته كاريكاتيرًا طويلًا كتبه طفلٌ غاضبٌ بآلة موسيقية.

لم يطلب من أحد أن يفهمه، ولا أن يُعجب به، فقط كان صادقًا حد الألم.

 

> “بما إنو هيدا الظرف، حبيت خبّرك إنو بحبك..”

بين الضحك والرصاص، كتب زياد صوته.

الناس اعتادوا أن تبكي أو تغني، أما هو، ففعل الاثنين معًا.

وحين سخر، لم يكن يضحك فعليًا، بل كان يُشير إلى الهاوية التي يسقط فيها الجميع، بهدوء، وأناقة، وبيانو معطوب.

أعاد تعريف الحب، المدينة، اليسار، الله، الشارع، وكل شيء كان يُقال له: “لا تلمسه”.

لم يترك شيئًا في مكانه، ولم يبنِ جدارًا إلا ليهدمه بعد سطر.

 

> “إيه في أمل، بس مش إلنا..”

لم يكن صوته جميلاً بالمعنى التقليدي، لكنه كان يشبه بيروت بعد منتصف الليل.

مكسور، متعب، متوتر، ومليء بالأمل المؤجّل.

كان يغني وكأن العالم قد انتهى، لكنه ما زال يبحث في جيبه عن آخر ورقة نقدية ليشتري بها وردة.

أحبّ نساءً كثيرات، وخذلته الثورة، وخانته السياسة، وظل صديقًا وحيدًا لآلة البيانو.

> “أنا مش كافر، بس الجوع كافر، والذلّ كافر، والحرب كافر.”

أدخل الجاز إلى الشارع العربي، وعلّمه النكتة، ووضع صوت فيروز فوق البيانو الحزين، وجعلها تقول ما لم تقله يومًا.

أهدى أمّه رسائل غاضبة، ولبنان رسائل أكثر غضبًا، لكنّه في العمق، كان يُحب، فقط على طريقته.

أغنياته كانت رسائل من مقهى مهجور في شارع الحمرا، إلى بلاد لا تقرأ.

كان يُدوّن مجده اليومي على شكل أغنية تقول: “أنا هنا، حتى لو لم تصفقوا لي.”

 

> “عودك رنان، بس قلبك خربان.”

لم يغادر طفولته، ظل هناك، على دراجة خشبية، يشتم السياسيين، ويضحك من حماقة الزعماء، ويضع خطوط موسيقى لمدينة بلا ملامح.

هو الوحيد الذي جعل النكتة تُغنّى، وجعل الغضب لحناً.

لم يطلب الخلود، لكنه ناله لأن كل صوته كان “الآن وهنا”.

زياد لا يُقلّد، لأنه نفسه لا يحب تكرار نفسه.

> “أنا مش خرّيف، بس ما بقى في شي يُضحّك.”

ما من فنان عربي كتب وجع المدينة كما كتب زياد، ولا من موسيقي قال رأيه في السياسة من دون أن يصرخ.

هو لم ينضم يومًا إلى حزب، لكنه كان حزبًا في ذاته، معارضًا للجميع، حتى لنفسه.

صنع “مسرحًا غنائيًا” بلا بهرجة، وبلا كليشيهات، وكتب الحياة اليومية كأنها مونولوج داخلي طويل.

كان ساخرًا، لأن الحقيقة وحدها لا تُحتمل.

 

> “بالنسبة إلي، هيدي مش عيشة.. هيدي إقامة مؤقتة بحقل ألغام.”

هو ابن فيروز، لكنّه ليس ظلها.

ابن الرحباني الكبير، لكنه لم يكن مرآته.

كان ابنهما الوحيد الذي قرر أن يقول “لا”، وأن يحمل الحلم إلى مسارح أخرى، وأزقة أخرى، وعقول أكثر قلقًا.

في زمن باع الفن نفسه، ظل زياد واقفًا كجدار من خشب وعناد، لا يستند إلا إلى فكرته الأولى: أن يكون صادقًا مهما كلفه الأمر.

 

> “بلا ولا شي.. بتطلع منّي غنية.”

زياد الرحباني ليس ملحنًا عاديًا، بل حالة ذهنية.

هو ارتباك المدينة، وسكينة المنفى، ونبوءة الشارع العربي المكتوبة على قصاصة من لحن.

إنه الغريب الذي يعرفنا أكثر مما نعرف أنفسنا، والموسيقار الذي لم يضع يومًا ورقة نوتة إلا وفيها غصّة.

زياد هو نشيد العقل، حين يفيض عليه الحزن، ولا يجد غير السخرية طريقًا إلى النجاة.

 

مقالات من نفس القسم