خالد البقالي القاسمي
إن الحب الذي كان يكنه الكاتب المبدع نيكوس كازانتزاكي لبلده اليونان كفيل اليوم بمحو جميع آلام وأوجاع هذا البلد الاقتصادية منها والاجتماعية، لقد كان هذا المبدع المتألق يعرف جيدا القيمة الثمينة لبلده فانعكست تلك المعرفة في كتاباته الجميلة، الناضجة، الحكيمة، حيث لم تكن تخلو أية نصوص من نصوصه الرائعة من اليونان، لقد كان مخلصا جدا في رسم معالم بلده ضمن إبداعاته على المستوى الجغرافي، والاقتصادي، والاجتماعي، لقد كانت جميع كتاباته تمتح من خلفية فلسفية عميقة تعكسها ثقافته المتنوعة، والشهادات العليا التي نالها من خلال دراسته في اليونان والبلدان الأوروبية.
ويبدو للعيان أن هذا المبدع الكبير عندما كتب تحفته الرائعة “زوربا” كان ينوي بحق تخليد اسم اليونان بين سائر بلدان المعمور، كان يريد لليونان أن تتبوأ مكانتها سامقة بين الأمصار، فسما بها إلى الحلم بواسطة الكتابة، بواسطة اللغة، بواسطة الحكمة، بواسطة الإبداع. “زوربا” تجميع ذكي لمختلف أحوال معيشة أهل بلده، وإثارة لكثير من حكم وفكر اليونان، وتركيز لمجمل أحلام وطموحات أهل اليونان. لقد أراد المبدع “نيكوس كازانتزاكي” لروايته الكبيرة أن تكون واجهة لآرائه، وأفكاره، وأحلامه، وطموحاته، وهي تتقاطع في كليتها مع كل ما يتعلق ببلده المتوسطي الساحر.
لقد ناضلت “شهرزاد” كثيرا، وكافحت بكل قواها من أجل ابتداع وسيلة تجعلها في مأمن من بطش “شهريار”، وسيلة تمكنها من الاستمرار في الحياة من خلال التحايل على الموت، فأسعفتها الحيلة في ابتداع سر الحياة الذي يكمن في الحكي. بالحكي لم تضمن شهرزاد لنفسها الحياة فقط بل تحكمت حتى في أهواء “شهريار” الجبار، كانت في كل مرة تضيف لعمرها ليلة أخرى بواسطة ابتداع الحكايات، حتى استكملت الليلة الأخيرة بعد الألف. والغريب هو أن لا أحد تساءل لماذا توقفت الليالي عند هذا العدد؟ لماذا لم تقف عند الألف فقط؟ ما سر الليلة الأخيرة التي أضيفت إلى الألف؟
حكايات “ألف ليلة وليلة” ما زالت تحتفظ بغموضها، وأسرارها، وجاذبيتها، ما زال بالإمكان الوصول إلى معطيات دالة من داخل نصوص المجموعة قصد إجلاء كثير من الألغاز المرتبطة بسياقها، ويبدو أن حكايات المجموعة السحرية تتوزع على مستوى تقسيمها من طرف راويها أو رواتها إلى ألف ليلة، وتبقى الليلة المضافة فقط عبارة عن وعاء زمني، ونفسي، وقدري، لاستمالة ” شهريار”، ونيل ثقته، وبناء الفرش المنهجي، والتنظيمي المسعف في توجيه الحكي، وتقطيع أوصال الحكايات، هذا التقطيع هو فقط لترجيح مسار الحكاية من أجل تشتيت ذهن “شهريار”، وصرف نظره عن التفكير في السابق في مقابل الانصراف إلى الاهتمام باللاحق، لقد كانت شهرزاد في غاية الذكاء حيث استثمرت الليلة بعد الألف من أجل إعدام ماضي ” شهريار”، وجعله أسيرا للحاضر والمستقبل، شهرزاد تقول لنا بلغة أو بأخرى إن الماضي المشوب بالتهديد والوعيد لا حاجة بنا لاسترجاعه، والبناء به وعليه، فقط علينا أن نتطلع إلى الحاضر والمستقبل، والحكي وحده فقط، بمعنى السرد، بمعنى البناء، بمعنى تمتين العرى هو أصل الحياة ولا شيء آخر غيره يستحق الوجود أو الاهتمام، إن التفكير في السابق يعني استحضار الموت، والاهتمام باللاحق معناه تمجيد الحياة وإكرام أهلها.
هل اطلع ” يكوس كازانتزاكي” على نص “ألف ليلة وليلة”؟ هل قرأه فعلا؟ هل روي له من طرف الغير؟ هل صادف حرارته وتأثيره أثناء دراسته في أوروبا؟ لقد كان هذا المبدع يتحدث في كثير من نصوصه وعدة مرات عن البلاد المقابلة للضفة الشمالية للبحر الأبيض المتوسط، وعن ثقافتها، وجغرافيتها، وعلاقتها بجيرانها، ولكن يصعب فعلا الجزم بالحقيقة، والأمر يكاد يشبه قضية العلاقة بين نص ” دانتي ” ونص “أبي العلاء المعري”، هل بينهما فعلا تشابه؟ هل استند “دانتي” إلى “رسالة الغفران” أثناء كتابته “الكوميديا”؟ ألا يعدو أن يكون الموضوع توارد خواطر أو وقوع الحافر على الحافر؟ المبدع اليوناني ذكي للغاية ويمكن أن يكون الأسلوب الذي ابتدعه واحدا من العلامات التجريبية الجديدة في الكتابة، لقد خصص هذا المبدع شخصية “زوربا” لكي يمرر كثيرا من أفكاره وقناعاته في الحياة، والموت، والمتعة، والرقص، ورجال الدين، والسياسة، والماضي، والحاضر… لقد أراد الكاتب الكبير أن تكون رواية ” زوربا ” حافلة بخلاصة التفاصيل الدقيقة للحياة اليونانية، حتى ليخيل إليك أحيانا وأنت تقرأ الرواية، وتعيد قراءتها في كل مرة بأنك أمام كشف تحليلي أنتروبولوجي يتعدى الرواية، ويتجاوز طاقتها في التعبير والبيان.
” زوربا” سليل “شهرزاد”، كل منهما كان ينشد الحياة، وكل منهما أحب الحياة بكل قواه، لقد ارتبط زوربا بالمرأة مخلوقا نبيلا، رائعا، جميلا، فأحب نساء العالم من خلال اختزالهن في المرأة اليونانية، وهام في رواية “كازانتزاكي” بالمسكينة المرأة الفرنسية المهاجرة البائسة إلى جزيرة “كريت” صاحبة الفندق الوحيد في القرية السيدة المحترمة “هورتانس”، بينما قدر لشهرزاد أن تحب رجلا واحدا، أو تتظاهر بحبه درءا لسطوته وهو السلطان ” شهريار”. لقد كان “زوربا” الرجل العملاق ملكا على نفسه، فعاش حياة الحرية والانطلاق، سيدا في حكيه، متمكنا من حكمته، يحكم العالم الذي أحبه بكل مكوناته، ويسيطر عليه، بينما كان ” شهريار ” يحكم شهرزاد فقط، فعاش سجينا لحكاياتها، أسيرا لإرادتها، محكوما بمساراتها السردية.
رقصة زوربا مرادفة لرقصة شهرزاد، الحسناء الجميلة كانت ترقص على حبال الموت، وتوشك في كل مرة أن تتهاوى، خصوصا عندما يحدث ضمور في الحكي، ويطول الليل ولا تسعف الأحداث، ونحن نلاحظ كثيرا من حكايات “ألف ليلة وليلة” وردت في شكل باهت، تفتقر إلى الماء الزلال، لقد كان الصباح فرصة سانحة لشهرزاد ليس فقط لإنقاذها من الموت تلك الليلة بل فرصة لكي تعيد التفكير بجدية في أسلوب بنائها للحكاية، ألف ليلة وليلة بصيغة أو بأخرى واجهة بارزة في الرقص السياسي، وتاريخ وازن لتطور آليات السرد. الرقصة الشهيرة التي ابتدعها “زوربا” هي كذلك محفوفة بالخطر، في الواقع الذي أثارته رواية المبدع “نيكوس كازانتزاكي” رقص “زوربا” رقصتين، الرقصة الأولى سماها الرقصة الوحشية، وهي رقصة حربية كان الجنود اليونانيون والمقاتلون المتطوعون يرقصونها قبل الشروع في القتال بالمعارك الحربية. الرقصة الثانية خطيرة للغاية وقد تؤدي إلى الهلاك مثلها مثل رقصة “شهرزاد”، وهي التي اشتهرت في اليونان باسم “الرقصة الزوربوية”، حيث كان “زوربا” يتوج رقصته بالقفز في الهواء فاردا يديه وقدميه حتى يصبح طائرا في الهواء وتبدو أطرافه وكأنها أجنحة، وهي رقصة يونانية أصيلة ومعروفة، ولكن لا يستطيع أداءها إلا الرجال الشجعان المتميزون، إذ كانت كلها: “تحديا، وعنادا، وتمردا” ص. 295، وكانت وسيلة فعالة من أجل التصعيد وإفراغ الغضب، وقد قال عنها السارد في الرواية، ص. 295: “وبينما أنا أنظر إلى زوربا يرقص، فهمت لأول مرة جهد الإنسان الخيالي ليقهر الثقالة، لقد أعجبت بتجلده، وخفته، وكبريائه. كانت خطى زوربا المحمومة الرشيقة، ترسم على الحصى تاريخ الإنسان الشيطاني “. لقد كان الرقص لدى “زوربا” شكلا من أشكال الحكي، خصوصا عندما يحس بالغضب، أو الفراغ النفسي القاتل الذي يؤدي إلى الكآبة، فيصبح الشقي المارد غير راغب تماما في الكلام، والحديث، والحكي، ويبقى أمامه من أجل التعبير شاطىء البحر ميدانا مناسبا، وحلبة ممهدة جدا للرقص، وتصعيد الغضب، والألم، والحزن، ومن ثمة يستعيد نشاطه، وحبوره، وتوازنه من جديد.
ضمن حكايات ألف ليلة وليلة تبدو الحسناء الجميلة ” شهرزاد” ساردة وحيدة، وواضحة أمام السلطان “شهريار”، هي التي كانت تحكي الحكايات، وتروي الأحداث، وتستميل انتباه السلطان، وتضعف عزيمته، وتشل إرادته، فيتراجع عن التفكير في الفتك بها، لقد كانت تتلاعب به بذكاء، ومعرفة، وفنية، حتى أصبحت في الحقيقة هي السلطانة الحاكمة، والموجهة للأمور، وتحول “شهريار” إلى سلطان ضعيف، أسير لمجرى الأحداث، ومستعبد تحت سطوة الحكايات العجيبة، لقد كان التخييل سيدا في حكايات ألف ليلة وليلة، وظهر واضحا للعيان أنه بالتخييل وليس دائما بالواقع يمكن السيطرة على زمام الأمور، ووضعها رهن التحكم والهيمنة.
يتشابه الأمر في رواية “زوربا” إلا من بعض الاختلافات الدقيقة، إذ في الوهلة الأولى نتصور أن السارد في الرواية هو المهيمن على مجرى الحكي والأحداث، ولكن الأصل أن السارد الحقيقي هو “زوربا”، لقد لجأ المبدع اليوناني “نيكوس كازانتزاكي” إلى تقنية السارد المزدوج، وأوهمنا أنه مسيطر على سير خط السرد بواسطة سارده، وفي نفس الوقت ترك الحرية لسارده لكي يتنازل عن مهمته للمارد الشقي “زوربا”، لقد نزل السارد من برجه العاجي، برج المثقف العارف، وغاص في عمق المعرفة المبنية على التجربة الأولى، والمعرفة الشعبية الشخصية، ولذلك برز “زوربا” شيطانا في الرواية، ومنافسا قويا للسارد في توجيه الأحداث والوقائع، حتى اقتنع السارد من أجل إشباع ذاته، وتحقيق سعادته، بترك مهمة السارد لرئيس عماله “زوربا”، فحمل هذا الأخير لواء السرد برغبة، وقدرة، وشغف، وبذلك ضاهى الجميلة الحسناء “شهرزاد” في مهمتها. “زوربا” أصبح ساردا لكي يضمن قوت يومه، فينقذ حياته من البؤس، والتشرد، والجوع، والحاجة. ” شهرزاد ” أصبحت ساردة لكي تضمن هدوء السلطان، وتنقذ حياتها من التهديد بالقتل.
ولكن هذه المعطيات كانت غير ثابتة أو أبدية، حيث كانت فقط من أجل حاجة ملحة ومستعجلة، ومن الصعب جدا أن نصدق بأن هذه الأسباب هي الحقيقية التي حولت كلا من الشيطان العملاق “زوربا” والحسناء الفاتنة “شهرزاد” إلى ساردين محترفين، فتاريخ السرد يعلمنا أن المبررات قد تخلق خلقا فقط من أجل أن يبقى السرد، ويدوم، ويستمر، إذ به تستمر الحياة، وتوقفه يعني الفناء الأبدي. إذ إن السرد هنا في هذا المقام كان ضاجا بالكلام، والحيوية، وكان يهدف إلى إنتاج حديث له أهمية ملموسة، كفيل بصيانة الأرواح، وضمان البقاء، لقد بنت ” شهرزاد ” حكيها على وهم الخلود، أو هكذا أراد صاحب الليالي، ولقد زادتها العناية المفرطة أوهاما على أوهام، أوهام أضفت على حكي الليالي قيمة كبيرة، واستحقاقا ساميا، وأدرجت ملفوظات الليالي ضمن دائرة الخلود رغم تكدس كثير من النصوص بقربها تستحق عناء الفحص والتدقيق. “زوربا” هو كذلك بنى حكيه على طريقة ” لشطار”، لقد كان في كثير من الأحيان يلج دائرة الخشوع في إقلاعه أثناء الحكي دون أن يدرك ماهية محكياته، وقيمة تأثيرها في السامع، والسارد هو كذلك الذي كان يتحول إلى متلق تعود منذ البداية على قبول الأوهام، وابتلاع كلام “زوربا” الذي اعتبره تسلية، وتزجية للوقت، والغريب أن المفارقة هنا هي إتقان كل واحد منهما لدوره أمام صاحبه، بدون اتفاق على ذلك، أو قل هو اتفاق ضمني كان مفهوما من كليهما معا منذ بداية الحكي في الرواية، لقد كان الأمر جللا، ولا يستطيع راو واحد، أو سارد واحد أن يسوق كل حكمة “اليونان”، لهذا كان لابد من الاستعانة بساردين مرة واحدة، وهي التجربة التي أقدم عليها “نيكوس كازانتزاكي” وهو على بينة تامة بصعوبة الفصل بين الحقائق والأوهام أثناء مجرى الحكي الذي يتزامن في سياقه الوعي واللاوعي.
” ألكسيس زوربا” الشيطان العملاق المارد الذي ارتبط بشدة مع السارد وتآلف معه، فرض نفسه ساردا في الرواية التي هي أصلا روايته منذ الوهلة الأولى، لقد فرض نفسه بالحكي، لقد جاب كثيرا من البقاع، وتجول فيها محاربا، وعاملا، ومغامرا، كل بلاد اليونان، وبلاد الصرب… ثم استقر مع السارد بإحدى قرى جزيرة “كريت ” اليونانية، حيث عملا على إدارة منجم لاستخراج مادة “اللينيت”، وفشلا في مهمتهما فشلا ذريعا، بسبب انشغالهما بالحكي، والسكر، والعربدة، لقد عاش المارد الشيطان مدة من الزمن مع السارد قرب شاطىء البحر بجزيرة “كريت”، حيث أحب “زوربا” السيدة “هورتانس” صاحبة الفندق الوحيد في القرية، ولكن لا، لا، الحقيقة أن المارد لم يحبها، لقد كان يعاشرها فقط، خصوصا عندما تطبق الخمر على عقله، ولما توفيت حزن عليها كثيرا، فقط بسبب كرمها المفرط، ومن خلالها كره رجال الدين، وانتقد سلوكهم مع السارد بشدة، خصوصا عندما يحس بهم يكيدون لبعضهم البعض، ويبتزون المؤمنين للحصول على مزيد من الأموال. لقد تشابه مصير الشيطان “زوربا” مع مصير الحسناء “شهرزاد”، وكل منهما تصرف بطريقته، الرجل المقدوني “زوربا” مارس الحكي، و مارس الفعل خارج الحكي لضمان استمراره في الحياة، ونيل متعتها. الحسناء “شهرزاد” هي الأخرى مارست الحكي، ومارست الفعل، ولكن داخل الحكي، فكان تخييلها أكبر، وأبلغ، وأخصب، كل ذلك من أجل الاستمرار في الحياة، والتحكم في “شهريار”.