فرج مجاهد عبد الوهاب
على إيقاع زمن غرق في يَمِّ العزلة والكآبة وما فرضته نكسة يونيو، وبين انتظار الأمل الذي أشرق في نصر أكتوبر وعلى مدى قرية عزلاء بين الزرع والضرّع وسط صعيد مصر المستباحة من قبل لصوص الظلام الطامعين في القوت والدراهم والبهائم وبشر مجمدون يروِّضون القوت في انتظار الغائبين وعلى مساحة الليل البهيم حيث تختلط به أصوات البنادق مع أصوات ربابة حنون لشاعر يستدعي في نشوة سيرة أبي زيد الهلالي فيُشعل النفوس حماسًا.
وعاشقة تنتظر عريس ابن أسبوعين، تغمض عينيها لتراه آتياً كالقدر “يشق الظلام بجسده الفارع وإلى جانبه صديقه الحميم، وشريكه في الكفاح ضد أولاد الليل وحين تفتحهما لا تجد سوي السراب حيث مدى الفراغ الخاوي فلا تجد أمامها سوى الوقوف على محطة الانتظار.
وسط هذه الأجواء الكئيبة والمكتسبة يفرد الرواي “عمار علي حسن” جناح سرده التلقائي، ليجمع كل ما سبق في نص روائي حمل عنوان “زهر الخريف” وصدر عن “الدار للنشر والتوزيع” عام 2009.
قام النص الروائي على سبعة عشرة فصلاً روى من خلالها حياة قرية الإسماعيلية، في الفترة الممتدة ما بين1967– 1973 مركزاً على بطليْن أساسييْن، كانا محور الأحداث ومركزها الرئيسي، بهما تصدر المواقف والأفعال والأحداث في وحدة وطنية في قمة التسامي الإنساني والوطني.
وهما علي عبد القادر وميخائيل سمعان، صديقان جمعهما الحب والمغامرة وذكريات الطفولة والخوف على أهلهما المتعبين فكانا مثالاً لشباب قرية الإسماعيلية.
تهب أم علي من نومها مذعورة بعد أن أخذتها سنة خاطفة إلى عالم الغيب، إلى الموت الأصفر “نار في نار، وحمم تمزق الفضاء وبساط من لهب يمتد حتى نهاية المدى، وصراخ آدميين يستغيثون ولا مجيب، وفي أعماق الجمرة العملاقة، رأته يضحك باطمئنان لوّح بيديه ثم غاب في القيعان البعيدة وحين استقر في آخر نقطة.
صرخت: يا علي وأتبعتها بصوت خفيض مبحوح: يا عبد القادر الموجود خارج البيت يهش اللصوص الطامعين في قريته وعندما يعود إلى البيت تسأله إن رأى علياً الغائب، ومع الصباح يطل صوت رفاعي منادياً على العيش الساخن والأطفال من حوله يصيحون:
يا رفاعي يا بتاع العيش خدنا معاك وديّنا الجيش
وفي الوقت نفسه كان قلب أم ميخائيل يأكلها على ابنها الغائب أيضاً. على بعد عشرة كيلو مترات كان علي وميخائيل يضحكان على مقهى بعد خروجهما من سينما بالاس وشاهدا فيلم “أغنية على الممر” الذي ملك عليهما مشاعر البطولة في أجل صورها.
ويروي لهما ابراهيم الذي خاض حرب 1967 وما أفرزته من مآسي في ساحة المعركة. لن أنسي مشهد جنودنا المجردين من السلاح، وبعضهم تخفف من البيادات حتى يسهل هربه، وراحوا يجرون بلا هدى في الصحراء المفتوحة ، ويتركون خلفهم تراب الوطن للعدو (ص17).
ويروي حكاية الفتاة الإسرائيلية التي تقود مروحية على قرب من رؤوس الجنود.
كان الصديقان قد خرجا عند ضحى الأمس من القرية، وقادتهم أقدامهم إلى محطة القطار الذي وجدا فيهما صديقهما إبراهيم، سألاه عن حاله فردّ بصوت خفيض.
ـ الحمد لله على كل حال، فلا شئ يبعث على الفرح.
ويقترح ميخائيل أن يذهبا إلى مدينة المنيا، فهناك ما يفرج الهموم وتستقبلهم المدينة وهي تضم الشباب الثائرين وهم يهتفون:
ـ غيّر غيّر يا جمال .. اصحي يا مصر ، يا خالد قل لأبوك: ثلاثين مليون بيكرهوك.. دي مش عزبة أبوك” (ص34) وينخرط الشباب في المظاهرة التي تقودهم إلى مركز الشرطة حيث الحجز البارد.
ويدور بين المحتجزين حوار حول البلد والمظاهرة والحرب واليهود الذين سرقوا فلسطين وهم يسرقون سيناء والجولان والضفة الغربية
-كلهم صهاينة مجرمون.
– لن ننتصر إلا إذا فهمنا.
– كأنك تكرر ما قاله الصهيوني “بن جورين”: “إن العرب لا يقرؤون، وإن قرأوا لا يفهمون، وإذا فهموا لا يعملون، وإذا عملوا لا يتقنون” (ص28)
ويتعرض المتحاورون إلى طبيعة الخلاف بين اليهودية والإسرائيلية والصهيونية، ويتدخل الدكتور السجين معهم وقال:
-حقاً هناك من اليهود من يرفض إسرائيل، ومن الصهاينة من لا يؤمن باليهودية، ومن الإسرائيليين من لا يعتنق كل الأفكار الصهيونية لكن هؤلاء قلة لا تأثير لها في جموع متعصبة، إما للأيديولوجيا أو الدين أو الوطن المصطنع (ص32)
ويفرج عنهم في اليوم التالي ويذهب الصديقان إلى المقهى وينصحان إبراهيم بالذهاب إلى طبيب نفسي.
قال علي: تأخرنا على الأهل طويلا، ولابد أنهم قلقون علينا .
ابتسم ميخائيل، وقال: وكأنها المرة الأولى التي تغيب فيها عن البيت أياماً.
في طريقهم إلى المقهى التي يقصدها بقال القرية عم حسين ليخبر أهلهما أنهما بخير، يلمح وفاء إلى جانب أبيها، وفاء التي صرح لصديقه أنه لا يتصور العيش دونها وينادي علي: يا حاج إسماعيل ورقصت روحه فرحاً.
وبعد أربع وعشرين ساعة فقط كان عليّ أمام مفاجأة جديدة، كانت وفاء حاضرة فيها بروحها وطيفها، لقد التقاها صدفة في الشارع، ومن لمس أصابعها الطرية الدافئة كان الأب يحكي، ورأى نفسه يتأبط ذراعها ويصعد بها سلالم البيت الحجرية، ويفتح باب غرفته الوسيعة ويلملم بيديه ذيل فستانها الناصع البياض، وبعد تمهيد طويل، استيقظ على قول أبيه:
ـ سنزوجك في موسم القطن المقبل.
المفاجأة الثالثة كانت بعد زواج علي من وفاء بأسبوعين فقط، جاء خفير من نقطة الشرطة بورقة صغيرة تدعوه إلى الخدمة العسكرية كما استلم ميخائيل نفس طلب الاستدعاء ودّعهما الأهل عند مدخل القرية بعيون تملؤها الدموع، وبرقت في رأس علي صورة وفاء وهي تودعه
ـ مع السلامة يا أغلى الناس.
ـ أيام وسأعود إليك يا حبيبتي لنواصل ليالينا الساحرة ، كما تاه ميخائيل في ملامح أبيه العجوز وأمه وأخوته وخطيبته جورجيت وغابا بعد ذلك في زحمة الحياة ومهام وضعهما الجديد.
ويعود الراوي إلى ذاكرة القرية وسرقة جمل جرجس ويطارد علي وميخائيل والرجال اللصوص ويستردون الجمل، ويتبادل رجال القرية أخبار الشابين البطلين حتى اعتبرهم الناس “إنهما أسطورتان في قريتنا المسكينة” (ص57) ويستغل أولاد الليل الزراعات التي تحيط بالبيوت من جهات ثلاث، فيتسللان أو يأتون بقارب صيد يحملونه بما يسرقونه ، قبل أن يشب الشابان ظفر اللصوص بكل سرقاتهم:
-عصابة فاجرة.
-يقال إنهم أكثر من خمسين رجلاً مسلحاً.
– بنادق آلية؟
– بل رشاشات.
– وذخيرة كبيرة من مخلفات الحرب.
– لا أحد بوسعه أن يتصدى لهم.
– وليس هناك من يضحي بنفسه من أجل يهيمة.
حتى إمام المسجد لم يفلح في تشجيع الناس على المقاومة: إن من يُقتل دفاعاً عن ماله الحلال، فهو شهيد(ص59)
وبعد أن يستمع أهل القرية إلى بطولات أبي زيد الهلالي تقدم ملتاعٌ سرقت جاموسته وقال:
ـ يا ليت فيكم أحدًا مثل أبي زيد، لو في بلدنا شجعان ما ضاعت بهائمنا، هَمَّ أحدهم ينهره، إلا أن صوت علي كان الأسبق:
ـ الولد عنده حق (ص63)
وانبري أكير الجالسين سناً قائلاً: ” كان آباؤنا وأجدادنا لا يقبلون الهزيمة، حتى في لعبة التحطيب، ورد علي في حماس:
ـ بوسعنا أن نكون شجعاناً مثلهم، وسانده ميخائيل.
ـ لو وضعنا الأيدي في الأيدي، ما جرأ لص قذر على أن يقترب من قريتنا (ص66)
تفاعلت روح الشجاعة والشهامة في قلب الشابيْن وقررا أن يخوضا معركتهما ضد لصوص القرية وشهدت القرية حادثتين على شجاعة الشابين استردا فيهما ما سرق من القرية مما جعل الرجال يؤمنون بكلامهما حين طالبوهم بالاتحاد في وجه اللصوص واتفق الرجال أن يختاروا فريقاً منهم يسهرون لحماية القرية ويتبرع أحدهم ببندقية ومن ثم قرر علي أن يعرف من يتجسس عليهم لصالح اللصوص وبعد المراقبة اكتشفوا الخائن ودخلوا بيته وأخذوا بهائمه وفلوسه فيذهب إلى بيت شيخ البلد وحكى الجاسوس سيد أبو سرحان الذي قال ساخراً: أليس من العيب أن يسرق بيت محارب قديم؟
ـ كل البيوت سُرقت.
ـ لكن ليست كل البيوت بها أبو سرحان.
ـ وعندما سأله أين كان يلسعه السؤال، فقال في تريث:
ـ شعرت باختناق، فخرجت إلى الهواء الطلق في الحقول، وأنت تعلم أنني مصاب بحساسية منذ حرب 1948، فابتسم الشيخ وقال ويعترف بعلاقته بالرشاوي زعيم اللصوص الذي تعرف عليه في صيف 1947، وأصبحا صديقين لاسيما بعد أن أنقذه من الموت، وبعد ثلاث ليال أطلقت مئات الطلقات من بنادق اللصوص وانطلق المدفعان الصغيران يمطران طرق القرية برصاص هادر وانكمش اللصوص في أماكنهم وهربوا ليعودوا في اليوم التاسع حيث وجدوا الرجال بانتظارهم وردوهم على أعقابهم.
ويطول الغياب وتجلس وفاء فترى الجسر القادم من محطة القطار البعيدة وتراه في النوم طائراً عظيماً يشق الفضاء بجناحين قويين مفرودين إلى آخر مدى، وطار سريعاً نحو عين الشمس، تلوث جناحاه فصارا جمرتين مدببتين تلهبان الهواء، فجأة صار الريش والأجنحة والجسد العملاق كتلة من لهب، ثم غباراً هائلاً من رماد، داعبه هواء لافح فغطى النور الأخير للشمس، واسودت الدنيا بكاملها، وفي قاع الظلام الدامس، هبت وفاء مذعورة من نومها ونادت بصوت مسجوع: يا علي.
ويعبر الجيش قناة السويس طامرة تحتها أسى السنين الفاتنة ولم تجد وفاء إلا الذكريات وتتعرف على خطيبة ميخائيل وحبيبته – جورجيت – وتنهض بينهما صداقة قوية.
قالت لها وفاء بعينين متسعتين، ووجه مملوء بالرضا.
-حدثيني عنه يا جورجيت.
-لم يكن يفارق ميخائيل، أول ما طالني الوعي رأيتهما ذاهبين إلى المدرسة.
وتتوه جورجيت في ذكريات لا تزال طازجة وتقول: غيابه على عيني (ص95)
وتحمل ضاربة الورع وعرافة غجرية وتطلبها أم علي وتطلب أن تكشف طالع ابنها علي، وتضرب الودع وتقول: حبيب غايب قلبك عليه دايب، تستنيه مسا وصباح، وخاطرك مش مرتاح، معاك ووراك بنية جميلة، زهرة طرية، وقطرة ندية ما فرحت ولا اتهنت تستني زيك ليل ونهار والقلب والعقل محتار، والبال مشغول.
أقول .. قولي: ربك كريم معين الغلابة، قادر يولف الغنم مع الديابة، البصر طيب وفرجه قريب مهما الصبر يطول والمكتوب على الجبين لازم تشوفه العين (ص98).
يؤنبها أبو علي على استضافتها للعرافة وسماع أقوالها ويطلب منها أن تذهب إلى الشيخ حسن ليفتح لها الكتاب، تذهب إليه وينتظر إلى عينيها ويقول: إنّ الله مع الصابرين وإنه لطيف بعباده وقص عليها قصة سيدنا موسى عليه السلام مع العبد الصالح الخضر ويوصيها بالصبر ومع ذلك تذهب إلى الشيخ عمران الذي كان غارقاً بالتسابيح وبعد أن انتهت خلوته استقبلها قائلاً: جاء بك إلينا الغائب الحبيب، هو في مكان غير مكاننا وفي دنيا غير دنيانا، طال سفره وأمامه طريق لن تخطئها قدمان أمامه امتحان كبير سينعم فيه بالسكينة كلنا ضيوف الله في بيته الكبير، نأتي ونذهب ولا ينقص غيابنا من ملكه شيئاً وسيهديك الله صبراً (ص106)
وفي ذات ليلة عاد ميخائيل فجأة، جاء ولم يأت، أتت فقط جثته ممددة في صندوق خشبي مسربلة بالبياض الأخير، ومسجاة ببطانية رمادية كلون الحياة في عيني والديه قبل مجيئه، جاء واسودت الدنيا في عيون أهل القرية جميعاً، وصرخ صوت في أول الليل وأول القرية .. يا حبيبي يا ابني (ص110)
ومع ذلك فإن الغالي لم يعد، خمدت النيران وانفضت الحرب ، وعاد الجنود وتوزعت الأسئلة عليهم ولا جواب يريح النفس ولا مجيب سوى الصمت والظلمة الراقدة تحت الجدران العتيقة والأذان ملتصقة بالمذياع علها تسمع خبراً يسر خاطر وفاء وأم علي وتقول أم علي.
وتقول أم علي الحاج عبد القادر:
سمعت الأستاذ علي اليوم في الراديو.
-في أية إذاعة؟
-لو كانت إذاعة إسرائيل لكان هو فعلاً علي أفندي، فهم يسمحون أحياناً للأسرى بأن يعلنوا عن أسمائهم في الإذاعة حتى يطمئن أهلهم.
-بل ليضغطوا على الحكومة الإسرائيلية.
-أو ليتم استبدال أسرانا بأسراهم.
-ويعود عبد القادر كسيف البال، وقال لزوجته في أسي.
-يبدو أننا سنقضي بقية عمرنا في انتظار.
-قال رفاعي بعزم: لي أصدقاء في سيناء يمكننا نلجأ إليهم ونسأله عن علي.
ويذهب مع أخ علي فهمي ويسألان في مدن القناة ويقصدون المقهى الذي هدم ويسألان عن جندي اسمه علي عبد القادر ويعرضان صوره وتأتي الإجابات مخيبة للآمال، ويسألان أصحاب المقاهي ويفيدهم صاحب إحداها عن غريب فقد الذاكرة أيام الحرب، يختفي أياماً ثم يعود وعرفا أنهما يدوران في دائرة مفزعة وعادا إلى القاهرة ويسألان قيادة القوات المسلحة والسجلات العسكرية ودفاتر المستشفيات القديمة ولا يجدون اسمه ولم يعد أمامهم سوى الانتظار ويسأل:
أين أنت يا علي؟
ويتحوّل الانتظار إلى مرض مزمن عند وفاء التي راحت تدعو الله.
ـ إن كنت يا إلهي قد استرددت وديعتك فخذني إليه. (ص128)
وانغلقت نوافذ الأمل جميعها فتراخت عزيمتها وطوت بين جوانحها ما تبقي من ذكريات.
وتطلب أم علي من ابنها فهمي أن يتزوج زوجة شقيقه حتى تبقي معهم في البيت.
-أتعرفين معني هذا؟
– أعرف لكن ما باليد حيلة.
– لا أقدر على هذا، إنها حبيبة أخي ولا تزال تحبه.
– لكن أخاك…
– لا تكملي من فضلك يجب ألا نفقد الأمل.
– ولا يجب أن نفقد وفاء.
– لا أستطيع هذا فوق طاقتي.
– تحمل من أجل أمك ومن أجلنا (ص133)
وتنتقل وفاء إلي بيت أهلها وقال رفاعي باكياً: لعن الله الفراق وبالمقابل ترفض جورجيت كل من تقدّم إليها، فقد طوت جوانحها على حب ميخائيل، وارتاحت لقول وفاء بعد أن فقدت الأمل.
ـ سنقابل أحباءنا هناك في جنة الخلد (ص138)
ويعود اللصوص ويسرقون بقرة شحاتة أبو عيسى ويقتلونه.
ويموت عبد القادر هماً وحزناً على ابنة الغائب وتموت من بعده أم علي لقد حقق الله أمنيتها، ستراه هناك يحمل النعش إلى مسجد القرية وكان نفر من الرجال سبقوا الجنازة ليحفروا القبر وحين وصلوا كانت هناك جنازة أخرى لرجل من قرية – الحوارتة- القريبة دفنه أهله، ولما انتهوا من الدفن انبرى من بينهم رجل في مطلع الحلقة الخامسة من عمره، تقدم إلى القبر، وجلس في خشوع وأعاد الآية الكريمة (كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ)
وتلوح جنازة أم علي، وتراسلت أعين الذين سبقوا لحفر أهلها ويستأذنون الرجل أن يقرأ الفاتحة على قبر الفقيدة ويسأله أحدهم:
- مولانا من الحوارتة ؟
- أنا من بني سويف والفقيد الغالي هو عمى.
- من أي البلاد أنتم؟
- من قرية الإسماعيلية.
- سمعت عن بلدكم من قبل، وسألهم:
- أفي بلدكم شباب تشاركوا في حرب أكتوبر 1973
- كثيرون.
- خدم معي في كتيبتي شاب من بلدكم لا يمكن نسيانه.
- أتذكر اسمه؟.
- علي عبد القادر المرحوم علي عبد القادر عيسي
- أتعرف جنازة من هذه؟ إنما جنازة أم علي.
- قال الرجل تسبقه دموعه: استشهد أمام عيني، قال ما أراد فأصبت بجرح غائر، عالجه الأطباء، فحالوا بيني وبين ما أردت ويروي لهم كيف ضحي بنفسه وأجاب صاروخ الطيارة التي كانت في سلاح المظلات فاشتعلت فيها النيران وأصبح جثة هامدة كل شيء يهون في سبيل النصر ويتقدم فهمي ويقول له أنا أخو علي فبسط الرجل يده وقال في تأثر بالغ..
- البقاء لله المرحوم كان أكثر من أخ.
هذا قضاء الله، أخوك مع الصديقين والبررة في جنة الخلد.
نظر فهمي إلي قبر أمه، وكان الرجال قد بدأوا يحيلون التراب عليه، وبعضهم أخذ ينشد بصوت مليء بالخشوع والرضا، دائم باقي وجه الله، ثم أشار بيده وكأنها واقفة تنظر إليه، وقال: انتظرت رجوعه حتى الرمق الأخير.
فقال الرجل بصوت مملوء باليقين وهو يتابع بطرف عينه قرص الشمس، وهو يأذن بالمغيب فوق صفحة النهر.
-قدرها أن تقابله هناك في رحاب ذي الجلال(ص156)
في مثل هذا الفضاء السردي المهني بالموضوع الإنساني والقيمي والبطولية، هل من الجائز، فنياً، أن يتميز الموضوع عن الشكل الفني؟ أم أنهما لابد أن يندمجا في وحدة السرد قيمة عليا بحيث لا يطغى الشك على المضمون ولا يتجاوز المضمون فنيات السرد الروائي.
إن عمار علي حسن في هذه الرواية كان معنيا بالأحداث لاسيما البطولية منها، مقارناً بين ما حدث عام 1967و 1973 – فقدم أنموذجاً لبطليْن ضحيا من أجل مصر حتى تحقق لها نصرها المؤزر في أشرف معاركها المشرفة.
ولذلك اهتم المبدع بالأحداث القيمية من خلال رجال قرية “الإسماعيلية”.
ومن البدهي أن يقوم البناء السردي على المباشرة والإنسانية التي كانت جُملها هي العامل المؤسس لبنية الرواية وبشكل توافقي مع الهدف الإنساني النبيل ولكن الجُمل الإنشائية الطويلة، مثل “فولت بقايا الليل الراقدة على جفنيها هاربة من النافذة المفتوحة على خيوط رمادية” (ص5)
ومثل “وبساط من لهب يمتد حتى نهاية المدى” و “ولم تتمكن من أن تحكي أي شئ لزوجها حين عاد في الظهيرة من زيارة أقاربهم في قرية بعيدة” (ص11) و “كانت نسائم الربيع الطرية تهبهم انتعاشاً وبهجة فتدوي ضحكاتهم في جنيات المقهى” (ص15)
وغير ذلك كثير من الجمل الإنشائية الطويلة، والسؤال: هل من الممكن أن تكون هذه الجمل داعماً أساسياً لكل من:
- نبض الرواية.
- تأزيم الخط الدرامي في النص.
- إحداث ذلك الطيف المؤثر في علاقات النص مع أبطاله وأحداثه، أم تشكل عبئاً سردياً على بناء النص.
مما لا شك فيه أن النص هو شبكة من التأثيرات المبادلة التي يمارسها طرف على آخر أثناء التواصل القائم على الكلام الذي يستدعي لضرورة ما ذلك السيل من الجمل المباشرة وهذا يعني أن كل خطاب – مهما كان شأنه – هو بناء جماعي تتشارك فيه الأحداث مع الأقوال، سواء تعلق الأمر بمحادثة عادية أو بحوار قصصي، أو بنص مكتوب، وهذا يعني أنه من الممكن أن يخضع التفاعل القولي لإكراهات سردية ومنها الإنشائية والمباشرة كان السياق السردي هو الذي يحددها.
من خلال هذا المستوي لسياق “زهر الخريف” أن يفرض مقامه السردي من خلال الضمائر المتكلمة، آخذة في الاعتبار المقام وردود فعل مخاطبة المعاينة أو المتوقعة.
وقد لا يتم التفاعل القولي وجهاً لوجه، ومع ذلك فإنّ السارد يبني في خطابه كل الأشكال السردية التي توافق الخطاب وإن جنحت إلى الخطابة المباشرة وبما أن النص السردي بمجمله يشكل تفاعلاً قوياً في بنية النص ويحوّل الاهتمام من النشأة إلى التلقي.
هذا الاهتمام هو الذي فضله الروائي في نبض روايته المعنية بالبشر الذين يروضون الوقت في انتظار الغائب الذي لم يعد وبالقرية العزلاء المنسية الخاضعة لجرائم اللصوص، والواقع المتشرذم بعد نكسة 1967 والواقع الذي ساد بعد حرب 1973.
هذا الاهتمام المبالغ فيه وطنياً وانسانياً يفسح المجال لأن يتألق في فضاء السرد دون أن يغفل الاهتمام بالشكل الذي جاء توأماً للموضوع، وما الإنشائية إلا بوحاً شفافاً للعاطفة الجياشة التي هي التي كانت تحرك ضمائر النص لسرد وتقول، من خلال ذلك البوح الإنساني وهذا ما يجعل من “زهر الخريف” رواية واقعية تضاف إلى كل ما كُتب حول الواقع الذي كان سائداً ما بين النكسة وحرب التحرير الكبرى، لم يكن “عمار علي حسن” في كل ذلك غير الروائي العاشق لوطنه، والمحب لعلي وميخائيل. وقد التحما في فضاء الشهادة من أجل الوطن، في أجمل صورة وطنية مبدعة وخلاقة.