زهرة الصبار: أن تقاوم حتى تصل

زهرة الصبار
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

 مازن حلمى

على مر تاريخ السينما كان هناك سينما تجارية، وأخرى فنية، وهما يشكلان معًا مشهد صناعة السينما. استيلاء  السينما التجارية على  النصيب الأكبر من الأفلام، والجمهور لم يمنع وجود هامش تتنفس فيه السينما الطليعية الطموحة.

فى العشر سنوات الأخيرة ظهر فى مصر ما يعرف بالسينما المستقلة، أو الديجيتال، تتميز بانخفاض تكاليف الإنتاج، وعدم الاعتماد على النجوم، وتمول من المهرجانات الدولية والمؤسسات الثقافية الداعمة، والجهد الشخصى. هى سينما ذات موضوعات جريئة، ومغايرة للنمط السينمائى السائد، حققت طفرة فنية حيث غزت المهرجانات المحلية، والدولية، وحصلت على جوائز، وتكريمات عديدة منها فليم (ميكرفون) للمخرج “أحمد عبدالله”، وفيلم (عين شمس) للمخرج “إبراهيم البطوط”، وفيلم (عشم) للمخرجة “ماجى مورجان” وغيرها .

(زهرة الصبار) فليم مستقل من إنتاج 2017م، كتابة وإخراج “هالة القوصى”، وهو العمل الروائي الطويل الأول لها.

زهرة الصبار

اعتمدت المخرجة فى سردها البصرى على تكنيك التقطير، لا تكشف أوراق أبطالها دفعة واحدة، لتشويق المشاهد، وجذب انتباهه حتى نهاية العمل. عَبْر مشاهد متلاحقة ترسم لنا بورتريهات كاملة عن الشخصيات الدرامية مما يجعل التفاعل، والجدل مع الفيلم  يتم بمرور الوقت.

الفيلم من نوعية أفلام الرحلة.. تفقد “عايدة”، وجارتها مسكنهما بعدما طردتهما صاحبة العمارة، يبدأن رحلة البحث عن مأوى، وهى أيضًا رحلة البحث عن الذات، والحب، والحلم. خلال الرحلة تتصالح “عايدة” مع الماضى/ الأم، وتتخلى عن الحبيب الزائف، وتحقق حلمها .

“عايدة”، التى جسدت دورها الممثلة “سلمى سامى”، طالبة طب مغتربة فى القاهرة، تعيش وحيدة، تحب التمثيل، فتغير مسار حياتها حتى تصبح  ممثلة. منذ عشر سنوات وهى ممثلة صاعدة، لكنها مثل “زهرة الصبار” تقاوم.

مدام “سميحة”، الممثلة “منحة البطراوى”، لاحظ دلالة الاسم، أرستقراطية تعيش وحيدة أيضًا، متصالحة مع نفسها وسعيدة بحياتها. المرأتان مستقلتان، وعنيدتان. يمكن اعتبارها ماضى “عايدة”، أو امتداد لها فى المستقبل،  لكنها شخصية  أكثر عمقًا، ونفاذ رؤية.

الشخصية الثالثة فى الرحلة هى شخصية الشاب “ياسين”، الممثل “مروان عزب”، يتخلى عن دراسة الحقوق، يعيش بحرية، ويبحث عن نفسه. يساعدهما فى بعض المواقف، وتنشأ  صداقة بينه وبين “عايدة”. الشخصيات  الثلاثة متشابهة، لكن الأخيرة لم تأخذ مساحة كافية فى السيناريو؛ فجاءت كرمز، وفكرة أكثر منها شخصية واقعية، هى شخصية جسَّدت الأمل، وتخليص المدينة من الأشرار.

التوازى

يحدد المخرج الايطالي “باولو بازولينى” فى خطابة النظرى عن سينما الشعر ثلاث ملامح:

1- الصور الإشارية  الخارجة من الذكريات، والأحلام، والطفولة حيث يختلط  الذاتى بالموضوعى؛ لإنتاج لغة السينما الشعرية. 2- الخطاب الحر غير المباشر، وذلك بتوحُّد المخرج بالشخصية، فيصوغ رؤيته للعالم من خلالها. 3- كسر الإيهام حتى يشارك المشاهد وينفعل بالعمل ويصبح دوره ايجابي . 

ينقسم الفيلم إلى خطين متوازيين: الواقعى، والحلمى. كل مشهد واقعى يقابله آخر إشارى؛ فاستخدام لغة اللاوعى يستبطن الشخصية لمعرفة مخاوفها. انشغال “عايدة” وبحثها عن الحب يقابله استهجان واستخفاف الآخرين، نراها تجلس وحبيبها إلى طاولة يلبسان الأبيض كملاكين وسط سخرية مجموعة تلبس ألوان متنافرة تغلب عليها الأحمر الفاقع والأصفر إشارة إلى الغيرة، والعنف، وهجومهم عليهما فى حلم يتعقبها.

عبر لعبة مزج الواقعى بالحلمى: تحاول “عايدة” التخلص من مجموعة ملتفة  حولها فى مشهد تمثيلى مسرحي كمعوقات فى طريقها، تنجح فى  الخروج من الدائرة، يستنجد بها زميل. فى المشهد التالى نجد “سميحة” ملقاة على الأرض قدمها  مكسورة، تستنجد أيضًا بها.

ثم أثناء غناء “باسم” صديق “عايدة”، والثلاثة يرددون معه أغنية “أحمد فؤاد نجم” (كلمتين لمصر) إذا بهم يجلسون فى غابة، فحالة الغناء، وعذوبة الأغنية  ترتقى بنا، وتنقلنا إلى عوالم رحبة ومجهولة.

مشاهد الطفولة تأتى مفعمة بالجمال الرائق، والألوان البديعة، لكنها حزينة. “عايدة” المحرومة من الطفولة، وحنان الأم تظهر كطفلة ترقص وسط مجموعة من البنات يرقصن بلا فساتين، تبدو أنوثتهن ناقصة كورود بلا أوراق .

ترتدى المخرجة قناع “عايدة”، تتوحد معها، وتصدر رؤيتها دون إحساس بالتنظير، أو المباشرة. تُظهر أيضًا نظرة أهل المهنة للفن، المخرج الذى غيّر حياة “عايدة”، فالممثلة لديه ليست سوى مومس رخيصة، وكذلك نظرة المجتمع الذكوري للمرأة المستقلة عن سلطة الأب، والزوج. الهوس الجنسى المسيطر على عقلية الجميع، يستهجن الجيران وجود بنت عند صديقها مما يضطرهما للمغادرة، ربما البلد ذاتها لم تعد مكاًنا صالحًا للعيش، لكنهما لا تكلان عن البحث عن موطئ قدم للوقوف. 

تذهب بنا الكاميرا إلى زمن الفراعنة نجد المرأة المصرية القديمة تعمل بالزارعة منذ القدم، ليست أكثر من خادمة، أو كائن للتكاثر بينما للرجل حق العمل فيما يشاء. تبين ميراث القهر الواقع على المرأة بخطاب نسوى يتسم بالإبداع والرقة. ترتحل فى  الذاكرة، والتاريخ، والحاضر، والأحلام؛ لتُقدِّم عالمًا ثريًا ممزوجًا  بالجدة، والدهشة.

لغة المرايا، والألوان

بالإضافة إلى اللوحات، والصور الرمزية التى تملأ التكوين كان حضور المرايا متكررًا كلغة سينمائية دالة، مشهد محل الخياطة “عايدة” طفلة تبتسم لأمها فى مرآة موضوعة عمدًا، فوجودها ليس من ديكورات المحل. أرادت المخرجة أن ترى الطفلة مشاعرها الحقيقية، ونشاهد نحن كم هى حزينة وإن كانت تضحك، فهناك قلق يساورها، ومستقبل غامض ينتظرها. عندما يظهر “باسم” صديقها نراه فى إطار ضيق لمرآة صغيرة تعبيرًا عن حالة الحصار، والضيق التى يمر بها. كما أن الكادرات فى شقته ضيقة جدًا. فهو شخصية مسجونة فَضَّلت الانسحاب، وسقطت فى الطريق.

المواجهة بين “عايدة” وحبيبها تأتى فى ثلاث مرايا، تحتل “عايدة” اثنتين، وتتبقى مرآة له. كأنها تحاصره، لتتخلص من هذه العلاقة الواهية .

ترتدى “عايدة” و”ياسين” الأبيض تعبيرًا عن البراءة، والمثالية، والبكارة التى تسم طبيعتهم، بينما مدام سميحة، والأم يلبسان الكاروهات، والمشجر، هما فى أواخر العمر، ماضيهم مليء بالأخطاء والتجارب.  

يطغى اللون الأسود أحيانا فى الكادرات، والإضاءة تكون فى نهاية ممر، أو فى الجوانب. هذا التباين يؤكد معنى وجود الظلام، ووجود النور أيضًا فى المقابل موضحًا رسالة الفيلم . يظهر الولع بتصوير البيوت القديمة الجميلة بما تعنيه من أصالة، وعراقة حتى لو كانت متهالكة. كأنها تُزيح عنها غبار الزمن لتتجلى حقيقة، وجمال وجه مصر.

لغة الرمز

يحضر الرمز بداية  من اسم الفيلم (زهرة الصبار)، وتكرار حضور نبات الصبار، واعتناء “عايدة” به، وأخذه معها كجزء من مقتنياتها، وزراعته فى أرض بديلة. نرى “عايدة” طفلة فى استوديو تصوير وتظهر صورتها مقلوبة كاستعارة رمزية عن التحول الذى سيحدث برحيل الأم. الرأس المعلقة لذئب على حائط فى مشهد آخر  بعد حوار “عايدة” مع بن صاحبة العمارة، يتكشف الرمز حين يتحرش بها لاحقًا. رمزية الساعة وسؤال صديقتها لها أن تقتنى ساعة, فى مشهد بديع نرى جميع الشخصيات تنزل البحر، وتبتهل الى الله بترنيمة (لما أكون تعبان). تغتسل، وتتطهر من آثامها، لتبدأ حياة جديدة، ويمشى الشاب “ياسين” على الماء كالمسيح، يغسل وجهه بالدم حاملًا آلام العالم، ومخلصه من الشرور كطاقة نور.

تعتنى  المخرجة  بأدق التفاصيل مثل الاحتفاء بطقوس الأكل فى البيوت المصرية، وتحضير أكلة الملوخية والشهقة اللازمة لها، ويحسب لها أيضًا اختيار الممثلين الرئيسيين والثانويين، وتركيب الدور على الممثل.

أداء “سلمى سامى” كان مناسبًا للشخصية، حافظت على مشاعر الانكسار، والتعب إلى جانب  التصميم، والإرادة بداخلها، أما “منحة البطراوى” فكانت مفاجأة الفيلم التى أشاعت روح البهجة، والفرح. لولاها كان الفيلم سيبدو قاتمًا.  “مروان العزب” عذوبة، وبراءة، وجهه كان سبب اختياره للدور مع المران، والتدريب ستصقل موهبته.

المخرجة “هالة القوصى” فى فيلمها الأول (زهرة الصبار) تضع اسمها بجانب المخرجين الكبار.

 

مقالات من نفس القسم