ريزارد كراينيكي.. إيَّاك فاعبد

ريزارد كراينيكي.. إيَّاك فاعبد
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

ولد ريزارد كراينيكي (لو أن هذا هو نطق اسمه الصحيح، ولا أعتقد) في سانكت فالنتين (بجنوبي النمسا) سنة 1943، وهو أحد أهم الشعراء البولنديين المعاصرين، ومترجم مهمّ، وناشر أيضا.

ينتمي إلى شعراء جيل 1968 الذين تزامنت بداياتهم مع أحداث سياسية كبرى كأحداث مارس 1968 ومظاهرات ديسمبر 1970. اتسمت قصائده الأولى بغزارة استخدام الأدوات الشعرية والتراكم الباذخ للصور، والنظر إلى العالم بوصفه عدائيا مهدّدا، وإلى الواقع بوصفه كابوسا فوضويا، وإلى الحياة بوصفها محفلا للخواء واللاشيء. والذوات في قصائده الأولى تشعر أنها “مطرودة” من واقع يستعصي على أفهامها، أو هي تهرب منه بلا أمل.

تشير سيرته المنشورة في موقع بولندا الثقافية إلى أن شعره شهد تحولا ملحوظا عند لحظة معينة. فظهرت على حين غرة القصائد شديدة القصر والكثافة ذات البيت الواحد أحيانا، والأبيات القليلة للغاية غالبا. فإذا الهروب، على سبيل المثال، وكما لاحظ أحد النقاد، يتحوّل إلى حج روحاني. وباتت القصائد القصيرة لا تبدو أعمالا فنية تتوسل إثارة إعجاب قارئها وتسليته، بل هي أقرب إلى مطايا وفضاءات للتأمل والتماهي مع العالم.

في عام 1975 كان ريزارد كراينيكي أحد الموقعين على “احتجاج الـ 59” المعترض على التغييرات المقحمة على الدستور البولندي. ارتبط الرجل بالمعارضة وشارك في العمل السياسي السريّ، فمنع من النشر في الفنرة من 1976 إلى 1980. في عام 1976 حصل على جائزة كوسيلسكي، وأسّس دار نشر a5 لنشر الشعر البولندي المعاصر، فكان ناشرا لفسوافا شمبورسكا. ترجم إلى البولندية بريخت وجوتفريد بِن وبول تسيلان ويارنر كونزي. ويورد له موقع بولندا الثقافية الذي ننقل عنه كل ما سبق نحو 13 كتابا

***

اخشَ الرب

الذي لا وجود له

                   

في قلبك.

***

هذه هي القصيدة الأولى التي أقرؤها لـ ريزارد كراينيكي. إنني حتى لا أعرف إن كنت أحسن نطق اسمه، أو كتابته بالعربية. هو في النهاية شاعر بولندي، وهذا يعني أنه عظيم رغم أنفه، أو على الأرجح، فبولندا لا تعرف الشعراء المتوسطين، أو هي تعرف كيف تحتفظ بهم أسرى لغتها، وهو بولندي، وهذا يعني أن اسمه سيبقى في لغتنا موضع خلاف، وأنه سوف يظل يعاودني في أوقات ليس معتادا أن تعاودني فيها أسماء الشعراء. من منكم يحدث له، مثلي، أن يتذكر اسم شاعر بولندي ما، زجاجيفسكي، شمبورشكا، ميلوش، كاميينسكي، وهو في طريقه إلى الصيدلية أو  أثناء وقوفه فيها يطالع أسماء الأدوية وراء الصيدلانية الشابة؟

وهذه هي القصيدة الأولى. واضح تماما أننا أمام لاعب كبير. واضح أننا مع شاعر يعرف أين ينهي سطره ليبدأ سطرا جديدا. وذلك كأن يعمد بنّاء يرى أبعد مما يراه البناءون، فيعرف أن شيخا عجوزا سيقيم في الخامس، وأن أرملة في الأربعين ستسكن الرابع، فيعمد وهو يقيم درج  العمارة إلى أن يأتي إلى النقطة التي يمكن أن يرى فيها الشيخ الأرملة في نزوله وهي تخرج القمامة، وعند هذه النقطة بالذات ينزع درجة بين درجتين. هكذا يجتمع على الشيخ ما يبهت عينيه، وإحساسه بأن قدميه تهويان، وأنه لم تعد أرض حيثما كان من قبل يأمن وجودها.

مثل هذه السقطة بالضبط هي التي تفعلها بقارئ خفيف القلب مثلي هذه المساحةُ المفقودةُ بين السطر الثاني والثالث. أم هي المساحة المضافة؟

اخشَ الرب

الذي لا وجود له

 

في قلبك.

هل هذا لأنه لاعب ماهر؟ نعم. شاعر عرف كيف يكتب الشعر، عرف معنى الكلمات والفراغات بين الكلمات، واندمجت معرفته هذه في حبر قلمه، فهو لا يستدعي تقنية، بل يكتب، فتأتي الكتابة منضبطة. يا إلهي! ما الذي كنت لأقوله لو أنني أقرأ هذه القصيدة بلغته، لا بلغتي أنا، من بعد لغة مترجمته إلى الإنجليزية، إيوا كروسييل.

لكن هذه ليست قصيدة لاعب ماهر وحسب. هذه قصيدة مؤمن عظيم. ولعل قصائد مثل هذه القصيدة، هي التي جعلت قراء من مثل طينة القارئ الحالي، لكن في زمن غير هذا الزمن، يتصورون أن الشعر لا يأتي الشعراء من أنفسهم، بل يوحى به إليهم مثلما يتنزّل من السماء كلام إلهي على أنبياء ومرسلين.

تسلِّم هذه القصيدة بأن هناك ربا، وليس هذا ما تسلّم به أكثر القصائد الآن ومنذ فترة غير قليلة. ولكنها لا تسلّم به تسليم الكهنة والشيوخ. لا تسلم به رحمانا مطلق الرحمة، أو جبارا مرهوب الجبروت. إنما هي تسلِّم بك أنت. أنت الذي بطريقة ما تصنع ربك.

هنالك رب. موجود. هذا واضح من القصيدة. ورب جدير بأن تخشاه. هو إذن كأرباب الأديان، ولكن العلاقة مع هذا الرب هي التي قد تكون مختلفة عن كثير مما يقوله محترفو الكلام باسم هذا الرب أو ذاك، أو محتكروه.

لا أعرف لماذا يخطر لي أن من الممكن أيضا أن نستبدل بالرب في هذه القصيدة العدوَّ مثلا. لا أعرف لماذا يخطر لي أن العدو الوحيد الذي ينبغي أن نخشاه بحق هو الذي لا وجود له في قلوبنا، مهما تضاءل هذا الوجود. ربما لأن هذا هو العدو الوحيد القادر حقا على أن يحرمنا إنسانيتنا ويحيلنا ـ ولو في علاقتنا به وحده ـ إلى وحوش.

اخش فقط هذا العدو، وهذا الرب. أما العدو الذي لا تزال ترى أنه إنسان مثلك، والرب الذي ترى أنه فيك أنت بالذات، فلن تأتيك منه ضربة إلا التي تألفها،ألفة ضربات قلبك.

مقالات من نفس القسم