كرم الصباغ
هل يمكنني التحدث إليك في اللحظة الآنية؟! أدر وجهك، وانظر إليّ. آه! نسيت أن أخبرك أنك لن تراني؛ فأنا مجرد روح، فارقت جسدها. لقد حدث ذلك منذ زمن بعيد. أجدني أتعجب من هؤلاء، الذين يحاولون الحط من قدر الأرواح، التي مات عنها أصحابها؛ إنهم لا يتورعون عن إلصاق الشرور، والآثام بتلك الأرواح المسكينة طوال الوقت. أعرني سمعك قليلا. ما لي أراك لا تغادر مقعدك الرخامي، بينما لا يفارق ذلك الكتاب يديك؟! أراك تحملق منذ ساعة إلى تلك الصفحة بالذات، وعلى ما يبدو أنك لا ترغب في قلبها أبدا. ها هي الأشجار ترخي أغصانها الشائكة فوق رأسك، ألم تشعر بعد بمقدار ما نزفته جروحك من دماء، تخثرت منذ زمن بعيد فوق وجهك المربد؟! ألم تدرك بعد أن تلك الحديقة الصامتة صمت القبور، ليست المكان المناسب للاستجمام؟! هل أبصرت تلك الطيور الرمادية، التي حطت على الأغصان المثقلة بالشوك؟! أنصت؛ إنها تصدر أصواتا، تشبه الألحان الجنائزية، و من وقت إلى آخر تصدر نشازا، يصم الآذان.
(٢)
لدي سجل أبيض من أفعال مضيئة، قلما أقدمت روح تحررت من جسدها على الإتيان بها؛ فبالأمس فقط رأيت حقل شعير يقبع وحيدا وسط صحراء قاحلة، حقل شعير، أضناه الظمأ، وأوشك أن يهلك؛ فما كان مني إلا أن تشكلت على هيئة غيمة، ورحت أهطل بغزارة فوق تلك البقعة، التي حاصرها الموت من كل جانب. هطلت بغزارة، حتى ارتوت العيدان الظامئة. هطلت بغزارة لدرجة أن أصحاب الحقل، راحوا يطلقون الأعيرة النارية من فرط الفرح.
وأول أمس تنازلت عن كوني روحا تجيد التحليق، وتحولت إلى ساقين صناعيتين، و ألقيت نفسي أمام باب جندي قعيد، بترت ساقاه في حرب ضروس، جندي لا يغادر كرسيه المتحرك، ومن وقت إلى آخر تتحسس يداه المرتعشتان عشرات الأوسمة، التي تزين صدره، وسرعان ما يزفر من فرط الحسرة والسأم؛ إذ كان يعاني من عزلة تامة وآلام مبرحة، بعد أن نساه الناس تماما؛ فما عاد أحد يطرق بابه ليلا أو نهارا. أود أن تعلم أن ذلك الجندي بعد أن شد أربطة ساقيه الجديدتين، لم يقدم على زيارة أي من الأحياء، بل اتجه إلى المقابر بعينين دامعتين، و من ساعتها و هو يرابط بجوار قبر زوجته، التي ماتت في ليلة مطيرة؛ إثر أزمة قلبية مفاجئة. كانت تحتاج ساعتها إلى دواء، مجرد أقراص، عجز الجندي عن جلبها؛ إذ حالت قدماه المبتورتان بينه و بين ذلك. ليلتها حبا على بطنه، حتى وصل إلى الباب، و بعد أن فتحه، راح يستغيث بالجيران، لكن أحدا لم يجبه؛ إذ أصم قصف الريح، ونقرات المطر، وأصوات الرعد آذانهم؛ فلم يسمعوا توسلاته. ذهب الجندي بلهفة إلى قبر زوجته، و لك أن تصدق أنه منذ ذلك الحين، إلى وقتنا هذا لم يفرغ من سرد حكايات الحرب، التي لا تنضب؛ ما إن ينتهي من سرد حكاية، حتى يدفعه الحماس إلى رواية حكاية أخرى، بينما تصغي زوجته في قبرها إليه، وتأنس به، لكنها- بطبيعة الحال- لا تنطق ببنت شفه، وتلوذ بصمتها العميق، مثلما تفعل أنت.
منذ قرابة الشهر، وبينما أنا أطوف بأنحاء الأرض، اقتربت من منطقة، شطرتها الأسلاك الشائكة إلى نصفين، عرفت بعد ذلك أنها منطقة حدودية، و عرفت أن أولئك الشعث الغبر ذوي الأسمال البالية، ما هم إلا لاجئون أجبرتهم الحرب على ترك ديارهم، والنزوح بعيدا، حتى قادتهم أقدامهم المنهكة إلى تلك المنطقة الوعرة؛ فاعترض طريقهم حراس متجهمون، مدججون بالأسلحة. كانت ندف الثلج تتساقط دونما توقف فوق رءوس الفريقين، لا تفرق بين حارس، و لاجئ، و كان الأطفال يتضورون جوعا، و كانوا يرفعون أصواتهم بالبكاء، و كانت الأمهات يقفن عاجزات، في حين طأطأ الرجال رءوسهم، وبدوا كتماثيل جامدة، يكبلها العجز؛ فما كان مني إلا أن تحولت على الفور إلى أرغفة خبز ساخنة، التهمها الأطفال بنهم.
هل تسمعني جيدا؟! لقد صرت روحا بارعة في التشكل والتحول؛ فامتلكت وحدي ذلك السجل المضيء، الذي يشعرني بشيء من الرضا، و ما كان ذلك ليحدث لولا تحرري من أغلال صاحبي، و مفارقتي قمقمه الضيق.
(٣)
أما زلت تحدق في تلك الصفحة البيضاء الفارغة بعينين مشبعتين بالملح؟! ألا يزال جسدك المحنط صامدا يأبى التحلل؛ أملا في عودتي إليه مرة أخرى؟! قد آن لي أن أغادر حديقتك الساكنة، وأن أذوب تماما في الرحاب الشاسعة، وقد آن لك أن تذروك الرياح كحفنة تراب بائسة.