روح الله الفضل حبش ومكامن الخير والشر في روح الإنسان

فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

د. أشرف الصباغ

تقول مارينا لروح الله: “مش لوحدك، كل قلب عنده علة، كل ستر مداري عيب، كل بيت جواه حكايته”.

مارينا الطبيبة التي من المؤكد أنها أقسمت يمين “ابقراط” تفكك لنا جوهر هذا اليمين في عبارات شعبية دارجة، وكأنها تدعونا إلى مراجعة إنسانيتنا، وإعادة النظر في جدول أولويات أخلاقنا وأخلاقياتنا، بينما نتحول جميعًا- تقريبًا- إلى مرايا مشوهة تمعن في تشويه الآخرين بلا رحمة أو شفقة، وكأن ما يجري هو من طبائع الأمور.

إن رواية “روح الله الفضل حبش”، للكاتب مجدي نصار، تعتبر رحلة تأمل للنفس البشرية عموما، وتأمل للنفس والآخرين أيضا، ومحاولة لفهم العالم، عبر أدوات مختلفة، ومرايا متنوعة، وعيون تعكس قبحها هي نفسها وقبح أصحابها، بل وقبح أرواحهم قبل أن تعكس قبح العالم وقبح الآخر.

هذه الرواية تطرح ليس فقط أسئلة “أخلاقية”، منها ما هو مجرد تماما، ومنها ما هو فلسفي، ومنها ما هو إنساني. بينما السؤال المتشظي المتواري تمامًا خلف السرد والأسئلة الأخرى: “ما هو الجمال، وما هو الحظ، وما هو القبول؟”، ما يفتح بدوره فضاءات إضافية لأسئلة مضادة تمامًا من قبيل: “ما هو القبح، وما هي اللعنة، وما هو النفور؟”.

نحن أمام رحلة إنسانية ودفقة شعورية وروحية تدفع بالإنسان إلى تساؤلات فلسفية أخرى عن “قبول الآخر المختلف، أيًا كان هذا الاختلاف، ومدى استعداد الإنسان وتسلحه بالعقل والمشاعر الإنسانية الطبيعية لتقبل الآخر. وهذا هو تحديدا ما ترجمته مارينا في أربع عشرة كلمة تلخص جانبا فظيعا ووجهًا بشعًا لأرواحنا، ونظرتنا لبعضنا البعض. ولكن ماذا يمكن أن يحدث إذا قرر “الآخر المرفوض والمهمش” أن يقلب المعادلة في شكل انتقامات صغيرة؟ ماذا لو غامر الآخر، الذي تم إقصاؤه، أن يفضح الجميع ويكشف أسرارهم- سوءاتهم ونقائصهم، يعاملهم بالمثل؟

في ظل هذه الغابة الرمادية المعتمة يمكن أن يتحول الجميع إلى وحوش. لكن وحوش الغابات متآلفة مع الطبيعة ومع الغرائز، سواء غريزة الدفاع عن النفس، أو الغريزة الجنسية، أو غرائز سد الاحتياجات الأخرى. الطبيعة ذكية وعاقلة حتى عندما تقرر أن تنفث براكينها أو تحرك زلازلها وتسقط أمطارها وجليدها، أو تعدِّل موازين القوى بين عناصرها. والإنسان هو أحد عناصر الطبيعة، لكنه الأردأ والأكثر جنونًا وقسوة غير مبررة، والأشد فظاظة والأقدر على ارتداء الأقنعة. وربما يكون الأكثر إيذاء لنفسه وللآخرين. ماذا لو حدث وقررت روح الله الفضل حبش أن تجرب حظها من الانتقام- الانتقام من هؤلاء القساة المتعجرفين المنافقين؟ لقد فعلت وظهرت النتائج المفزعة، التي أفزعتها هي شخصيا، وجعلتها تطرح أسئلة كثيرة مخجلة على نفسها.

في هذه الرواية حشد هائل من الأصوات، بما في ذلك الشمس والقمر- التي قررت أن تروي لنا في تناغم شاعري، وربما أيضا شعري، عن مأساة روح الله، التي هي في الحقيقة، مأساة الإنسان وسجنه الذي لا يعرف أحد حتى الآن من الذي سجنه فيه. لكن أحداث الرواية، وتعدد شخوصها، وتباين حياة كل شخص، وكل زوجين، وكل أسرة، وأسرارهم، وسوءاتهم، وما يخفونه من أفعال تثير الخجل أحيانا، وتثير الشفقة في أحيان أخرى، كل ذلك قد يشي لنا بأسباب المحنة: محنة العقل، ومحنة المشاعر والأحاسيس، ومحنة وجودهم.

في الفصول الأولى، وبعد أن يدخلنا الكاتب مجدي نصار إلى العالم النفسي لروح الله الفضل حبش، تلك الشخصية الاستثنائية بمشاكلها ونظرتها للعالم ولِمَا، ولِمَن، حولها، يبدأ في سرد رشيق مغزول بعناية فائقة، باستعراض مشاهد من حياة شخصيات كثيرة تحيط بروح الله. وعلى مدى عدة فصول، يحكي عبر أدواته عن حياة نساء ورجال، كاشفًا بسلاسة ونعومة عن عالمهم النفسي وخيالاتهم الجنسية، وأحلامهم التي لا يخجلون من تجسيدها بعيدا عن التزاماتهم الدينية والأخلاقية. هنا يضعنا الكاتب في قلب عالم تشابك، وأحداث يختلك فيها الجد بالكوميديا أحيانا، والنزق بالتبريرات المثيرة للضحك، عبر حشد هائل من العبارات خفيفة الظل، والحوارات المقتضبة “الدالة” التي تحمل خطابًا اجتماعيا واعيا ولو حتى بالمصالح الشخصية الصغيرة، التي قد تتجسد في نظرة متعة، أو التخلص من طاقة جنسية عابرة، فضلًا عن تفسيرات هادئة وناعمة للحب والرغبة والشبق والغواية والإغراء في أجمل صورها الشعبية وخفة ظلها، ووعي المرأة بجسدها وباحتياجاته الطبيعية الملحة.

تتشابك خطوط السرد، وباقتضاب مثير تتكشف لنا مفارقات تعكس مشاكل الناس في دور العبادة، والتناقض في ممارسة الطقوس والمواعظ والتركيز على المناطق الآمنة بدلًا من مناقشة ما يجري في الواقع، بينما الدكتور رشاد، والد هاني، يعيش مشهدًا يكاد يكون مسارا موازيا لما يجري في المسجد. فالكاتب والأستاذ الجامعي لديه قضية أخرى على مستوى أعلى، حيث يواجه تناقضا اجتماعيًا وسياسيًا آخر يهدده، ويهدد حياة أسرته. هنا تتسع الرواية لتتجاوز الشخصي والنفسي عند روح الله الفضل حبش، لتفتح لنا فضاءً آخر خارج منطقة التداعيات والمونولوجات النفسية. هذه المفارقات والتناقضات والتفاصيل الاجتماعية والسياسية تمهد بسلاسة إلى “أنسنة الألم”، تسحبه من الذاتي والخاص إلى أرضية الواقع والمجتمع، وتمنح العالم الذاتي والنفسي الخاص لروح الله الفضل حبش بعدًا وعمقًا إنسانيين واجتماعيين، ما يمنح هذا العالم بدوره قيمة مادية ملموسة ومحسوسة، تلعب دورا مهما في مصير روح الله وحظها العاثر. وتفسر لنا ما قالته الشمس في الفصل الرابع عن الحزن والفرح (ص 68).

وعلى خلفية أحداث يناير 2011 تتشابك الخطوط والمسارات، عبر رؤى روح الله. وحتى إذا كانت لعبة الدين والجماعات الإرهابية، وشبهة قتل هاتي لأسباب دينية، ولأسباب تتعلق بموقف والده في طرح آراء ضد التلاعب بالدين، فإنها قد وردت كغطاء لتصرفات الإنسان ودوافعه، سواء كان الحقد أو الغيرة. إن الأحداث والمسارات تتخذ شكلًا “خياليًا” مفارقا للواقع ودالًا عليه في الوقت نفسه. فلا حيلة ولا قدرة لمواجهة هذا الواقع إلا باللجوء إلى الخيال والرؤى والمعجزات والكرامات. والفصول التي جاءت بعد مقتل هاني وضياع حلم روح الله الفضل حبش بالحب والسعادة، تطرح الكثير من التساؤلات حول مصير الإنسان وما يفعله بنفسه وبالآخرين، وحول الطاقة التي يحملها في أعمق أعماق روحه، سواء كان يدرك خطورتها كمحرك للشر والخير، أو لا يعرف قدرتها على توجيه الدوافع التي تحركه لارتكاب الشرور والجرائم وتوجيه الأذى.

الرواية تضم شخصيات غنية ومغرية بالتحليل، مثل صباح ومديحة ويوسف وأميرة، تحتاج إلى المزيد من البحث والإضاءة، لأنها شخصيات أكثر واقعية وحيوية حتى من شخصية روح الله نفسها. إن مونولوجات روح الله الفضل حبش، والتوازي بين وجود الشمس والقمر على صدرها وظهرها، وبين وجودهما في الفضاء، أو السماء، يصنع حالة تخييل ملهمة من جهة، ويمنح الأفكار مساحات أوسع للحركة والتفاعل. واختفاء روح الله في نهاية الرواية لا يضع نقطة النهاية التقليدية، بقدر ما يفتح أبوابًا جديدة للمزيد من الأسئلة حول هذا الكائن الغامض- الإنسان وتصرفاته ودوافعه، ومكامن الشر والخير فيه.

مقالات من نفس القسم