(باب لزج متواطئ، يتحرك سريعاً، ثم يرتد بطيئاً كأنه يشارك بدوره في المكيدة، يتلقاهم حوض من المرمر الأبيض تحت أضواء كامدة تعلوه مرآة عريضة، تعكس بابين متجاورين، واحد للنساء وواحد للرجال بالطبع، باب الرجال في الغالب غير مقفل، موارب فحسب، ينظر عبره الواحد إلى الواحدة، يرقبها، يترقبها حين تهم بالخروج، يراها في المرآة المتواطئة أيضاً، في الواقع يرمي أذنه من قبل، يتسمع تكته بعد أن أقفلت الواحدة تكتها).
الإيماء يبدأ إذن بالارتداد البطيء لباب الحمام .. بالمواربة .. ثم يمتد طوال الرواية كنظام مجازي للغة .. الاستعارات المواربة التي ترقب وتراقب .. اللغة التي لا تمرر بل تتواطأ مع التفاصيل .. التي تتوحد مع الظلام السري للشخصيات فتبنيه بالكيفية اللائقة .. تخلق الليل المخبوء للعالم وفقاً لطبيعة كوابيسه.
(الواحد والواحدة اللذان في الخلف ينتظران دورهما في الاغتسال كانا قد أنهيا المهمة، تبادلا أرقام التليفونات سريعاً، أخذ رقمها في الغالب، وربما أخذت رقمه أحياناً، قد لا يعجبها من منظره، من بدنه المترهل غير المشدود أو وسامته الغائبة، لكنه في مستقره داخل الشريحة وسط غابة الأرقام، والاحتياط أحياناً واجب، فمن تعافه اليوم قد تحتاجه غداً).
إيماءات العرض والطلب قبل عقد صفقات الجنس داخل الحمام .. تواطؤ المجاز مع الأحلام المتوارية التي ترقب وتراقب هذه الصفقات .. اللغة التي تخبرك دائماً أن هناك الكثير جدا مما لا تعرفه عن ما تحكي عنه .. أن هناك كلمات ناقصة أو شيء غامض لا يريد الاكتمال .. في الحوارات المتبادلة بين الشخصيات .. في أفكارها عن نفسها وعن الآخرين .. في أمنياتها .. كأنك تستمع طوال الوقت لمحاولاتهم المهزومة لتأكيد عدم قدرتهم على إدراك كيف يصفون أحلامهم .. عدم قدرتهم على التيقن من أن هذه الأحلام تخصهم في الأساس.
(ـ تصور، المجاهدة الثانية عشرة كانت تعلق في غرفتها وفوق سريرها مباشرة من قبل أن نشتري الماخور ـ صورة ياسر عرفات.
ـ لم نكن نعرف.
يلتفت ناحيتك صامتاً، يحملق فيك بعينين لوزيتين صافيتين تحكيان وحدهما:
ـ اشترينا سوق المومسات بثمن خمس كيلوات من الهيروين دبرها أحد مناضلي الثورة المتحصنين في لبنان، تصور!
استلمت الكمية في بون، وباعها العميل المزدوج في برلين، وبجزء من ثمنها اشتريت الماخور، بعد ذلك اشتريت مطعماً ونادياً للرقص، نصرف من إيراداتها على العمليات في أوروبا).
تتجاوز رواية (باب الليل) ما يُطلق عليه دائماً (هموم الواقع العربي المتدهور) .. هي حتى تتخطى الطغيان الجنسي كسلطة سردية .. يمكن تصور أن الصراع الجوهري في (باب الليل) ينطلق من خيبات السياسة ومكائد الشبق، ولكن (وحيد الطويلة) سيمتد به إلى ما هو أبعد .. سيجعنا نتأمل ـ بالتواطؤ اللازم ـ كيف يجاهد كل فرد داخل الرواية كي يحقق حكاية جديدة خارج جسده باستعمال أجساد الآخرين .. قصة مغايرة لذاته، لا تستبعد تاريخه الخاص، ولكنها تستطيع إنقاذه بأن تُعيد إيجاده في حياة مختلفة .. حضور مبرر، يحرره، وفي نفس الوقت ينجح في تثبيته بأي شكل داخل الزمن .. داخل أبدية ما .. الوصول إلى السماء عبر المقهى متفادياً الموت .. التحوّل إلى مطلق بديهي، ناجم عن معالجة كافة التجارب التي تم غض الطرف عنها، وإغراقها بطيبة خاطر في ظلال العدم بتعبير (غاستون باشلار)”1″ .. كأنه محو ضمني لهذه التجارب .. استرداد ميلاد لم يتم .. انتحار آمن .. انتقام يائس باللذة.
(إن كنت سعيد الحظ قد تصادف أبو شندي في المقهى بالليل بوجه حليق، شكله ابن ليل أنيق، النبل يكاد ينط منه، وإن صادفته نهاراً فستجد الضيق يطفح من خلقته بوجه فائض عن ملامحه بالهزيمة. يغيب أياماً، ربما نفدت نقوده، ربما يصعد إلى الشاطىء الذي أبحرت من شواطئه سفن الفلسطينيين العائدة إلى رام الله ليتأكد أن الشاطىء مازال في مكانه).
كأن تحقيق الحكاية الجديدة خارج الجسد يقتضي دخول قصص الآخرين إليه بواسطة أجسادهم .. الحكايات التي ينبغي أن ترمم فراغاته، وتسد ثغراته حتى تكتمل الحياة المفقودة .. الفضاءات المضادة التي تولد في رؤوس البشر أو على الأصح في فجوات كلماتهم وفي كثافة حكاياتهم كما قال (ميشيل فوكو) في محاضرته الإذاعية (أماكن أخرى) عام 1966 “2” .. يهمني هنا اقتباس أحد الأمثلة التي ذكرها (فوكو) في هذه المحاضرة:
(السرير الكبير للوالدين. إنه فوق هذا السرير الرحب حيث نكتشف المحيط، ما دام إنه يمكننا أن نسبح بين أغطيته؛ ثم أن هذا السرير الرحب بعد ذلك هو أيضاً السماء ما دام أننا نستطيع أن نهتز فوق نوابضه؛ وهو أيضاً الغابة، ما دمنا نختبىء فيه؛ وهو الليل، ما دمنا نغدو أشباحاً بين أغطيته؛ وهو المتعة، أخيراً، ما دام أننا سنعاقب مع عودة الوالدين إلى المنزل).
لهذا يدخل الجميع في الرواية عبر(الأبواب) ـ أبواب الذاكرة والمقاهي والوجوه والشوارع والحمامات واللغة والأرواح والبيوت والأجساد ـ لتشييد الفضاءات المضادة .. تكشف الإيماءات ـ كلغة للاغتراب ـ عن تحوّل هذه الأبواب إلى ممرات للإنفصال .. ترسخ حقيقتها العدائية كأماكن مواربة .. مساحات انعزالية بين الشخصيات وبعضها، وبين الشخصيات وماضيها رغم الظواهر التي تبدو مناقضة.
(هل رأيت يوماً وجه رجل عاشق؟ هل اكتشفت يوماً كيف تتبدل ملامحك فجأة في المرآة وفي أعين الآخرين؟ كيف تشعر أنك أصبحت أكثر الرجال وسامة على وجه الأرض وأكثرهم امتلاءً وزهواً؟
قلت: هل تؤلمك قدماك؟
ـ لم أمش بعد كثيراً
ـ لقد جريت أمامي طويلاً في حلم الأمس.
أخذتني، أخذتها وذبنا. أصبحنا نفساً واحدة).
تبدو شخصيات (باب الليل) كأنها تتحرك رغماً عن إرادة باطنية مجهولة، غير مستوعبة .. متنافرة مع ما تتجه إليه الأجساد دائماً .. حركة مستقلة مجبرة على الحدوث، حيث كل خطوة تعمّق من حدة التنافر مع الرغبة المطموسة في الداخل، وهذا ما يفسر سطوة (الإيماء) في الرواية .. حتى الجنس ذاته يظل في واقعه غير المعلن إيماءات حتمية بفضل ما يحكمه من عماء .. المواربة النفسية / الاستعارية للغة كضامن قهري للدخول والخروج من أبواب المقاهي والحمامات .. من فتحات الأجساد .. من الأوطان .. من الحياة والموت .. كأن ما كوّن ذلك الليل حقاً، والذي تقود كل الأبواب إليه هي جميع الحكايات المغايرة التي لم تتحقق، والأبدية التي لم توجد، والمطلق الذي لم يتحوّل إليه أحد .. كأن رواية (باب الليل) هي الفضاء المضاد الذي تكفل (وحيد الطويلة) بخلقه من روؤس البشر، ومن فجوات كلماتهم، وكثافة حكاياتهم.
….
1ـ (جدلية الزمن) / غاستون باشلار ـ ترجمة: خليل أحمد خليل / المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر والتوزيع 1992.
2ـ (الجسد الطوباوي، أماكن أخرى) / ميشيل فوكو ـ ترجمة: محمد العرابي / منشورات الانتهاكات ـ العدد السادس 2016.