د. أحمد فرحات
تعد رواية “الأقدام السوداء” للروائي محمد فايز حجازي -ابن السيدة زينب الحي الشعبي الخالد- رواية واقعية استلهمت التاريخ واليوميات والتقارير في إطار سيرة ذاتية غير معلنة.
إن كتابة اليوميات بصيغة التقارير اليومية والأحداث الواقعية قد يرصد فيها الروائي إيقاعات الحياة في جميع تفاصيلها بدءا من أحداث تاريخية قديمة تعود إلى زمن بعيد حول مدينة من المدن أو شخصية تاريخية معروفة تضفي على الأحداث المعاصرة مزيدا من الضوء مرورا بالمهمل وغير الضروري، عاكسا هيمنة التاريخ والسيرة الذاتية وشعبويتهما، والغاية المنشودة من استدعاء التاريخ ربط الحاضر بالمستقبل، وفهم الحركة الإنسانية للشعوب في حاضرها ومستقبلها.
كاد أن ينزلق الروائي محمد فايز حجازي إلى مقدمة تاريخية طويلة تنفر القارئ في الاستمرار والتفاعل ، وهذه المقدمة التاريخية هي إحدى المنزلقات في استعمال طريقة كتابة اليوميات وعلى الروائي أن يفطن إليها، وإلا فإن إيقاعات سرده ستنفرط حبكتها ومن ثم يفقد عمله حرارته وتغدو روايته عبارة عن استقصاءات يومية في محل العمل شأنها شأن التقارير الجافة الخالية من حرارة السرد وجماله، ويغدو مثله مثل الموظف يعمل في مكان مطالب فيه بأن يقدم تقريرا يوميا محدد الشخصيات والتوقيت وإنجاز مهام العمل الذي عليه أن ينجز تقريره اليومي غير آبه للمستجد ولا مهتم بالطارئ ولا عابئ باستبطانهما.
وعلى الرغم من ذلك، فان هناك روائيين اتخذوا من اليوميات بالصيغة التقريرية وسيلة تساعدهم في الكتابة عن أحداث ووقائع عاشوها ورصدوا دقائقها بكل ما رافقها من حكايات وقصص عاطفية، اعتمادا على الخلفية التاريخية التي بها تجنبوا الوقوع في مطب الجفاف والتقشف والإعادة والتكرار، فغدا سردهم لليوميات غير تقليدي؛ بل تكتنفه متغيرات تضفي على الأحداث جاذبية وتحقق لأداء الشخصيات درامية، وبما يجعل استجابة القراء فاعلية وإيجابية.
فمن هذه المتغيرت التي طرأت على الرواية خيوط الحب التي جمعت بين الجزائرية داليا بن بركة المعيدة بجامعة بسكرة والمصري حسن المهندس الذي سافر للجزائر للعمل في بئر بترول التابع لشركة غربية عالمية تتخكم في النفط على مستوى العالم. ومنذ نشوء هذه العلاقة بينهما بدأ المتلقي ينجذب إلى العمل بشغف.
ومنها أيضا لغة الكاتب التي تجمع بين الشعر والسرد في مواقف تتبادل العاطفة بينهما، ولغة التقارير الرسمية الطويلة، بمصطلحات هندسية عملية بحتة. مردوفة بصور توضيحية علمية خالصة، وكان الأجدى والأنجع لو أنها صور لرجل وامرأة يرمزان لحسن وداليا، ولا عني صورا حقيقية بل رمزية. لأن الغالب على الصور في الرواية الصور لحقيقية سواء للشخصيات أو الرسومات.
ومنها أيضا ثنيائة اللغة العربية تارة والأجنبية تارة أخرى، وأحيانا اللهجة المصرية والجزائرية للدرجة التي فصل فيها القول في صورة صفحات كاملة للتعريف باللهجة الجزائرية ص 128 وص 139 مثل:
وشراك: كيف حالك
يخمم: يفكر
دورك: الآن
بيا سور: بالطبع
شانتي: حفارة.
شامبرا: غرفة
الدرك: الشرطة
حتى بدت الرواية استعراضا لغويا متنوعا بين العربية والإنجليزية والإيطالية، وأحيانا اللغة (العرنسية) كلمة عربية مع كلمة فرنسية معا. وأحيانا يأتي بالمصطلح ثم يترجمه نحو قوله: يستعدون الآن لرفع “الدريك”(برج الحفر)..ص93.
والشيء بالشيء يذكر ففي غلاف الرواية عنوان عريض”الأقدام السوداء” ثم يترجمه بالإنجليزية في صفحة الغلاف، ويفسر ذلك في ص 123 ويقول: الأقدام السوداء أولئك الأوربيون الذين ولدوا وعاشوا في الجزائر إبان الاحتلال الفرنسي، ويدعون أن الجزائر إرث للجميع، وأنهم يمتلكون فيها كما نمتلك نحن، ويطالبون بالعودة إليها وهم من فرنسا وإيطاليا وأسبانيا ومن أوربا لشرقيةأيضا، وأعدادهم هائلة، تفوق المليون في فرنسا فقط، ص 123. ولكنه لم يذكر لنا هل هم من آباء فرنسيين وأمهاب عرب، أم آباء عرب ونساء أجنبيات؟ مثل ما حدث في التاريخ القديم من مصطلح المولدين في الأندلس.
ومن هذه المتغيرات أيضا الطول النسبي للحوار بين طرفين، مما يرهق القارئ ويشتت ذهنه. طول الحوار غير الطبيعي يلزم الكاتب بتبني نبرة الخطابة والوعظ أحيانا.
ومنها أيضا الشكل الكتابي للرواية عامة، وللصفحات من جهة أخرى. فقد قسم حجازي روايته إلى فصول بأسماء شخصياته أو بأسماء المدن الكبرى أوالقارات مثل: الولايات المتحدة الأمريكية، ولاية بنسلفانيا، منطقة تيتوسفيل، مصحوبة بتاريخ قديم، يعود إلى 29 مارس 1859م، ثم يتلو ذلك فصولا على رأس كل فصل رقم. وكذا في أسماء الشخصيات داليا بن بركة، أو حسن عبد الكريم، وهكذا.
أما الشكل الكتابي للصفحات فهي صفحات محشوة كتابة دون فواصل بيضاء يمكن أن تريح القارئ. كتابة الرواية مهمة شاقة ينبغي أن يراعي فيها الكاتب البعد النفسي للقارئ خشية الوقوع في ملل أو رتابة.
زاوج الروائي “حجازي” بين الرؤية من الخلف والرؤية المصاحبة في بنية العمل الروائي، لأنه يدرك إذا هيمن الرواي العليم على العمل خرج من بين يديه روح السرد وجمالياته، وبدت سواءت الراوي العليم للقارئ، وتنبأ بالأحداث قبل وقوعها، ومن ثم لجأ إلى الراوي المشارك ليستبطن الشخصية من الداخل. ولذلك جاءت لرؤية السردية جامعة بين الرؤية من الخلف والرؤية المصاحبة.
كنت أقرأ “الأقدام السوداء”وأخشى ما أخشاه على الروائي أن يفلت منه القارئ ويتشتت بين الأحداث الزمنية الرامية في عمق التاريخ فتضيع منه خيوط السرد. وقد أدرك حجازي هذا فبدأ يلقم القارئ الخيط الأبرز في الرواية بعد ما يزيد عن مائة صفحة من سرد أحداث تاريخية لمصر والجزائر تنم عن علاقة قوية بين الشعبين، حتى إنه تحدث عن مباراة كرة القدم في تصفيات كأس العالم وصدى ذلك إعلاميا وشعبويا.
ومن هنا فقد خشيت على الرواية والعمل برمته من الانبهار بالاسترسال في غير موضع، وبمناسبة وغير مناسبة. وهو ما يجعل كتابة اليوميات غير مقبولة عند كثيرين من الكتاب الروائيين، خوفا من أن تسقط الرواية في مهوى التقريرية فتعيد استنساخ الواقع كما هو، أي أنها تنقل ولا تتخيل وتحاكي التفاصيل محاكاة حرفية.
أنا على ثقة بأن الروائي محمد فايز حجازي وهو يخطو خطواته الأولى في صنع الرواية بأنه سيكون روائيا له شأن كبير في قابل الأيام لامتلاكه عناصر السرد الروائي بحرفية عالية وإتقان مميز لمهارة اللغة السردية فهو يمتلك تنوعا لافتا بين لغة السرد المتتابع ولغة الشعر الفضفاضة المليئة بالشاعرية والشغف..
تنقل الروائي بين السرد والحوار بوعي وذكاء، فكان يصف المشاهد بكاميرا منبعثة من روحه فألقت على الكائنات روحا حية خلاقة، وعلى الحوار خفة ورشاقة وفاعلية متقدمة، ومما يؤخذ على الحوار أنه أحيانا يطول منه بشكل لافت ربما تجاوز الصفحة أو أكثر.
ومن حيث اللغة العاطفية فقد أجاد الروائي صنع حوار داخلي ينم عن شاعرية مفرطة ولو لم يكن ساردا لكان شاعرا بامتياز فقال:
- داليا ، أنا لست في حاجة إلى تأكيد على أن روحي هي من تسكن جسدك ، وأعلم ما في نفسك وتعلمين ما في نفسي، وأعلم يقينا أنك تشعرين بحالي وتصدقين ..
- حسن، ربما هي المرة الأولى التي أقولها لك صراحة ، أنا أحبك واشعر بأمان لا حدود له في جوارك أقول هذا ولست خجولة من قولي فهي أامور الروح التي لا يعلمها إلا الله ..ص 211.
……………..
*ناقد أدبي