رواية “أطياف” لوفاء داري: سردُ ذاكرةِ الوجع الفلسطيني

فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

 مهيب البرغوثي

“أطياف” رواية فلسطينية صدرت حديثًا عن “دار الرعاة ومطبعة أبو خليل للطباعة والنشر” في رام الله، وتقع في 218 صفحة. الكاتبة وفاء داري، ابنة القدس، التي تقدم عملًا أدبيًا ينتمي إلى ما يُعرف بأدب ما بعد النكبة، الذي يتسم بعدة سمات تمثل الرواية جزءًا مهمًا من محاوره.

وأنت تقرأ الصفحات الأولى، تلاحظ “فلاش باك” لرسالة غامضة من شخص مجهول تعيد الحياة من بدايتها، فتشعر أن الكلمات تتجسد، وتنبثق الشخصيات لتحاورك وتحاورها، بل تقف في وجهك وتصبح جزءًا من الحوار.

الحنين إلى الوطن والعودة

الحنين يظهر في الرواية كموضوع محوري، حيث تصبح الأرض، والابن، والأصدقاء، أحلامًا دائمة. كما تعكس الرواية حرصًا على الحفاظ على الهوية، رغم قسوة المجتمع ومحاولات الاحتلال طمس معالم الهوية الوطنية، عبر تناول موضوعات مثل: اللغة، والعادات، والزيّ، والمكان، بوصفها عناصر مقاومة للنسيان.

تركز معظم روايات الأدب الفلسطيني ما بعد نكبة 1948 على القلق الدائم من فقدان الهوية، كوجودٍ ولغةٍ تناضل من أجل البقاء. وتظهر في النصوص نزعة تأملية في الهوية، والمكان، والزمن، والانتماء.

تميل الكاتبة منذ البداية إلى توثيق الأحداث والوقائع السياسية الكبرى: النكبة، النكسة، الاجتياحات، الحصار، الصراع الاجتماعي والسياسي، مرورًا بمحطات من حياتها الخاصة كأيام الدراسة والنشاط الطلابي.

تحوّل في وظيفة الأدب

لم يعد الأدب وسيلةً للتعبير الجمالي فقط، بل أصبح أيضًا أداةً للمقاومة، والتوثيق، والدفاع عن الحق. ويظهر ما يُعرف بـ”المثقف المقاوم”، الذي يرى في الكتابة موقفًا سياسيًّا وأخلاقيًّا.

ومع تشتّت الشعب الفلسطيني في الشتات، أصبح أدب ما بعد النكبة متنوعًا في لغاته ولهجاته وسياقاته، حتى صار يحمل هوية خاصة تُعرف باسم “أدب الأرض المحتلة”. كما أسهمت الكتابة في تقديم صورة مركبة للنكبة، تتضمن نظرة نسوية لما تعنيه الخسارة، والمنفى، والمقاومة.

الحنين في رواية “أطياف”

في هذا العمل، تنسج الكاتبة من خيوط الذاكرة، والحنين، والواقع المرير، لوحةً سردية تُصوّر فيها وجع الفلسطيني في وطنه وفي الشتات. تنتمي الرواية إلى تيار الواقعية الحديثة، وتمزج بين الشعرية العالية، والحس السياسي، والاجتماعي، والإنساني.

تتناول الرواية نضال الطلبة الفلسطينيين في الجامعات، وتحديدًا دور المرأة في النشاط الطلابي والعمل الصحفي الميداني، وتُبرز العقبات التي تواجه المرأة الفلسطينية في هذا السياق.

الفضاء المكاني والزماني

تدور أحداث الرواية في فضاءات متعددة، تبدأ من القدس، مسقط رأس البطلة، وتمتد إلى المنافي والأماكن التي تناثر فيها الفلسطينيون بفعل الاحتلال واللجوء. الزمن في الرواية غير خطّي، بل يعتمد على تداعي الذكريات، فيغدو الماضي حاضرًا، والحاضر مسكونًا بالأطياف.

تغوص الرواية في عمق النفس الإنسانية من خلال شخصيات متعددة، لكلٍّ منها حكايتها وصراعها الداخلي والخارجي. البطلة تمثل نموذج المرأة الفلسطينية التي تعيش على تماس دائم مع الحنين، والخسارة، والمقاومة.

أما “الأطياف”، فهي ليست فقط أرواح من رحلوا، بل رموز لأحداث ومراحل وأماكن اندثرت أو شُوّهت، لكنها لا تزال حيّة في الوجدان.

اللغة والأسلوب

تتميّز لغة وفاء داري بجمالياتها الشعرية وكثافتها الرمزية. فهي تستخدم لغة مشحونة بالعاطفة والصدق، تميل إلى التكثيف والتلميح، مما يمنح الرواية طابعًا تأمليًّا وفلسفيًّا. وفي كثير من المواضع، تنحرف اللغة إلى الشعر، وكأن الرواية قصيدة طويلة تتحدث عن الاغتراب، والحنين، والحب، والخسارة.

قضايا الرواية

  • الهوية والانتماء: كيف يحافظ الفلسطيني على هويته في ظل التهجير والمحو؟
  • المرأة الفلسطينية: حضور الأنثى في الرواية ليس هامشيًّا، بل جوهري، حيث تُمنح صوتًا قويًّا يعبر عن الأنوثة، والقوة، والخذلان أحيانًا.
  • الذاكرة الجماعية: الرواية مشروع استعادة للذاكرة، لا بوصفها استذكارًا فقط، بل كفعل مقاومة للحذف والتشويه.

خاتمة

رواية “أطياف” لوفاء داري ليست مجرد سرد لحكاية فلسطينية، بل هي تأريخ عاطفي وسياسي لفلسطين، من منظور إنساني، بلسان امرأة فلسطينية عاشت المعاناة والظلم، لا من الاحتلال فقط، بل من أقرب الناس إليها. فابنها، الذي منحته كل ما تملك من مال وبيت وزوجة، تعامل معها كمشروع تجاري، ثم طردها من بيتها ومدينتها التي تحب.

إنها شهادة وجدانية على ما حلّ بالشعب الفلسطيني، وفي الوقت ذاته، فعل أدبي يواجه النسيان بالصوت، والفقد بالكتابة، والمنفى بالحنين. هذا الحنين الذي كان، في زمن ما، سلاحًا للوطن.

هي رواية امرأة لم تعش وفق مقاييس “النجاح” السائدة من جاه ومال، بل تسلّحت بالكلمة. بدأت بالصحافة وانتهت بها. امرأة واجهت الهجر والحرمان من أقرب الناس إليها بالصمت والكتابة، فكان العقاب أقسى مما قد يحتمله إنسان.

لا أعرف كيف أنظر إلى هذه الحكاية.

أعلم أن ابنها “ورد” كان جاحدًا، ومارس أقسى أنواع العقوق، بعد أن نال كل شيء. لكنه لا يُمثّل الابن وحده، بل قد يُمثّل المجتمع نفسه، الذي قسا عليها وعذّبها.

قرأت الرواية حتى النهاية، وكانت الدموع في عيني.

كم من “أطياف” في بلادنا: متفانية، صابرة، مثابرة.
‎وكم من “ورد”، وهو لا يكون بالضرورة الابن وحده، بل قد يكون المجتمع نفسه الذي قسا عليها وعانت منه.

مقالات من نفس القسم