محمد جعفر
تعتبر رواية “رفيف الفراشة” آخر أعمال المبدع العراقي زهير كريم، وقد صدرت مطلع هذا العام عن دار العين المصرية في نحو 245 صفحة، وهي تدور في فلك ثلاث تيمات رئيسية تشكلت منها عوالمها (الحب والسياسة والخيال)، وواضح أن هذه التيمات هي نفسها التي يظل يحتكم إليها أغلب الروائيين العراقيين، فهناك دائما ما يحيل إلى الحروب (الحرب العراقية الإيرانية مثلا)، وإلى زمن الديكتاتورية بما فيها من قمع وسجون وملاحقات أمنية ومحاكمات سياسية؛ وإذ تظل المقاربات أحيانا نفسها، فإن بعض النصوص فاقت التوقعات، كما أن العديد من الأسماء العراقية قد حققت تفردها وتميزها على الساحة العربية والعالمية بما أتاحته لنا من أدب تجاوز الكليشيات الجاهزة التي اعتدناها، حتى عندما يتطلب الأمر الارتكاز على التيمات نفسها.
تبدأ الرواية بمدخل نكتشف فيه زيارة الكاتب نفسه، لمدينة طرابلس عام 2005، وفي أحد فنادقها يعثر على لفيفة (مخطوط) مع توكيل بالتصرف، وأما الرواية فهي القصة التي يقدمها الكاتب للقارئ انطلاقا مما عثر عليه، وفيها نجد قصة البطل كامل، أو سيرته، والتي هي في الأصل ثلاث سير ذُوِّبت في معين واحد، وشكلت لنا توليفة حملت عنوان رفيف الفراشة.
سيرة الحب:
يتعرف كامل على حنان التي دأبت على زيارتهم في بيتهم بصحبة والدتها، وتنشأ بينهما علاقة حب رغم الفوارق التي تجمعها، فارق السن بالإضافة إلى تعاطي حنان للسياسة التي يأنف منها كامل، وإلى جانب فوارق نكشفها لاحقا كقراء، كأن نرى حنان تتعصب لشاعر عراقي معين فيما يتحيز كامل لشاعر آخر.
ما حصل أنه في لحظة فارقة، تختفي حنان (هل تكون اعتقلت مجددا؟ هذا ما يدور في بال كامل)، هذا قبل أن يضطر كامل إلى الهجرة والهرب من العراق باتجاه طهران ثم إسلام أباد، ليستقر به المقام أخيرا بطرابلس في ليبيا، في رحلة امتدت أعواما طويلة. ورغم الفترة الزمنية الكبيرة نكتشف أن كلا البطلين لم يتخل عن حبه للآخر، ويبدو أن الحب ذلك النهر الخالد، يتجاوز في تعريفه لديهما الحاجة، وها هو يفرض نفسه كملاذ يمنح الحبيبين التعويض عن كل هزائمهما وخساراتهما، كما أنه بقي المزود الوحيد لهما بالأمل، وأما اللقاء حين يرد مجددا، فإنه أشبه بالعطية الفريدة التي طال انتظارها، وإنه إعادة البعث من جديد.
سيرة السياسة:
ما نكتشفه من خلال هذه الرواية، أن زهير اختار بطلا مغايرا، وبخلاف أغلب الروايات العراقية فإن كامل بطل الرواية لا علاقة له بالسياسة التي أكلت رؤوس جميع العراقيين، وإن لم يستطع الفكاك من ارتداداتها، وها هو يتورط فيها بشكل ما، عندما يجد نفسه مطالبا بتوزيع منشورات سياسية، ثم ملاحقا من طرف الأجهزة الأمنية. وأمام انسداد الأفق أمامه يضطر إلى الهرب عله يتحاشى القمع الذي ينتظره والحكم بالإعدام الذي قد ينتهي إليه مصيره. وخلال هجرته التي امتدت على مدى سنين طويلة، نكتشف كيف يخفت حضور العراق في وجدانه، وكمقابل نلاحظ كيف أن جذوة الحب وحدها ظلت متقدة.
وكأن السياسة قدر العراقيين جميعا، وحتى عندما يراهن زهير على بطل لا علاقة له بالعمل السياسي، فإن تبعاتها ستلاحقه بشكل فج، وسيوصم بأحد ذنوبها الكبيرة، ويعاني من تعسفها وويلاتها إلى أقصى حد ممكن. وأمام ذلك لا يبقيه طافيا سوى تعلقه بالهندسة وصناعة الماكيت، إلى جانب حبه لحنان، وإن بعض التصاميم التي دأب على صنعها حبا في الفن نفسه (وهذا بعيدا عن فكرة أنه كان طالبا في الجامعة ولم يكمل تخرجه بعد)، ظلت تنقذه لما يكون من دون عمل أو بحاجة إلى دعم مادي، ويحصل ذلك لما تلفت انتباه بعض المهندسين أو أصحاب الشركات، فيقتنونها منه بأسعار معقولة تمنحه طوق نجاة وبعض الاستقرار.
عالم الخيال:
إن هذا العمل هو أيضا رواية عن الخيال وقدرته على تشكيل وعينا ومدنا بالطاقة والبصيرة لتجاوز معضلات الحياة وما تضعنا فيه من مآزق. إنه النافذة المشرعة دائما، والتي تجدد هواء الواقع المر والعفن والمزري الذي نجد أنفسنا ضحية له.
وأول تماس لكامل مع الخيال كان من خلال علاقته بأمه، وعبر حكاياتها عن الخوارق والأنبياء يتعرف على أول القصص ويفتن بها، (قصة إبراهيم الذي يخرج سالما من النار، وإبراهيم جده الذي يشبهه في الوصف ما يستنفر خياله ويستفزه)، ثم تبدأ لاحقا علاقته بالكتب والقراءة والمعرفة في شغف لا يمكنه أن يخبو حتى في أحلك الظروف، وحتى عندما زج به في السجن بعد خطفه من إسلام أباد، وتقديمه عربون محبة من طرف جهاز المخابرات للحاكم في عيد ميلاده، وتوقعه لحكم بالإعدام، كان يجد ما يطالعه، مستعيدا قدرته على العيش في الخيال، وأبدا لم يكن الحال كمهرب أو كمنفذ، فالقراءة بمثابة الجنة على الأرض، وأما الخيال فوطن بديل.
والملاحظ على العموم أن الكاتب لا يتحمس لمبدأ كامو (الحياة عبث)؛ وإن لم يبتعد كثيرا عن هذا المعنى، فالحياة بنظره عبء ثقيل بالنسبة لكل الشخصيات التي تعترض كامل في طريقه (شخصيات الهامش التي كُتب هذا النص لأجلها)، على أنه لا يدخر جهدا في إخبارنا بأنه بوسع أبطاله المقاومة. وفي هذه الحالة، فإنه مثل غارسيا ماركيز في روايته الحب في زمن الكوليرا، يهمه أن يشرع لنا نافذة على الأمل، ونراه كيف يراهن على الحب فيظهره كمخلص، ولا عجب ومن هذا المنطلق أن يتجدد لقاء بطله كامل صدفة بحنان في مدينة طرابلس.
أخيرا يلتقي الحبيبان، وإن سريعا ولمدة لا يمكنها أن تتجاوز ثلاثة أيام، ويتم ذلك في فندق كانت تقيم فيه حنان في انتظار عودتها إلى العراق، ما يوحي بالآنية واللحظة، مع إمكانية الانفصال لاحقا، فكأن الديمومة لا تعني للكاتب كما لبطل الرواية الأمر الكثير، أو أن الحب نفسه في نظر كليهما ما هو إلا هذا التوق نفسه، والبحث المخلص عن الحبيب، وما هو إلا تلك اللحظة الآسرة التي تستحق أن تعاش رغم ما تتطلبه من تضحيات، كما أن الأمل وحده ما يمنح الوجود ماهيته سواء تحقق أم لم يتحقق أو هذا ما تؤكد عليه فصول الرواية الأخيرة.
وبرأيي أن جمالية التشبيك بين الخيوط الثلاثة، والتعامل معها عبر عركها في عجينة واحدة، وإعادة إنتاجها، لم تكن لتنجح، لولا رؤية الكاتب الفنية، واعتباره التجريب جزءا أساسيا من العملية الإبداعية، كما يتجلى ذلك بوضوح في اعتماده على فنيات الكتابة الحديثة، والاستفادة من خصائص القصة (فصول قصيرة، تكثيف، مشهدية، عنصر المفارقة)، مع إدراكه لإمكاناته، هذا إلى جانب الاستفادة من أدب أمريكا اللاتينية وعوالم الفنتازيا الساحرة وخبرة اكتسبها من حياته الشخصية الغنية بالتجارب (فالكاتب أيضا قد عانى من الهجرة والملاحقة واستقر بالمهجر، وهو يقيم حاليا في بروكسل عاصمة بلجيكا)، ناهيك عن الاحتكاك وما يتيحه من معرفة بحيوات الآخرين وبتفاصيل الأحداث والمعطيات بشكل مباشر وغني. كل ذلك مد العمل بروافد جديدة، وجعل منه نصا مختلفا له خصوصيته.
وفي الأخير لا يفوتني الإشارة إلى اللعبة الخطرة التي مارسها زهير على طول العمل، وكان يمكن لها أن تدمره وتنسف انسياب النص، ثم إن القارئ يلاحظ استدعاءه لمجموعة رهيبة من الكتاب والشعراء والفنانين والمسرحيين والفلاسفة، والعمل على استحضارهم فكريا وجسديا، ويبدو أن هندسة العمل بتلك السياقات زادت من تغذية الروح وتحقيق المتعة، فالتوليفة مضبوطة بإحكام، وليس فيها أي استثقال، كما أنها منحت النص بعدا جماليا آخر وأفقا أوسع، وجعلتنا كقراء نتعلق ببطل الرواية، وبقصة حبه، وبالجناحين اللذين ظل يمده بهما الخيال.