عبد الرحمن أقريش
تنام المدينة، تغرق في صمت ليلي مطبق ورهيب.
شمعة وحيدة تلقي هالة من ضوء خافت على المكان، يقوم الرجل من مكانه، يتأكد أن باب الغرفة مغلق بإحكام، ويعود إلى مجلسه، يفتح الصندوق الخشبي الضخم، ثم في حركات هادئة يستخرج محتواته ويضعها على المائدة، مذكرة بغلاف أسود، أقلام، محفظة تعج بالأوراق وقصاصات الجرائد، ثم مسدس (أسترا) إسباني الصنع، 19×9 مم، موديل 1940، بندقية قنص (بينيللي) الإيطالية، حديثة ونصف أوتوماتيكية، 70×12 مم، بنادق بارود مغربية، مزينة بنقوش وخواتم فضية، علب معدنية وأكياس تعج بذخائر مختلفة الأشكال والأحجام، رصاص، بارود أسود، سكاكين وخناجر، أحزمة، وأخيرا جراب جلدي يضم عدة مكتملة لتنظيف الأسلحة، فرش، زيوت، مراهم، قضبان معدنية، ومناديل قطنية…
يشتغل الرجل، يفكك أسلحته بالتناوب، يفككها قطعة قطعة، ينظفها في حركات هادئة ومحسوبة، يفعل ذلك بصبر وأناة فيبدو منهمكا، منخرطا، ومستمتعا تماما بما يفعل.
ثم يتوقف، يعتدل، يتنفس بعمق، يحرك جسده، يريحه في حركات بطيئة تشبه اليوغا، يكلم نفسه، وبين الحين والآخر يرفع سبابته، يشير إلى جهة ما، يشير بقوة وكأنه يهدد، وكأنه يخاطب شخصا لا يرى.
وبنفس الهدوء، بنفس النظام، بنفس الحركات المحسوبة يعيد تركيب الأسلحة، ينظر إليها بإعجاب ويعيدها إلى مكانها.
يبدو الرجل في حدود الأربعين أو يزيد قليلا، ولكن جسده الرياضي المشدود، وشاربه الطفولي، ومسحة البراءة التي ترتسم على وجهه، كل ذلك يخفي عمره الحقيقي.
…
في سن مبكرة انخرط (الهادي) في العمل السياسي بنفس منقطع النظير، ولكن أمورا حدثت فقلبت حياته رأسا على عقب، منذ سنوات قتل والده برصاص المعمرين الفرنسيس، وعشية الإستقلال الشكلي فقد إثنين من أعز أصدقاءه قتلوا غدرا بدم بارد على يد رفاق الدرب، رفاق الأمس الذين أصبحوا أعداء عندما تفجرت الصراعات السياسية على الزعامة والسلطة والمال…
في كل مرة يعود بذاكرته إلى الوراء ويستحضر تلك الأحداث المؤلمة، تجتاحه مشاعر قوية، مزيج من الألم والغضب.
يكلم نفسه.
- الرصاص هو هو، وحدها أيادي القتلة اختلفت.
هو أيضا أدى الثمن غاليا، هو أيضا خبر السجون والمعتقلات، وكان ضحية للمطاردات البوليسية وزوار الليل.
مرت السنوات، وجرت مياه كثيرة تحت الجسر، غادر المستعمرون منذ مدة، حزموا حقائبهم ورحلوا، ولكن الخونة لم يرحلوا، غيروا فقط ملابسهم ووجوههم، أصبحوا فجأة زعماء وطنيون، أثرياء، سماسرة، يديرون البلد، يبتلعونه، يبيعون كل شيء، الأرض، الشجر، الحجر، البشر، كل شيء…
في نقطة ما، تغير (الهادي)، تغيرت نظرته لذاته، للحياة، للسياسة والسياسيين ومستقبل البلد، هجر الجامعة وانخرط في العمل السري بعيدا عن الأحزاب وضجيج المقرات، للسياسيين أن يفعلوا ما يشاؤون، أما هو فقد اختط لنفسه مسارا مغايرا، كل مساء، عندما تنقطع الحركة في البيت، يختلي بنفسه في غرفته المعتمة، ويمارس طقوسه السرية، يفتح الراديو، يسمع الأخبار، يقرأ الجرائد، يتفقد مذكرته، يفتحها وينظر، يتأمل الأرقام والرموز والعناوين، يفكر، يتوقف طويلا أمام الأسماء، يخاطبها ويخاطب نفسه بصمت.
- هذان انتهى أمرهما منذ مدة…هذا ليس بعد، سيأتي دوره…هذا التحق حديثا بطابور الخونة فأمره مؤجل إلى حين، إلى أجل غير مسمى…
يلوذ بالصمت للحظة، يرفع القلم، يختار إسما، يحيطه بدائرة سوداء، ثم يكلمه.
- أما أنت فقد تقرر مصيرك أخيرا، وستنشر صورتك في صفحة الوفيات قريبا…إن هي إلا مسألة وقت…
يمضي الليل بطيئا، يرسم (الهادي) في ذهنه الخطط والخرائط، ويعيد النظر في أخرى، وفي كل مرة يرفع القلم، يختار إسما، يسجل بصدده ملاحظة مختصرة وملغزة، ثم يضع عليه العلامة التي تناسبه، خط أسود، خط أحمر، علامة (x)، أو يحيطه بدائرة، أو يمسحه تماما…
…
بعد أسابيع…
الهزيع الأخير من الليل، تلوح الخيوط الأولى للفجر، أوقف سيارته هناك تحت أشجار الكاليبتوس، فتح النوافذ عن آخرها، أشعل سيجارة، إمتص منها نفسا عميقا، ثم أرسل الدخان، دفعه بعيدا على شكل أعمدة قوية ومستقيمة، نظر إلى ساعته اليدوية وراح يمضغ هواجسه، يفكر، ينتظر ويحاول أن يهدأ.
هناك أمامه، تبدو (دار الباشا) وكأنها قلعة قادمة من زمن آخر، بناية يمتزج فيها الطابع الإستعماري بتفاصيل مغربية، بوابات عملاقة، أبراج، أقواس من الأجور الأصفر، نوافد عالية بشبابيك حديدية صلبة، حدائق أنيقة ومرتبة، أشجار، ورود، وأسطول سيارات فخمة شديدة السواد…
يقال إن بعض الأمكنة لها ذاكرة، ذاكرة من هواء وتراب وحجر، لعقود من الزمن كان هذ الفضاء الممتد مقرا للمقيم العسكري الفرنسي، وأياما بعد الاستقلال تحولت دهاليزه إلى فضاء للتعذيب والقتل والعنف الرهيب، الكثيرون مروا من هنا، وهو كان واحدا منهم.
يتذكر، لن ينسى أبدا يوم أزالوا العصابة عن عينيه، تسربت خيوط شمس دافئة من كوة الزنزانة، وراح ينظر بصعوبة إلى الجدران لأول مرة، يستكشفها، جدران صلبة، قوية، تنضح ببرودة قاتلة، على اليمين وعلى اليسار وعلى الأرضية الإسفلتية، وفي كل مكان كانت هناك خربشات ونقوش حفرت بقسوة وأناة، خلفها السجناء وراءهم، أسماء، تواريخ، أرقام، رموز، أسماء لمدن وقرى نائية، جمل متشظية، شذرات، تجديف، أماني وأحلام عصية، آهات وصراخ أرواح مخنوقة…
للحظة تملكه شعور غريب، تخيل أنه ما يزال هناك، وأنه يسمع أصوات المعذبين المكتومة تنبعث من تلك الممرات الرهيبة.
ينزل مطر خفيف، تتراكم حبات الماء على الواجهة الأمامية لسيارته، تكبر، ثم تنزلق وترسم خيوطا بلورية تحجب عنه الرؤية، ولكنه لا يمسحها، فهو منتبه ويقظ تماما، ويعرف بحكم التجربة أن الأمور الخطيرة عادة هي ما ترصده المرايا الجانبية، الخطر يأتي دوما من الخلف…
يفكر، يبتسم بهدوء، يخاطب نفسه.
- الأيادي الشريرة تضرب دائما من الخلف، وتأتي دوما من حيث لا نحتسب…
ثم فجأة يشعر بالتوتر، يفكر أن يدخن سيجارة أخرى، ينظر إلى ساعته اليدوية، ويقدر أن المهمة التي جاء من أجلها على وشك أن تبدأ، وأن الوقت غير مناسب للتدخين، ينزل من السيارة، يتحسس المسدس في جيبه ويقف متأهبا، تنفتح البوابة الضخمة وتنغلق، يخرج منها رجل لا يتبين منه إلا معطفه الطويل وقبعته التي تحجب تفاصيل وجهه فيبدو مثل شبح، يمشي الرجل بخطوات واثقة، يتحرك هو أيضا في الإتجاه الآخر، يقترب، يقتربان معا فيبدو الأمر وكأنهما على موعد، ومع كل خطوة يتيقن (الهادي) أنه (الحاج) وأن إمكانية الخطأ تكاد تكون منعدمة.
توقف (الهادي)، إلتفت إلى الرجل وخاطبه بصوت خفيض يكاد لا يسمع.
- أنت (الحاج) ياك؟
أخرج الرجل يده من جيب معطفه في حركة آلية وسريعة، ولكن (الهادي) كان أسرع منه، وجه إليه مسدسه وأطلق النار، خر الرجل صريعا، اقترب منه (الهادي) أكثر، نظر إلى النزيف، وإلى الثقب الملتهب الذي خلفته الرصاصة، للحظة فكر أن يوجه إليه رصاصة ثانية، ولكنه تراجع.
يفكر بداخله، يخاطب نفسه.
- رصاصة واحدة تكفي، هناك جيش من الخونة والإقتصاد هو دائما أمر جيد.
تهب ريح خفيفة من جهة البحر، يرتفع إيقاع المطر، يرفع بصره إلى السماء، يستشعر زخات المطر على وجهه، تغسله، ينتعش، تنتعش روحه، يغادر المكان في اتجاه سيارته ويمضي مسرعا.