“رسالة من أب لابنه” لروبير فالزير سخرية الشكل وغواية التقمص

روبير فالزير
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

تقديم وترجمة: عثمان بن شقرون

بداية، لا بد من الإشارة إلى أنه من الملفت في نصوص روبير فالزير استخدامه المكثف لنمط الرسالة، لا بوصفها خطابًا موجّهًا إلى متلقٍّ بعينه ضمن علاقة تبادلية واضحة، وإنما كوسيط تعبيري يتكرر في كثير من كتاباته. ليست الرسائل عند فالزير مراسلات واقعية بين مرسل ومتلقٍ كما نجد في رسائله الحقيقية إلى صديقته فريدا ميرميت أو إلى ناشره، بل تتخذ عنده بُعدًا تخييليًا خالصًا، ينهل من بنية الرسالة وحرارتها العاطفية، لكنه يتجاوز مقصدها الإخباري أو التواصلي.

يُوظّف فالزير شكل الرسالة كحيلة فنية وذريعة للكتابة، كما لو أن الرسالة هي مجرد قناع أو واجهة تخفي خلفها نزعة تأملية وحنينًا دفينًا وسخرية ناعمة. فالرسالة، هنا، ليست إلا منصة ينطلق منها الكاتب للبوح أو النقد أو السخرية أو الاعتراف أو حتى لعب دور تربوي – كما في هذا النص الذي نقدمه ترجمته. وهو نص نشر ضمن مجموعته نصوص شعرية قصيرة سنة 1914، وترجم إلى عدة لغات. إنه نص أقرب إلى مونولوج داخلي مُقنَّع بخطاب موجه، يُضفي على النص حميمية خاصة، ويمنح القارئ وهم التلصص على اعتراف شخصي، بينما هو في الحقيقة يقرأ تأملًا فلسفيًا في معنى التربية، والتناقضات الإنسانية، وصيرورة التهذيب الاجتماعي.

في هذا السياق، تتحوّل الرسالة في كتابات فالزير إلى شكل تعبيري حر، ينفلت من قوالب المراسلة التقليدية، ويُعاد إنتاجه بصيغ متعددة ومراوغة. سواء وردت في هيئة نصوص قصيرة ضمن مجموعاته النثرية، مثل: “رسالة من شاعر إلى رجل نبيل” [مترجم إلى العربية]، “رسالة من رسّام إلى شاعر”، “خطاب إلى زر قميص” [مترجم إلى العربية]، أو “خطاب إلى موقد”؛ أو كجزء من البناء السردي في أعماله الروائية، كما في “الإخوة طانير” وأعمال سردية أخرى. بل يمكن القول إن الرسالة عنده تتجاوز بعدها التواصلي لتغدو شكلاً من الكتابة التمويهية: تمويهًا على الذات، وعلى الآخر، وعلى الحدود الفاصلة بين الواقع والتخييل.

قد تُقرأ هذه الرسالة من أب إلى ابنه لروبير فالزير بوصفها نصًا بسيطًا، طريفًا، ذا نبرة ساخرة ومباشرة، يُحاور فيه أبٌ ابنه عن التربية والانضباط والحياة والتناقضات اليومية التي تكتنف العلاقة الأبوية. لكنّ هذا النص، كغالب كتابات فالزير، يستعصي على القراءة الوحيدة، وينفتح على تأويلات شتى، قد تتراوح بين البُعد الأخلاقي، والرمزي، والفلسفي، والسيكولوجي، بل وحتى الجمالي الشكلاني.

فالرسالة، رغم ظاهرها المألوف، تخفي بنية لغوية ونفسية معقدة. فصوت الأب المهيمن يتحدث بثقة مطلقة، يقرّر ويعلّم ويؤدّب ويتهكّم، غير أن خطابَه مليء بالتناقضات: يمنع ما يُبيح لنفسه، ويزعم التربية عبر الإهمال والتأديب عبر الإذلال، والحكمة عبر السخرية من نفسه ومن ابنه على حد سواء. هذا التناقض ليس زلة خطابية، بل هو المفتاح الذي يفتح الباب لقراءة مقلوبة، قراءة باطنية.

انطلاقًا من معرفة بأن روبير فالزير لم يتزوج ولم يُعرف له أبناء، وبأن علاقته بوالده كانت متوترة ومضطربة، يمكن قراءة هذه الرسالة على أنها ليست رسالة من أب لابنه، بل من ابن إلى أبيه، رسالة مقلوبة تقمص فيها الابن صوت الأب لا ليُمجّده، بل ليُفكّكه ويعرّيه. إنها محاكاة ساخرة للسلطة، تفضح عنفها المتستّر خلف حكمة زائفة، وتكشف البعد المازوشي لعلاقة يغلفها ظاهر الحب، فيما تحكمها الرغبة في السيطرة.

نص فالزير إذًا، كما في نصوصه الأخرى، يستثمر شكل الرسالة لا باعتباره تواصلاً بريئًا بين مرسل ومتلقٍ، بل كذريعة للكتابة، كقناع يتخفّى خلفه الكاتب ليقول ما لا يُقال مباشرة. الرسالة هنا تتحول إلى مشهد رمزي للعلاقة الأبوية في صيغتها المتناقضة: حنانٌ مريب وصرامة تبريرية ومفارقات لا تهدف إلى الإقناع بل إلى إرباك القارئ.

بهذا المعنى، نقترح هذه الترجمة العربية أن يُقرأ النص لا بصفته مجرد خطاب حول التربية، بل بوصفه نصًا عن السلطة، عن التنشئة الاجتماعية كقناع للعنف الرمزي، وعن التهكم الخفي الذي يشقّ طبقات الخطاب الظاهري، ليُسمعنا صوتًا آخر: صوت الابن الذي يُمسك قلم الأب، ويكتب به ليعيد صياغته، ويصوغ في الوقت ذاته جرحه الشخصي.

 

رسالة من أب لابنه

يا ابني العزيز، إنك تشتكي من كوني أمنحك تربية رديئة، وأنني، على سبيل المثال، أرسلك في مهمة التسوق إلى “نيداو” أو التوجه في جولة إلى مخزن الخشب لتقطيع بعض الحطب هناك. كن صريحًا، كفى من المشاعر يا بني! كما لو أنني لا أعلم أنك لا تستمتع بشيء أكثر من الركض في الحر والغبار على الطريق إلى نيداو، تلك البلدة بحجارتها القديمة، وأنك تحب تقطيع الحطب. أنت تعترض عليّ معتبرا أن في إنزال سطل القمامة وتقطيع الحطب قليلًا من التربية. أنا أختلف معك في ذلك. هناك الكثير من الفضائل التربوية في الأعمال الوضيعة والبغيضة وغير الجذابة. وهكذا، عندما يتعين عليك عبور الشارع وإبريق الحليب في يدك للذهاب من أجل جلب الحليب من عند اللبان، وهي مهمة يمكن أن تجعلك تشعر بالخجل قليلاً لأنك تقابل أشخاصًا تعرفهم، وتدرك أنهم يقولون في سرهم: “ها هو ذا، يُرسَل الآن لجلب الحليب من الجهة الأخرى من الشارع”، فهنا بالضبط يكمن درس تربوي ممتاز، قد لا يبدو جليًّا، لكنه حقيقي، لأنك بذلك تتعلم كيف تذلّ نفسك، ومعرفة طعم الإذلال درس ثمين. يا بُني العزيز، بهذه الطريقة وبوسائل أخرى مماثلة أُربّيك، وأعتقد أنك تستطيع أن تكون ممتنًّا لي على ذلك. حسنًا، يبدو أنك لست كذلك، أعتقد أنك لا تفهم هذه الأمور بعدُ. ستفهمها لاحقًا وتدرك ثمنا وقيمتها.

من ناحية أخرى، يا بني، هل تظن أنك تملك الحق في أن تتوهم – يا لها من لمسة ملتوية من البلاغة البُنوية جديرة بالاهتمام – أنني أعشق أن أبحث لك عن أي عمل شاق أكلفك القيام به، خاصة حين أعلم أنك ترغب في الخروج لتمرح بحرية مع أصدقائك المقرّبين، إلى الغابة أو صوب البحيرة. أفتظنني شريرًا إلى هذا الحد؟ وإن كنتُ كذلك، فما المشكلة؟ أليس من حق الآباء الفقراء، المثقلين بالهموم، والمحاصَرين دائمًا بالانشغالات التافهة للعيش اليومي، أن يمنحوا أنفسهم، من حين لآخر، خيانة صغيرة مبهجة، يُروّحون بها عن أنفسهم؟ فكّر في الأمر، فكّر في كل الهموم التي تثقل كاهلي، وستجد في نفسك ما يكفي من الكرم لتسمح لي، بين الحين والآخر، بأن أمازحك قليلًا بقول: “والآن، ستذهب لتقطيع هذا الحطب، مفهوم؟” كلّما لاحظتُ أنك تنوي الذهاب للسباحة أو التسكّع في الشوارع. إن للآباء أيضًا نقاط ضعفهم الصغيرة، اعلم ذلك.

أنت تقول لي أشياء غريبة جدا، بل مذهلة بحق، عندما تلومني لأنني أنا نفسي، ظهيرة يوم الأحد، ساعة شرب القهوة، أقرأ تلك الروايات التافهة ذاتها التي، حين أضبطك تقرأها خلسةً وتلتهمها بنهم، أسمح لنفسي أن أقرع رأسك بسببها – أنا، أبوك. لكنك مخطئ في شكواك، وعتابك مثير للشفقة. أنوي الاستمرار في منعك من قراءة الروايات، تمامًا كما أرى من حقي أن أواصل السماح لنفسي بقراءتها. تحلَّ بشيء من اللطافة، ولا تحرِم رجلًا يتقدّم به العمر من متعة صغيرة، فقط لأنه يرى من واجبه أن يمنعها عن ابنه. وبصورة عامة، أعترف بسهولة أنني أهمل تربيتك إلى حد كبير، ولكني لا أشعر بأي قلق حيال ذلك. كن مطمئنًا أنك ستجد طريقك في الحياة، فهناك العشرات منها، وجميعها بلا أدنى شك تؤدي إلى أبواب القدر الحديدية. ستسمح لي أن أتفلسف معك قليلًا. كن فيلسوفًا يا بني، وهذا يعني أن تُصقل نفسك، وعندها لن تحتاج إلى كل هذا التهذيب، فالحياة ستتكفل بتربيتك، ولا أخشى شيئًا في هذا الشأن. انظر يا بني: إذا تركتك في حالة وحشية بلا تهذيب، فسوف تكون أكثر قدرة على مواجهة الحياة؛ وإذا تركتك بلا ثقافة، فإن الحياة وحدها ستثقفك، وتؤدبك وتصقلك، ولن تسويك جيدا إلا بعد ذلك؛ وإذا تركتك خشنا بعض الشيء، فستكون أسهل للاستقامة  والصقل الذي تضمنه الحياة، على وجه التحديد، التي تستمتع كثيرًا بصقل البشر. العالم الذي سيتعين عليك أن تشق طريق فيه سيكون معلمك الأسمى سيتولى تربيتك بالكامل، من باطنك إلى ظاهرك، وما تراه اليوم إهمالًا لك، ستراه ذات يوم بعين الشكر لا العتب.
فكر جيدًا في هذا، وإذا رغبت، على هذا الأساس أسمح لنفسي أن أريح قلمي وأنهي هذه الرسالة الأبويّة.

 

 

 

 

مقالات من نفس القسم