وحتى لا أضيع وقتك الثمين، أَعلمك أن هشام أصلان يمثل جيلا من الكتّاب المصريين، الذين اهتموا باللغة وبالكتابة الحلوة. وبالنسبة لي، يمثل الجرأة، والفهم الواعي للكون، في طرحه للأسئلة الوجودية للأمور البسيطة التي لا يلتفت إليها الناس العاديون، بل هو التطبيق المثالي للمثل “من الجافي أخرج حلاوة”. أضع لك هنا رأيه عن لغته الأدبية:” اللغة هي أداة الكاتب الأساسية، وهي إما أداة ضعيفة أو قوية، لذا أعتقد أنك تكتب باللغة التي تتيح لك إمكانياتك الكتابة بها وتستطيع التعبير بها، غير أنها تخضع طوال الوقت للتطوير بتطور صاحبها”. ولا أخفيك سرا أن تطور هشام أصلان، الذي بدأ بدايات كعامة الشعب المصري، في أعمال بعيدة عن الكتابة، هو في حد ذاته الانجاز الأكبر له، وهو التطور الذي يقف عنده الناس مبهورة.
هذه المجموعة، التي غلفها الفنان أحمد اللباد بلوحة مرسومة بمحبة، وتعاملت معها الناشرة فاطمة البودي باحترام ووعي، ربما تكون الأقرب لشخصية هشام، خاصة قصته التي صّدر بها مجموعته “العلامات المستديرة، التي تتركها أكواب الشاي والقهوة، على الأسطح الخشبية، لا تشوه الأماكن، سوف تصير، بعد سنوات، سببا للدفئ، الحنين، وربما الطمأنينة. ليت الأمهات تتركها لأطفالهن، سوف ينشغلون بمحاولة وضع أكوابهم مضوبطة على العلامات، لكنها سوف تصنع داوئر جديدة”.
المجموعة تضم 12 قصة قصيرة، كتبها هشام أصلان بمداد روحه الباحثة عن اللذة، وهو الأبن الأكبر لسيد آخر للكتابة الفاتنة إبراهيم أصلان، الذي ربما تمنى أن يسير ابنه على دربه، حينما أهدى إليه ولشقيقه شادي روايته “عصافير النيل”؛ لأنه رأى أن الرواية تتضمن شيئا من تاريخهما العائلى البعيد الذى لا يعرفان عنه شيئا، ولن يعرفا إلا من خلال الحكايات والروايات. وحسنا فعل هشام في مجموعته، خاصة في قصص : “أصوات الممر”، “مجرد رائحة”، “على واجهة السبيل”، “دمية عملاقة تبتسم”، و”شرفة الشارع الخلفي”.
سيدي أنطون تشيخوف، أتركك الآن مع إحدى القصص اللافتة في المجموعة، لتستمع بها…
“التاسعة مساء، والكفر كأنه خلا من السكان.
هناك ظلام، والداخل إلى المنطقة يأتنس بمصباح ضعيف على عربة فاكهة، أو لمبة تتدلى أمام مدخل أحد البيوت على جانبي الشارع الواسع غير المسفلت.
سيارات النصف نقل نُصبت فوقها خيمات من قماش قديم، مشدود على أسيجة معدنية لتغطي صندوقها الخلفي، بعدما صُنعت داخل هذا الصندوق، بطريقة بدائية، أريكتين متقابلتين من الخشب، فتصير السيارة بديلا معقولا للميكروباص. تأتي من المنيرة إلى أول الشارع، تنزل الركاب، ولا تدخل الشوارع الجانبية.
الشارع يملأه الوحل.
كان يقف مع عربته الكارو عند الناصية.
نحيف، يرتدي بالطو رماديا مغبشا بخيوط بيضاء، مقفولا بأزرار كبيرة. القماش بالي عند جيب الصدر وأطراف الياقة. يلف شالا أبيض حول رأسه الصغير، وكوفية من الصوف البني الفاتح تداري ذقنه، يتدلى طرفها على أحد كتفيه. ودخان السيجارة كثيف حول لمبة الكلوب المتوهجة.
تبطئ السيارة الصغيرة عند الناصية. أقول بصوت عال:
عايز موز.
يلتقط إصبعا من أمامه، ويلقيه داخل السيارة عبر النافذة، ويبتسم.
ترمقني أمي بحدة، قبل أن ينزل أبي ويعود بكيس ورقي بني، وضعه بجانبي.
يبتسم عندما يرى إصبع الموز في يدي. ولا يهتم عندما تخبره أمي، أن الإصبع الذي آكله، ليس من الذي اشتراه”.