صلاح عبداللطيف
هاتفني قبل أيام أحد الأصدقاء سائلا ومعاتبا بصورة حانية، إن كنت فعلا لم أعد إلى العراق بعد 2003، وكيف تحملت فراقه لمدة خمسة وأربعين عاما، رغم أنني نادرا ما تضوأت شوارع أوربا، ولم أكف عن وصف شوارع بغداد وناسها طيلة سنوات غربتي عنها . لم أسع في إجابتي إلى النفاذ به في جذور المشكلة، بل اكتفيت بالقول بأنني لا أريد أن أدفن ذكرياتي الجميلة عن بغداد التي عرفتها حتى منتصف القرن الغابر، وكيف طمر بهاء تلك المدينة بحسب ما نقله لي بعض الأصدقاء الذين زاروها بعد التاريخ المذكور .
رد علي صديقي بحنو أنصع، ولكن ماذا ستفعل بدمك العراقي، وأنت مقيم في انشطار نفسي بين ماض ذهبي وهوية حاضرة تشعر بنقصانها؟ قلت له بـأن الكاتب هو صورة ناطقة لنقصان الهوية، هو اضطرام الهيام وعدم الركون إلى مستقر، وكل ما يكتبه هو شوق للعبور إلى المكان المتخيل، الذي يخفف عنه ذلك الانشطار النفسي بين الذكرى وواقعه الفاجع المعاش . فالكتابة، إذا، هم مشغول بذلك العبور من خريطة إلى أخرى. أنه يحتاج إلى الأدوات المعرفية التي تجعله يسجل بليونة ومهارة شكل زمنه باقتضاب وكثافة، كي ينتقل مثل الشاعر الفلورنسي دانتي من الجحيم إلى الفردوس عبر المطهر، التي هي الكتابة دون شك . رد علي صديقي بذكاء لافت، لكن الكاتب سيكون آنذاك مثل شجرة تنكرعلى الحقل الذي نمت فيه أبوته، الحقل المفعم بوسائل الحماية لها منذ أن غرست وضربت جذورها في الأرض .
شعرت بأن صديقي لم يراوغ عقله، وهو في ذروة وحدته وضعفه في إحدى المدن الفرنسية كما أعلم، وحاجته إلى سماء طفولته الغنية المشبعة بأخاء متين وكثافة في المشاعر، لغموض والتباس تبريري الصادم لعقله، ولأنه لا يملك كيان كائن غير مأسور بمتطلبات العادات والأعراف التي تتطلب ولاء أعمى لأرض صارت أشبه بمحكيات التراجيديا اليونانية، حيث الخراب الضارب والنزيف الدامي والقتل الجماعي . كان إيمانه اليقيني بفكرة الوطن هو القفل الذي أغلق حرية عقله في التساؤل وتقليب فقدانه وحرمانه النهائي هو أيضا، لذلك الوطن الذي عنى لنا ليست الجغرافيا المحسوبة بالكيلومترات، بل ملاعب الصبا ومراوح النخيل ورائحة الأسماك في نهر دجلة أو الفرات، والدفلي، والسهرات الشعرية على شارع أبي نؤاس المحاذي لدجلة، وخمارات الشباب، وزوايا المغامرات السرية المتاحة يومذاك . لقد جرد الوطن من تلك العناصر الإنسانية ليرفع إلى مستوى الفكرة المجردة التي يجب تقديسها دون قيد أو شرط .
مثل هذا الإيمان يلغي مكانة الروح قبل العقل، ويؤدي بضحاياه إلى حالة انفصام شبه مرضية، من أعراضها الكذب وممارسة قدح خفي لذلك المفهوم عن الوطن، أي ممارسة دورين : دور المواطن المؤمن ببلاده، ودور الكاتب الفالت من محاولة اعتقال روحه الحرة، حتى لو عرف أن خلق انسجام مزعوم بينهما أمر غير ممكن . مثل هذا الكاتب صديقي لا يريد أن يفزع جمهوره، ويتيح له حق التحقق والتحري بشأن ما حصل للعراق في الستين سنة الأخيرة، التي أنتجت ما نمر به الآن، ودوره السياسي الإيهامي لا يتيح له أن يخاطب الناس بالحقائق التي رددها أمامي حول الجماهير المعبأة بالحماسة الواهمة، والرؤوس التي تدحرجت دون ذنب، والدماء التي سالت، وكراهية تدعو للثأر من أعداء متخيلين .
لقد اتسعت ظاهرة الاحتفاء الخادع بالوطن في كل تلك السنوات، وحصلت حالة من تبادل للإيهام قادتها الأحزاب العقائدية بجميع صنوفها، ونخبها التي اندست في الميدان الثقافي لتمجيد تلك الأكاذيب، خصوصا بعد استحواذها على اتحادات الأدباء، والصحافة والمهرجانات والندوات والجوائز، التي تنظمها الحكومات بادارة الطلائع الجديدة، التي لم تكف عن تأثيم تلك المؤسسات ما دامت خارجها . فلننظر إلى أبسط الفعاليات الأدبية، شرقا وغربا، لنجد استحواذ نفس الأسماء التي انتقل بعضها من مرابد صدام إلى مرابد قادة العراق الجديد مثلا، أو مهرجانات مشابهة في غرب الأرض العربية لا شرقها فحسب .
لقد سادت هستيريا الخداع المتبادل، التي انتقلت بنفس الطريقة إلى وسائل التواصل الإجتماعي، التي ظهرت أساسا كبديل لاعلام السلطات، لكنها غاصت بسرعة في نفس الوحول، ولم تعد مبرأة من ذلك الإثم . فلا غرابة،إذا، أن تفزع جماهير القراء خارج تلك المنظومة، من تلك الثقافة الشائعة بل ومن نقادها طالما أن المحاصصة لمت شملهم . من هنا غربة الكاتب أو الشاعر اللامحفلي عن تلك الأوساط ، التي تتساءل بكل وقاحة أحيانا عن أسباب انزواء الأسماء المتميزة عن الحياة الثقافية وانصرافها لحياتها الخاصة . وهم يعرفون أن تلك الأسماء انزوت بعيدا عنهم للإفلات من حياة ثقافية تقصر أعمارهم دون شك. الأمثلة لا حصر لها، لكنني سأكتفي بمثال واحد، وهو محنة الشاعر والتشكيلي والسينمائي العراقي هادي ياسين، الذي انتقد في العام 2014، ظاهرة الاحتفال بمقتل الحسين بالطريقة المعروفة في العراق، وخصوصا استخدامها النفعي من قبل اللاهوت الديني، لتضليل الناس بالدموع والعبرات وغمسهم أعمق وأعمق بعيدا عن مشكلاتهم الاجتماعية والمعيشية، التي ظهرت آثارها ونتائجها بعد خمس سنوات بصورة فاضحة . فماذا حصل للمبدع ياسين؟ قام اتحاد الأدباء بترقين عضويته أولا، ثم فصل من الاتحاد بعد ذلك، بمباركة شبه عامة من المثقفين المشاركين يومذاك في النشاطات الثقافية الرسمية .
هكذا هو حال اتحاد الأدباء في العراق اليوم، الذي يشعر المثقف الحر بغربة حقيقة عن تطابقه مع الحياة السياسية الضحلة منذ 2003 وحتى اليوم، والذي ظل صامتا في الأيام الأولى لانتفاضة الناس منذ أكتوبر في العام الماضي، ثم حاول أن يتآلف مع زخم الحراك، الذي تمرد وأفلت من شعارات الأحزاب التي يسير مثقفوها تلك المؤسسات الإعلامية . وينطبق هذا الحال على الإتحادات الأخرى في مغارب الأرض العربية أيضا، التي يسيرها منذ سنوات طويلة شعراء وكتاب أحزاب سياسية معروفة، تجاهلت بصورة مثيرة للشفقة المطالب الشرعية للناس في الحرية والعيش الكريم .
لقد شاع التغني بالكلمات المجردة عن الوطن والحرية، التي أتقنت صياغتها وترويجها الكتب السياسية العقائدية، والتي لم نرها موجودة على أراضينا. وهكذا صار المثقف الحرالمنفي يعاني من وطأة غربتين، الغربة المكانية، وغربة العيش في حاضر عربي مخاتل لا ينتسب إليه . أنه ينتمي إلى ذاكرته الحية داخل غياب حقيقي لفاعلية تشير إلى طمأنينته للزمن الجديد، الذي صار من عوامل الأذى لروحه المعذبة التواقة إلى النزاهة، وبصيرته المتعارضة مع التعريفات الجديدة للمثقف، التي سوغتها ثقافة المنفعة . فالكاتب أو المبدع كما انتخبته الطبيعة قبل الأفكار،هو كائن يجب أن يحسن النظر إلى أخوانه الآخرين من البشر كمخلوقات متعارضة في مسعاها للحرية والإبداع، وليس مطية لفكرة أزلية خالدة كما وصفتها كتب العقائد . أنه كتلة من الآلام والأحزان، من الخير والشر، من الفرح والحزن، من الأسود والأبيض، ولا تلتقط هذه الأنوار والظلمات إلا بصيرة عاشت التمزق والعبث واللاجدوى والمسرات الصغيرة والكبيرة .
الكاتب الحقيقي يعرف أن الإنسان هو هدف الفكرة وليس العكس، فالأفكار رمادية لكن شجرة الحياة خضراء كما قال غوته مرة . لذلك تحديدا فأن حياتنا الأدبية في حاجة ماسة إلى من يقف بجرأة بوجه نهج تبشيري أيديولوجي، يحاول أن يفرض عقدا غير مكتوب بين الكاتب والفكر الإجتماعي السائد مفاده : أعطنا أفكارك وابداعك دون تشكيك بالمدونات الكبرى، وسنعطيك الأمان . وقد قتل في العراق الجديد وغيره من البلدان العربية، من رفض التوقيع على هذا العقد . لم يعد الإبداع أو العلم كفيلان بتصحيح أخطاء حياتنا القديمة، بل أصبحت مسلمات حياتنا القديمة هي المقبرة التي تدفن فيها الدعوات الجريئة الغاضبة لدفن ما لا يصلح لأيامنا . لم يعد الوطن مفهوما رمزيا يتكون من حقوق وواجبات، بل صار حفنة من الواجبات التي تتعارض مع التأثير الحسي والكتابي ومع فاعلية الخيال الأدبي قبل كل شيء، ولا ينفع بعكس ذلك كل الرطانات السياسية أو استعراض العضلات الوطنية المقززة .
لا يفهم بعض أولئك القائمين على الوضع الثقافي، أن الكاتب يضطر ضمن عمله الإبداعي إلى الإنسحاب من الحياة إلى الحلم، من فظاظة الخارج إلى دفء الذات، من انفعال الكيان الحسي إلى بهاء المخيلة ، لبناء وطن وهمي ينتمي إليه، وهذا ليس بالنشاط العابر ضمن العملية الإبداعية، بل يقع في صلبها، رغم هدوء خارجه أحيانا وتوتر أعماقه . ومثل هذه العملية لا يفهمها إلا من انغمر مثله في روح الكتابة وحرائقها الداخلية . ومن حق السياسي أن يحاور الكاتب بل أن ينتقده بالاحتكام إلى المعايير الأدبية، وليس بالاحتكام إلى انفعالات عاصفة تتعامل مع النص الأدبي كأنه دعوة ضاجة لعدم التصالح مع الحياة والناس وسذاجات تكرست اجتماعيا . كيف يمكن لكاتب حر في داخل العراق أو خارجه، أن يصمت على انعدام أفق الرحمة في بلد تتحارب عليه الطوائف والقبائل، بدعوى الديمقراطية البليدة، التي لم تعن منذ عشرين عاما إلا النهب الضاري لثروات البلاد وبهائها بايقاع وحشي لم يسبق له مثيل . أننا نعيش في زمن بالغ التعقيد، شديد التناقض، اختلط فيه كل شيء بنقيضه : السياسي بالثقافي، التزييف بالبراءة، الحقيقة بالأكاذيب، وكان الخاسر الأساسي هو الكائن المفكر، الذي وضع في مهرجان جنوني يمتلىء بالإدعاءات والشعارات الفارغة، وطلب من هذا الكائن المفكر الذي شم رائحة الانهيار الشامل أن يكون راقصا في ذلك الحفل بل بوقا لصخب الأحزاب، التي أجهزت ببلطاتها على رقبة بلاد، خرجت للتو من كارثة حروب لا حصر لها .
أن ما حدث في العراق منذ 2003 باسم الله والإيمان، لم يحدث إلا بدفع من قداسة العقيدة السياسية لا إرضاء لله، الذي تفترض محبته كما من التسامح الرباني، البعيدة عن العواطف البشرية الميالة إلى الثأر والإنتقام من الخصوم . لقد صودر الإله الرحمن الرحيم من قبل العقائد السياسية، التي جعلته يذبح ويكفر ويقتل وفق أهواء الإسلام السياسي، بل أن عباداتهم لم تعد لله، إنما لعقيدتهم الضالة التي تبيح لهم سلخ جلود الناس وحقوقهم البسيطة .
ولهذه الأسباب،ربما، لم يعد الناس بحاجة للكتاب والقراءة في السنوات الأخيرة، لأن البشر انشغلت بهموم مصيرها والصراعات السياسية والتجويع المنهجي، الذي فتك بالثقافة بعد تدافع الأقلام الرخيصة الوافدة من خارج الوسط الثقافي، والتي عملت سنوات طويلة في صحافة رخيصة ضحلة، يكاد يكون تعاملها مع ما يدور في العراق مضحكا، ولا فرق برأي بين صحافة تابعة لمعمم بليد، أو لحليفه الذي يضع على واجهة صفحاته شعارات أممية، فرغت من معيارها النوعي ومزاعمها الثورية، ليتم التركيز على توفير محتفين ومناصرين للتجربة الجديدة، وحليفهم المخجل في ندواته، رغم عصيان جمله على الفهم . ولم أفهم حتى الآن ماهي مادة الحوار بينه وبين تلك القوى التاريخية، فضلا عن أن ذلك الرجل يصعب اقناعه بالتزحزح عن لا معقوليته .
لقد كشفت تراكمات أحداث ما بعد 2003، على أن المثقف العراقي لم يجرؤ على مراجعة قداسة الأفكارالتي علقت فوق أهداب المواطنين أيام حكم الطاغية القديم : الأستعمار والصهيونية، الأصابع الأجنبية، صراع الحضارات، الخونة والأعداء، وأضيف لها مشهد مفزع جديد تمثل بأثارة النعرات الطائفية، التي كادت أن تختفي أيام القبضة الفولاذية الوحشية في سنوات حكم البعث الأولى . لقد سجن العراقيون منذ قرابة خمسين عاما في السجن المجازي الكبيرالذي سموه وطنا، حيث غروب الآمال والكوارث والحروب المتواصلة، فأصبحت البلاد صورة نمطية لتزاوج الموت الفيزيقي بالموت المعنوي، حين عجزت كل بلاغة وادي الرافدين عن ايجاد مسمى لتلك المرثية بما تكتنفها من لون قان واحد هو لون الدم وحده .
لا غرابة، إذا، أن يسعى الشباب العراقي الفاقد لأي أمل إلى أية مغامرة شخصية للخروج من تلك البلاد، إلى أي مكان في العالم، وهي محاكمة علنية لأنظمة فشلت في المحافظة على شبابها، الذين صاروا مثل نبتات عارية في أرض بوار. ثم خرج أولئك الشباب بمشاعر خليطة من الذهول والإصرار ليطالبوا بوطن مفقود، غير هذا الوطن الذي لا ينتظر منهم إلا التضحية والولاء، مطالبين بوطن آخر لم يروه يوما . أي أنهم عاشوا سنوات طويلة لا في وطنهم المنشود، بل في وطن المتغلبين مثل أيتام مشردين، دون الحصول على أي شيء من ذلك الوطن المزعوم .
لن يستعيد العراق قامته التي تقزمت على أيدي العسكر وقسوة العقائد، التي نشرت التشريد والملاحقة والتعذيب والموت ضد المخالفين، ولن يتدفأ من جديد بحرارة ألمعيته المعرفية، إلا بابعاد من يضيقون بالمواهب، كيفما كانت، من السياسيين الذين استطالت قاماتهم بالترهيب والترغيب وشراء الضمائر. فالأمم لا تنهض إلا بالاستناد إلى مفكرين مقاومين لعصف رياح الأيديولوجيات المربكة للعمل الثقافي، التي تتدخل في كل شيء، بما في ذلك العمل الإبداعي . مثلما تدخلت الكنيسة واللاهوت في ضمائر الناس وعقولهم، في العصور الوسطى، يوم طلبت من المفكرين أن يكونوا نارا لحطبها ورمادها بعد ذلك .
لقد أثبت التاريخ أن الحياة دون ابداع وتفكير حرين لا تطاق، مهما أرغم المبدعون على محاكاة عمياء لشعارات الأحزاب التي تسطو على دول أو جماعات، فأن عوامل السأم ستتراكم لتنفجر يوما بصورة شاملة، حتى في الدول المدججة بالاسلحة النووية، ما دامت أرواح الناس لائبة في الخفاء، والاتحاد السوفيتي القديم مثال فاجع ومعه بناته في شرق أوربا التي فرضت عليها دروس الانضباط والامتثال قرابة أربعة عقود، لكن الكفة رجحت في النهاية لحب مفتقد : طلاقة الحياة ونورها .
………………………
*روائي وكاتب من العراق مقيم في ألمانيا