مصطفى النفيسي
العم كوفيد، أكتب إليك الآن بعد أن اتضح كل شيء، وبعد أن مات أناس كثر. كنت قد قررت أن لا أراسلك أبدا. فمن تكون حتى أشرع في الكتابة إليك مقتطعا جزءا كبيرا من وقتي؟ ولكن ” الأمر استفحل”. وهي عبارة كان يتم ترديدها عندما كان الجنرال فرانكو يحتضر. لذلك فإنني أعلن لك أنك لا تختلف عن كل الديكتاتوريين وكل الجلادين على مر الترايخ. أنت جلاد يلبس طاقية الإخفاء. فإذا كان فرانكو قد قام بجرائم حرب، وأعدم الكثيرين من مواطنيه، فأنت قد قتلت الناس في كل بقعة جغرافية من العالم، ومن جنسيات مختلفة، حتى أنك وصلت للقبائل المنسية داخل غابة الأمازون، دون أن تحمل أية بندقية، أو سيف مسلول. كما لم تبذر أموالك( هل لديك أموال؟)، بل بذرت فقط أموال الآخرين، ومدخراتهم. فلم تعد هناك أية مدخرات الآن بيد الأفراد والأسر.
العم كوفيد، لقد بعثرت أوراق الجميع. فالذين سافروا إلى بلدان أخرى، بقوا هناك دون حول ولا قوة، ولم تنفعهم استنجاداتهم، وربما غيروا هواياتهم في المستقبل، شاطبين على هواية السفر. فلا سفر بعد الآن. فكل ما يريدونه هو العودة بشكل آمن إلى شققهم الصغيرة التي انتشرت بها الرطوبة، وعاثت بها البكتيريا فسادا، وربما قد تسللت إليها فئران مشاغبة من مجاري المراحيض التي بقيت مفتوحة دون أن تمتد إليها الأيادي لتغلقها في آخر لحظة. وفي الطريق إلى المطار اكتفى أصحابها بالعض على شفاههم، وتهدئة خواطرهم بأن السفر سيكون قصيرا، وأنهم سرعان ما سيعودون إلى معاقلهم لكشط طبقات الغبار الذي لا يدري أي أحد من أين يأتي، رغم أن كل النوافذ مغلقة. لذلك فهم الآن قد ضاقوا ذرعا بالجلوس طيلة النهار داخل غرف فنادق لا يؤدون أثمانها في الغالب، ومن ثمة فهم لا يختلفون عن الرهائن، أو عن الذين يخضعون للإقامات الجبرية. لا تسلية لهم سوى تلك الهواتف الذكية التي حولوها إلى حدائق ومنتزهات، وحلبات سباق ومصارعة يصارعون فيها أبطالا افتراضيين مجمعين أرقاما خيالية من “السكورات les scores” . ولكن تلك الأرقام لا تنفعهم ولا تفيدهم في شيء، ولا تنجيهم من معاناتهم ، بل تزيدهم إحساسا بالملل والغبن.
أما الذين بقوا في منازلهم فقد جربوا كل شيء بدءا من مشاهدة الأفلام السينمائية والمسلسلات التليفيزيونية، وقراءة كتبهم المفضلة، وتنظيف كل بقعة داخل المنزل مهما كانت بعيدة، ومهما كانت صغيرة. كما هاتفوا جميع أقربائهم الذين لم يسبق لهم مهاتفتهم، بطريقة تراجيدية غلبت عليها عبارات الوداعات الأخيرة التي يعقبها الموت، أو الأحداث الكبرى الموغلة في الإيلام. هاتفوا أيضا جميع أصدقائهم القدامى الذين كانوا قد قرروا مقاطعتهم لأسباب معقولة، وبدون أية أسباب أحيانا. ولكنهم هاهم يعودون إليهم صاغرين – لقد قلت لك أنك جلاد متخفي يلبس طاقة الإخفاء – لأن الحياة قصيرة، والموت أصبح وشيكا، ولأنهم يعتبرون أنفسهم يحاربون داخل حرب ضروس سيموتون فيها عاجلا أو آجلا ، رغم أنهم لم يذهبوا إليها، فهم لازالوا داخل منازلهم، أي لم يغادروا قواعدهم البرية، ولكن زغاريد النساء وتهليلات المهللين بالنصر، وصراخات المنهزمين، وأبواق سيارات الإسعاف التي لا تتوقف عن التزمير مخبرة الجميع بأن الأمر حقيقي، ولا يتعلق بلعبة من الألعاب التي حملوها داخل هواتفهم الذكية مباشرة من متاجر العم غوغل المجانية، دون أن يحتاجوا طبعا إلى عربات صغيرة، مثلما يحدث داخل الأسواق الممتازة.
العم كوفيد، من الحسنات التي يمكن أن يشكرك عليها التجار الإفتراضيون الذين انتشروا كالذباب في الصيف؛ أنك أتحت لهم أن يحضوا بالإنتباه من طرف الجميع، بعد أن تم الإقتناع بأهمية وجدارة التجارة الإفتراضية – طبعا تلك التي تتم عن طريق الأنترنت – التي كان ينظر إليها البعض نظرة ريبة وشك. فبينما كانت تجازف فئة من الناس بمهاتفة هؤلاء التجار الأشباح بغية اشتراء سلع لا يجدونها أمامهم، كانت الأكثرية ترابط داخل قناعات مسيجة بأسيجة حديدية لا سبيل للفكاك منها. أما الآن فلم يعد أي أحد يتذمر بشكل ظاهر من هؤلاء التجار؛ لأنهم الوحيدون المتواجدون في الميدان ، والذين بإمكانهم تزويدك بحذائك المفضل عن طريق وكلاء مهذبين جدا يصرون على انتزاع كلمة ” موافق” منك، من خلال التوقيع على محاضر لا يقرأها أي أحد في غالب الأحيان؛ فالجميع يفضل أن يحرك القلم في كل الإتجاهات كأنهم يقتلون حشرة عالقة تحت أقدامهم، وهم في الحقيقة يعلنون من خلال تلك التوقيعات المتسرعة والمرتجلة وغير العفوية عن تذمراتهم الدفينة ، وعن عدم رضاهم في غالب الأحيان، لكون السلع المشتراة غير مطابقة للصور التي رأوها على شاشات هواتفهم الذكية عالية الجودة، والتي تتيح عادة رؤية الصورة في أحسن حللها؛ كأن ترسل إليهم طلب شراء حذاء أسود جلدي، لتجد أنه ليس سوى حذاء مطاطي لا يصلح لشيء سوى لركنه داخل دولاب أحذيتك، والتحسر في كل مرة تخرجه من هناك على أموالك التي ذهبت سدى.
العم كوفيد، أراسلك الآن لأقول لك أن الإنسانية قد تعبت، وأنك قد خربت بيوتا كثيرة على طول الكرة الأرضية وجعلت الجميع يجرب السجن – وما أمرها من تجربة – دون ان يكونوا قد ارتكبوا أية جريمة؛ فلا مقاهي الآن ولا مطاعم ولا حدائق إلا ما يتيحه الفيسبوك الذي أصبح كمأدبة دائمة. فبينما كنا تعتقد أنك لن تكون ضيفا ثقيلا، إذ سرعان ما سينتبه العلماء إلى شفرتك اللئيمة، وسيقومون بتفكيكك محولين إياك إلى رميم شبيه بأشلاء الموتى؛ اكتشفنا أنك كائن عنيد، مغالي، ثقيل ومبتذل. في البداية اختبأ الناس داخل منازلهم، واعتبروها فرصة ثمينة ليغيروا عاداتهم المشينة، خاصة الغذائية منها، والدخول في تقشف منزلي ، مع الإقبال الكبير على الكبسولات التيليفزيونية التي تنبه إلى ضرورة الحذر وغسل الأيادي وتعقيمها باستمرار؛ لكن كل خططهم انهارت بعد أن تم تكرار تفاصيلها لمدة طويلة؛ فكل شيء أصبح يتحول إلى متاهة بدون رأس وبدون أرجل. إنها مجرد أفعوان عملاق يتلوى ويطلق فحيحه، ويضغط بكل ما أوتي من قوة على أجساد إنسانية هشة كقطع الشوكولاطة نتيجة طول الجلوس على أرائك أمام تيليفيزيونات تبث أخبارك وجرائمك ومشاريعك التي لا تدلي بها لأحد؛ لذلك يبقى كل شيء يقدم عنك إلى حد الساعة، ليس سوى تخمينات شبيهة بتخمينات العرافات التقليديات اللواتي ينتشرن في ساحة “جامع الفنا” بمراكش. فلا شيء يقدمه عنك المذيعون غير احتمالات وافتراضات شبيهة بجمل إنشائية لتلاميذ الإبتدائي؛ لذلك فحينما أقرر أخيرا أن أتابع نشرة إخبارية من الألف إلى الياء أجد نفسي أسمع إنشاءات دبجها تلاميذ مغلوبون على أمورهم حاصرهم أساتذتهم داخل القاعات الدراسية بمواضيع أشبه ما تكون بطلاسم العفاريت. لذلك فهم يكتبون ويمحون طيلة الوقت دلالة أنهم لم يفهموا الموضوع. وهذا ما تستنتجه تماما، وأنت تتابع نشرة الأخبار المسائية، إذ تجد أن كل الصحافيين يكتبون ويمحون، أي أنهم لم يفهموا الموضوع. فهم في الحقيقة لا يفعلون شيئا سوى تكرار التخبط العالمي الذي يوجد عليه الخبراء والأطباء والسياسيون والمربون والمفكرون ولاعبو الشطرنج المحنكون الذين يتوقعون كل شيء داخل مباراياتهم؛ فبعد أن قالوا لنا في البداية أنك ستختفي في الصيف، وجدنا أن الصيف قد حل وأنت لم تحل عنا؛ وبينما قالوا لنا لا تستعملوا الكمامات، عادوا مسرعين، ودون أن يعتذروا لنا، أو يحسوا بالخجل، إلى إلزامنا بارتدائها، وإلا سندفع الغرامات، وربما زج بنا في السجن؛ وبعد أن قالوا لنا أنك لا تنتقل عبر الهواء، عادوا ليقولوا لنا بأن مساحة انتشارك داخل الهواء أوسع مما اعتقدو، لذلك سارعنا إلى إغلاق النوافذ والمنافذ لنتقي شر قدومك المفاجيءإلى منازلنا؛ وبعد أن طمأنوا الناس بأن الحياة الإنسانية لن يطرأ عليها أي تغيير، وجدنا أنفسنا نمشي على رؤوسنا، بما أن حيواتنا قد انقلبت رأسا على عقب؛ وبعد أن قالوا لنا بأن الوقاية كفيلة بتجنب طلعتك البائسة، وجدنا أن الأطباء هم الآخرون قد تعرضوا لضربات قاضية منك، رغم كل الإحتياطات الصارمة التي يدججون بها أنفسهم، والتي تجعلهم يدخلون أحيانا إلى منطقة الوسواس الخناس؛ وبعد أن أخبرونا بأن الكمامات تقي من شر استقبالك غير المرغوب فيه داخل بلاعيمنا وقصباتنا الهوائية، عادوا إلى القول بأن هاته الكمامات تمنع فقط من مرور الرذاذ من أفواه الأشخاص الذين أقمت لديهم بشكل قسري، ولم يأخذوا منك أية تعويضات، بل أنت كنت تأخذ منهم أتعابك نتيجة الحفر الحثيث داخل رئاتهم بمعاولك غير المرئية؛ وبعد أن قالوا لنا أنها مرحلة وستعبر، وجدنا أنفسنا داخل مناطق جغرافية غريبة، وبتسميات جديدة نتيجة التقطيع الوبائي – على غرار التقطيع الإنتخابي – بعد أن تم تقسيمنا إلى منطقتين: منطقة 1 ومنطقة 2 . فالمنطقة 2 بقيت خاضعة للحجر الصحي بمعاييره التقليدية نتيجة زياراتك المكثفة، ونتيجة غاراتك غير محسوبة الجانب، والتي تقوم بها ليلا ونهارا، صبحا ومساء، وهي غارات تتم بشكل سري وغير مرئي.
العم كوفيد، دعني أسبغ عليك صفتين أساسيتين: إحداهما تجعل منك كائنا جبانا، والثانية تجعل منك كائنا خبيثا. فأنت كائن جبان؛ لأنك لم تقم بأية مواجهة مع خصومك – الذين هم نحن طبعا -، بل كنت دوما تفضل إيقاعهم في أحابيلك، ثم الإجهاز عليهم بشكل سريع في رمشة عين، حينما يصل بهم الأمر إلى الحد الذي يصبحون فيه غير قادرين على أخذ نصيبهم من الهواء البري، فيلجأون إلى طلب النجدة اللامجدية، إذ يتم تزويدهم بآلات مربعة الشكل، يقال أنها تمنحهم أوقاتا إضافية لرؤية الأشياء والأشخاص من خلال منحهم هواءا مدجنا، لا يزيدهم سوى اندحارا و التصاقا ببراثن الموت. أما كونك خبيث، فهذا يذكرني فقط برسالة المهاتما غاندي إلى أحد أصدقائه المحامين، حينما كان يشجب ثقافة العنف، مصنفا الخبث ضمن لائحة أنواع العنف الضارية، والأشد فتكا؛ فهو لم ينتقد فقط العنف الفيزيائي، بل نبذ العنف في كل تمثلاته، وهذا ما تقوم به تحديدا. فأنت لا تجابه أعداءك بالعداوة الفاضحة والواضحة، كأن يكون قدومك حارقا مثلا أو مدميا، بل تفضل العداوة الصامتة التي تتفشى بشكل سحري، إذ تقنص ضحاياك قنصا بشكل صامت، وبدون ضجيج يذكر. فوسط الزحام تختار ضحيتك مدبجا صدرها بوسام الموت من درجة شهيد. فكل الذين ماتوا استشهدوا، لأنهم ماتوا وهم يدافعون عن الإنسانية؛ فإما هو أب خرج للتسوق وتزويد أفراد أسرته بما يحتاجونه من مؤونة و أدوية ضرورية؛ أو طبيب خرج لإنقاذ ضحاياك من الموت المحقق؛ أو شرطي خرج لتظيم حركة المرور، ومنع عبور المستهترين، والذين يستصغرون الدخول معك في حرب غير مكشوفة؛ أو شغال خرج إلى معمله، حتى لا تنفذ المواد الغذائية الأساسية من الأسواق.
العم كوفيد، اسمح لي أن أطرح عليك بعض الأسئلة، ليس لأنني أتوقع منك أجوبة، أو أنني أتلهف للتودد إليك، أو التقرب منك، بل فقط إيمانا مني بأن الأسئلة أهم من الأجوبة على غرار ما قاله العم كارل ياسبرز. فالقبض على أسئلة أكثر داخل هذا العصر الموضوع على كف عفريت، هو بمثابة محاولة للقبض على التماهيات التي ستدخل فيها، وذلك لتحديد أوصاف أشباهك الذين سيأتون عاجلا أو آجلا في نسخ منقحة ومزيدة. فماعرفناه إلى حد الآن هو أنك تغير جلدك كثعبان، وإذا كان الثعبان يغير جلده مرة في السنة، ويكتفي فقط بتغيير جلده، والإبقاء على كل صفاته الأخرى، فأنت تغير كل صفاتك، بالشكل الذي يجعل منك ” بعبعا معاصرا” لا قبل لأحد بمجاراة تحولاته التي لا تحصى. لذلك سأبدأ بسؤالك : أين ولدت؟ ومن أين جئت؟ وكيف تكونت؟ وبأي بلد كان مسقط رأسك؟ هل جئت من الصين ؟ هل ولدت داخل مختبر ولادة قبل الأوان، جعلت العلماء يضعونك داخل أنابيب طبية إلى أن اشتد عودك، وأصبحت مستعصيا على الموت، وحتى على عرابيك الذين شهدوا حركاتك الأولى وأنت تحبو في مهد، لم يكن سوى قنينة صغيرة مليئة بالأجسام الغريبة والمجهرية التي لا ترى بالعين المجردة؟ كيف استطعت أن تقطع كل هاته المسافات لتصل إلى كل بقاع الكرة الأرضية، مانحا إيانا إمكانية توظيف سيرتك لشرح مفهوم العولمة في حصصنا التعليمية المقبلة؟ أين تترك أمتعتك؟ أم أنك بدون أمتعة؟ وكيف استطعت أن تحول العالم إلى مصيدة ضخمة بالغة الجودة جعلت أعتى الذئاب ذات الأنياب المشحوذة، وأخبث الثعالب السامقة المكر، و أشرس الأسود الموغلة في البطش، وأقسى التماسيح المفلطحة الأقدام، وأضخم الفيلة ذات الأجساد السمينة، والمستعصية على كل حمية، والضباع بروائحها الكريهة، والنمور السريعة التي تعرف مصالحها وفرائسها من بعيد،حولت كل هاته الوحوش إلى طرائد سهلة المنال.
العم كوفيد، يجب أن نكون موضوعيين، فحينما جئت لم تكن الإنسانية بخير. فهي لم تكن تعيش النعيم الذي حلم به البشر على مر التاريخ. فدوما كان الإنسان يحلم بأن يعيش سعيدا؛ ولكنه لم يكن يجد أمامه سوى الشقاء على حد تعبير العم سيجموند فرويد؛ لذلك حينما جئت كانت البشرية قد وصلت إلى العقبة التي لا يمكنها تخطيها. وصلت إلى تلك العقبة متعبة، وأنفاسها تكاد تتقطع؛ كما أن أجساد الكائنات البشرية كانت قد أنهكتها الحميات الغذائية والأدوية و المعلبات والأسماك المصبرة داخل غرف التبريد. لقد جئت حينما كانت الإنسانية تتهيأ كي ترفع الراية البيضاء نتيجة الحروب و الأوبئة الأخرى التي قد تكون هي أصولك البيولوجية، وحمى الأسفار المكوكية والعمل المضني والحسابات المالية الكثيرة نهاية كل شهر والقروض الصغرى والكبرى والطلاقات التي استفحلت بشكل لا يصدق ضاربة عمق الأسرة التي تعتبر عماد المجتمع. لما جئت كانت العلاقات الإنسانية قد تراجعت لتحل محلها علاقات افتراضية جعلت الصداقة أشبه بالسلسلة الغذائية غير المتناهية، إذ تجد أصدقاء كثيرين بالآلاف يعيشون تراتبية مهولة؛ ولكنهم ليسوا سوى أعداد؛ كأنهم أسماك ضخمة ومتوسطة وصغيرة تعيش داخل بحر أزرق إسمه بحر الفيسبوك الأزرق – على غرار البحر الأحمر والبحر الأسود – المختلط، وهو بحر بدون أمواج، إذ موجته الوحيدة هي موجة “الواي فاي” التي تبعث في هؤلاء ” الأصدقاء” الحياة. فبدونها يتحولون إلى أصنام صغيرة تنبت بشكل مبتذل على طول الصحاري الوسائطية التي تخترق الكون، دون أن تمنح دفعة يد واحدة للإنسانية التي وقفت في العقبة منذ زمن طويل. لقد جئت لتجد التفكك الأسري هو العنوان المناسب لهذا العصر الغريب، فلا الآباء آباء حقيقيون، ولا الأبناء أبناء حقيقيون. فبينما تجد الأبناء جاحدين وناكرين لجميل آبائهم، تجد أيضا بعض الآباء عديمي المسؤولية وأنانيين وصغار النفوس. جئت إذن لتجد المكر قد أصبح ميزة مابعد حداثية، والخديعة مجرد خفة دم يجب تعلمها على يد “كوتشات” محنكين يعلمونك كيف تنمي شخصيتك وتطور علاقاتك ومهاراتك في خمسة أيام. لقد جئت لتجد النميمة وبناء المقالب والإغتيال الرمزي قد أصبحت تيمات قارة في حياة معاصرة سمجة. لقد جئت في زمن التيه الكبير والقلق المدمر، حيث تحولت الكائنات الإنسانية إلى “روبوتات” تشتغل دون توقف خلال النهار، لتتنعم بالأرق خلال الليل. فصحيح أن الإنسانية اكتشفت بعد مجيئك أن مصيرها مشترك، واهتدت إلى أن التلاحم الإجتماعي بدل هذا التباعد الإجتماعي الذي فرضته على الجميع، هو الأبقى والأجدى، كما أن الإقتصادات التضامنية هي الكفيلة بتنجيتها من نفسها بعد أن أصبحت كثعابين تعض ذيولها لتموت بشكل بائس، و بعد أن استنتج الجميع بأننا نسير في الطريق الخطأ، وبعد أن فهمنا كلنا أن الإنسان هو الأهم وليس المال، ولا الجاه، ولا النسب، ولا العرق، ولا المنصب السياسي، فكلنا أصبحنا سواسية كأسنان المشط، بعد أن أحسسنا بأننا نشرف على السقوط في الهاوية؛ ولكن ما أهمية كل هذا، بما أنك باق بين ظهرانينا؟
العم كوفيد ارحل الآن، ارحل في الصبح قبل المساء، وهذا آخر ما أقوله لك.
………………….
كاتب وقاص- فاس