عبد الهادي المهادي
صعدتُ اليوم، يا إلياس، إلى سطح المنزل لأقطف وُرَيْقات من شُجيرة إكليل الجبل التي غرستها في إناء كبير منذ حوالي عام. أحبّ، يا ابن أختي، أن أضعها في أنواع شتى من الأطعمة، نكهتها طيّبة، تعجبني رغم مرارتها. وهناك، أمام شُجيْرة الليمون الخاصة بوالدي، وقد فاقتني طولا بقليل، امتلأت عينيّ بالدموع. كانت تقف حزينة على “صاحبها” وقد توقّف عن زيارتها منذ ما يزيد عن أسبوع؛ لقد عجز أخيرا عن صعود الدّرج. كان يهتمّ بها ويسقيها يوميا. ويرفض، أثناء إثمارها، أن يقطف ليمونها إلا بعد إلحاح شديد منّا. الآن، يا إلياس، تقف وحييييييدة وحزينة، ولا أدري هل تَحيى أم تذبل هي أيضا. انحنيتُ على تربتها، كانت جافة والعطش يكاد يقتلها، رويتها حتى سال الماء على أرض صقيلة، وعدتُ وأنا أخفي وجهي عن عينيْ جارة أطلّت فجأة من نافذة قريبة.
منذ يومين يا إلياس، منذ يومين، وكان الوقتُ ظُهرا، فقدَ والدي القدرة على التّمييز، لم يعد يتذكّر شيئا، ولم يعد يتعرّف على أحد منا. جسده مسجّى، ولا قدرة له على الوقوف أو تغيير وضعيته، لا شيء بقي منه سوى عينين ذابلتين، وأنين يصدر بين الفينة والأخرى من فم شبه مغلق.
البارحة، زاره أحد إخوته، عمّك أحمد يا إلياس… تعرفه. تذكّرَه قليلا؛ تضاحكا واستذكرا بعضا مما جمعهما قديما زمن الطفولة والشباب، وما لبث أن نسيه، ليُغادر باكيا في مشهد يحرق الفؤاد.
عندما وضعتُ القليل من تلك العُشبة في طنجرة الحريرة، وكنّا في بداية رمضان، نزلتُ عند والدي، أحد أعمامي حضر من مدينة قريبة للزيارة. كنتُ، يا إلياس، شاهدا على مشهد حزين جدا؛ لم يتذكّره مطلقا، وعبثا حاول أن يذكّره باسمه وبأحداثَ وبذكريات. لاشيء، يا إلياس، علا لحظتَها على الحزن… لا شيء. كان عمّي يُنوّع في المَداخل إلى ذاكرة والدي، ويطرق مواضيع يعرف أنها أثيرةً على قلبه، ولكن بلا فائدة. كنتُ أتلصّص مرات على وجه عمّي؛ كان يكابر، شأن معظم الرجال، فلم يقبل أن تكون النساء اللواتي تحلّقن حول الوالد شاهدات على دموعه. سيغسل عينيه بالعبرات في طريق عودته إلى بيته، أعرف ذلك، فلا حرج عليه حينها، لأنه سيكون مرتاحا بين زوجته وابنته.
آخر ما سمعتُ من والدي، وهو في وعيه، أنه قال وهو يُمسّد إحدى ساقيه: اُنظر، لا شيء سوى الجلد على العظم.
منذ حوالي شهر كان قد ساخ مرّة عن وجوده، وظننّا أنه يودّع، بكيتُ بين يديه يا إلياس. بكيتُ والدا لم أشبع منه. اكتشفتُ أني منذ مدة طويلة لم أبك كما فعلت اليوم. قال لي حينها، وأنا أضم كفه بين يدي: لا تخف يا بني، لا تخف، أنا راض عنك.
اليوم، يا إلياس، أجلسناه على كرسي لنُريحَه من وضعية الاستلقاء التي أنهكت ظهره. أسقيناه ماء باردا، وشرب دواءه، وسمعناه يرتّل، بصوت مرتعش، بعضا من آيات القرآن الكريم، كانت بدايات آية الكرسي، لم يستطع إتمامها، الدواء كان يُثقل لسانَه. غيّرنا ملابسه، وتعاونا على مدّه في فراشه، وغادرنا ونحن نستلطف قدر الله النازل بنا.
الموت يحوم حولنا يا إلياس، يبدو أنه اكتشف أخيرا الطريق الموصلة إلينا، ولا عهد لنا به ـ لحد الآن ـ في عائلتنا القريبة…أتخاف الموت يا إلياس؟
لماذا هذا الصّمت؟
شابٌّ مازلتَ في بهاء ربيعك… نعم، ولكن الموت ـ رغم ذلك متربّص بك، فكن منه على حذر… حذر الاستعداد، لا حذر الرهبة والهلع!
الموت ـ يا خالي! ـ لا ينبغي أن يخيفنا؛ فهذه الرحلة تسوقنا إلى مَن ينتظرنا ليرحمَنا، هذا اعتقادي ويقيني ولا شيء يزحزحه. خوفي، يا إلياس يا ابن أختي، من “الرّدّ إلى أرذل العمر”، ودعائي أن يقبض الله روحي ولا يتعبَني ولا يُتعِبَ بي. قد لا تفهم عنّي كثيرا الآن، ولكن ـ إن أنسأ الله في عمرك ـ سيأتي عليك اليوم الذي تعيد فيه قراءة رسالتي وتنسج على منوالي، فاحتفظ بها إلى حين ذلك.
عندما زرتَنا قُبيل دخول شهر رمضان، عائدا من غربتك في بلاد بعيدة، وقد ذهبتَ إليها مُكرها بعد أن انسدت أمامك هنا أبوابٌ كثيرة طرقتها من أجل الرّزق، تتذكّر أن العائلة اجتمعت احتفاء بك، وهذا لم يرق لبعض الناس كما تعتقد والدتي. تقول أن “عَيْنا” أصابتنا، وشظاياها توزّعت بالتّساوي على معظمنا؛ في اليوم الواحد، تصوّر، في اليوم الواحد سقط الكثير منّا مريضا بدون أسباب أو مقدمات: والدتي، وزوجة أخي، وأختاي ـ إحداهما والدتك ـ وقد خانتهما صحتهما عن عيادة والدهما في عزّ ما حكيته له سابقا. تضيف والدتي أنه من لطف الله بنا أن تَوزَّعَ شرّ تلك “العين” وانتشر، فلو حطّ على واحد منّا لأهلكه وقضى عليه.
جدّك مريض يا إلياس، مريض جدا. غادرنا حديثُه، غادرتنا حركتُه، انطفأ حضورُه. انسلّ من بين أيدينا، كما الماء، تاركا بَدَنا نتحوّطه بالرعاية، ومهدّدا في كل لحظة بالرحيل هو أيضا، وأنت هناك بعيدٌ لا تستطيع شيئا، فالوباء قد سدّ عليك، وعلى غيرك، المنافذ.