رسائل لا تصل في “بريد الليل”

huda barakat
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

محمد خلفوف

دأبتْ الكاتبة اللبنانية هدى بركات على امتداد مشروعها الروائي على تناول مواضيع تخص بيئتها مثل: الحرب الأهلية اللبنانية، والهوية، والمرأة، والأرض… في رواياتها: حارث المياه، سيدي وحبيبي، أهل الهوى، حجر الضحك… في روايتها ” بريد الليل “، الصادرة عن دار الآداب سنة 2018، والحاصلة على جائزة البوكر للرواية العربية، اتخذتْ مسارا مختلفا في تناول هذه الموضوعات.

 قامت هدى بركات في روايتها “بريد الليل” بتعرية الواقع العربي من خلال سرد لحكايات شخصيات مختلفة، فكل شخصية من شخصيات الرواية تعيش على هامش المجتمع، مصيرها إما السجن أو الترحيل أو التهديد بالموت. وذلك من خلال تقديم نماذج لشخصيات تعيش الغربة والضياع في المهجر. لا تحمل شخصيات الرواية الخمسة أسماء، حتى أن الكاتبة لا تصرح بأسماء بلدانهم الأصلية. بل نحن نعرف من خلال الرواية أنهم من خلفيات عربية، تأتيهم منها الذكريات القاسية والمؤلمة، وأنهم في المهجر يحاولون تناسي تلك الحياة وبداية حياة جديدة.

 قسمت الكاتبة روايتها إلى ثلاثة أقسام: خلف النافذة، في المطار، موت البوسطجي.

 تروي الكاتبة في القسم الأول من الرواية: “خلف النافذة” حكايات الشخصيات الخمسة: الصحفي المثقف، العاشقة، عميل المخابرات السابق، عاملة النظافة في المطار، الشاذ. كل هؤلاء الشخصيات تقدم لنا نفسها عن طريق كتابة الرسائل، رسائل إلى أناس لهم مكانة في حياتهم: العشيقة، الحبيب، الأم، الأب، الأخ. الحكايات التي تنطاق من “خلف النافذة”: نافذة شقة، نافذة مطار، نافذة ملجأ… ويبدو أن تلك الرسائل هي الرسائل الأولى والوحيدة في حياتهم: “في حياتي كلها لم أكتب رسالة واحدة.” (من الرواية). وهكذا يأتي فعل كتابة الرسائل كنوع من الرغبة في الحكي، وفي الخلاص، وفي التداوي من ألم الماضي… فالخيط الناظم للرواية هو كتابة الرسائل، هو الذي يربط الشخصيات ببعضها البعض. فالقارئ يتعرف مع كل رسالة على حكاية، حكاية من الخيبات والعذابات. رسائل مكتوبة بلغة عربية، لتؤكد لنا هدى بركات على عربية الحكاية، وعلى هوية الشخصيات، دون الحاجة إلى تصريح بالاسم أو البلد.

 لقد أدركتْ الكاتبة أهمية الكتابة، الكتابة التي تبتغي البوح والتصريح… لذلك فقد اختارت قراء للرسائل (مرسل إليهم ) يحركون دواخل الشخصيات:

 1ـ الصحفي ← العشيقة.

 2ـ العاشقة الرومانسية ← العشيق الأجنبي.

3ـ عميل المخابرات ← الأم.

4 ـ الفتى الشاذ← الأب.

5ـ عاملة النظافة ← الأخ السجين

خمس رسائل تضعنا أمام خمس حكايات: الصحفي الذي رمته أمه في القطار خوفا عليه من الموت جوعا في قريته، لينتهي به الأمر منفيا، يقاوم الغربة، وممتلئا بالرغبة في الانتقام من أمه التي دفعت به إلى هذه الغربة. المرأة التي تعاني ضياع العمر والسير نحو الشيخوخة والشوق إلى حبيبها الأجنبي، عاملة النظافة التي قتلت زوجها، ورحلتها من مطلقة إلى عاملة نظافة إلى فتاة ليل باحثة عن ابنتها التي باعتها جدتها لكهل خليجي. الشاب ضحية الوشاية الكاذبة الذي عذب ثم صار جلادا، وبعد الثورة هاجر وصار مشردا وقتل الأجنبية التي أوته في منزلها. الشاب مثليّ الجنس المنبوذ الذي يحاول التصالح مع جسده في طريق التحول والتشرد والمرض.

 حكايات مختلفة كل ما يجمع بينها هو الألم والوحدة والغربة والضياع… والرغبة في الخلاص والتطهر وطلب المغفرة. وعربية الحكاية، التي أصرت الكاتبة عليها دون الإشارة إلى بلد بعينه، فالقارئ لا يعرف إلى أي بلد عربي تنتمي شخصيات الرواية. لتبقى الأسماء، والجنسيات، والخلفيات والإنتماءت الدينية والطائفية واللغوية… مجهولة، تُفهم “عربية” الشخصيات والحكايات من خلال سياق الرواية، متجنبة التصريح نحو التلميح والإيحاء. إذ ما يُهم هو الحكاية، الحكايات هي البطل في الرواية.

 في القسم الثاني من الرواية: ” في المطار”، تتداخل حكايات الشخصيات مع بعضها، باحثين عن جناتهم الضائعة، سرابهم الذي أوهموا أنفسهم به… يتحذ هذا القسم شكل نصوص قصيرة، تتناسب مع طبيعة الأحداث، وانهيار الشخصيات وسقوطها… أحداث متلاحقة، انهيار، خيبات، سقوط… متجاوزة بذلك النفس السردي و الشاعري الطويل، في القسم السابق، حيث الشخصيات تحكي في رسائلها عن الذكريات، والحب، والخيبة، والضياع، والاغتراب… كأن القارئ دخل إلى مجموعة من القصص القصيرة، وخرج من رواية، أو مجموعة من النصوص الحميمية الطويلة… مما يتناسب مع الشكل التجريبي للرواية، الذي لا يلتزم بالانتماء لجنس أدبي معين. بقدر ما تتشكل الرواية، على شكل متاهة، متداخلة الحكايات والشخصيات، منفصلة، ولكن متجانسة في آن.

 في القسم الثالث من الرواية بعنوان : “موت البوسطجي”، الذي جعلت منه الكاتبة “خاتمة” للروية. ساعي البريد هو الشخصية الوحيدة التي لا يربطها شيء بالشخصيات الأخرى سوى الرسائل، فهو يعيش وحدته وغربته في مركز البريد، لا يوزع ولا يتلقى رسالة ! يكتفي فقط بوصول خراب العالم إليه. يكتب أيضاً رسالته، وينتظر قارئها : “فقد أموت قبل أن يصل أحد إلى هذا المركز.

 (من الرواية). من يدري؟“.

 ! ليبقى قدر الرسائل/ الحكايات معلقا، فلا ندري هل ستصل أم لا

 شخصيات رواية “بريد الليل” كما قدمتها الكاتبة هدى بركات شخصيات فاشلة، عقيمة، ومهمشة، و يرجع ذلك إلى عدة أسباب سياسية وعائلية واجتماعية : الصحفي الذي رمت به أمه إلى غربة طويلة خوفا عليه من الجوع ليتحول إلى مطارد سياسي، الشاب الذي قسى عليه والده ضحية وشاية كاذبة، يتحول إلى مخبر، ثم جلاد، ثم قاتل. المطلقة التي باعتها أمها، ثم باعت ابنتها بسبب جشعها للمال. الفتى المثليّ المنبوذ الذي هرب من سطوة والده العسكري والتحق بحبيبه الذي مات مجذوما. تختلط في هذه الرواية الأسباب التي خلقت منهم أشخاصا مهمشين وفاشلين ومنبوذين، ورمت بهم إلى الغربة، رغبة في الحرية وتحقيق الذات، لكنهم يجدون أنفسهم في منافيهم غرباء ومهمشين وضائعين. لا مأوى لهم سوى حكاياتهم، حكاياتهم التي يكتبونها على شكل رسائل لا تصل على أحد.

 رواية “بريد الليل” هي رسالة، رسالة طويلة من الألم والضياع والغربة، والتوق للأوطان، مهما كانت أوطانا قاسية وظالمة. رواية منطقها: الشك، واللايقين، وامحاء الحدود… شخصياتها غرباء هاربون في غربة طويلة. فلا الأوطان الأصلية تقبلهم ولا منافيهم تتقبلهم. فهم أشخاص معلقون كالرسائل التي كتبوها.

……………

*ناقد من المغرب

مقالات من نفس القسم