واذا ما نظرنا الا تاريخ داوود عبد السيد السينمائى الذى لم يقدم فى ربع قرن من الزمان اكثر من ثمانية افلام قد نكتشف ذلك الخيط الرقيق الذى يجمع بين هذه التجارب وهو ما يحاول البعض تحديده فى طريقة السرد او التكنيك السينمائى ولكن الامر الواضح وضوح الشمس هو ان هذه التجارب التى تفتقت عن ذهن رجل واحد لا تتلاقى الا فى اهميتها فدائماً هناك افكار جديدة ومضمون مختلف بين “الكيت كات” و”ارض الاحلام” او “مواطن ومخبر وحرامى” و”ارض الخوف” لاننا امام مخرج مثقف يمتلك من الوعى ما يجعله قادراً على حمل رسالة التنوير .
ولكن هذا الوعى قد يقود المبدع فى بعض الاحيان لتغليب الجانب الذهنى على الجانب الشعورى فى تعامله مع الافكار التى يطرحها من خلال افلامه وهو ما أخذ على داوود فى فيلمه السابق “مواطن ومخبر وحرامى” ولكن تجربتة الاخيرة فى “رسائل البحر” قدمت رؤية متزنة وناعمه رغم مجيئها بعد غياب عن السينما دام لسبع سنوات عجاف لكن التجربة بدت مكتمله الى حد كبير ومحمله بشاعريه تمنعك من التحكم فى درجة خفقان قلبك حينما تستشعر وجودك داخل المشهد السينمائى حيث تتخللك رائحة اليود وتنعشك زخات المطر . وبين دفء المشاعر الانسانية وبرودة الوحدة يمكنك ان تحدد موقفك من الحياة التى اختذلتها رسائل داود عبد السيد فى شخوص يتحملون قسوة الاختيار ويتلمسون نعومة الغواية .
وقد يجبرنا فيلم “رسائل البحر” على استعاره مقولة سقراط الاخيرة “ان حياة لا توضع موضع التأمل لا تستحق ان تستمر” وتأملات داوود عبد السيد هنا نوع من المقاومة التى تمنحنا فرصة اخرى لنفكر فى ماهية حياتنا. ولانه يرى السينما كما يرى بطل فيلمه الموسيقى على انها لا تحقق المتعه الا ببذل الجهد فى سبيل الاستماع اليها . يضع الفيلم اسراره فى زجاجة مغلقة ويلقيها الى العالم الذى لا يستطيع ساكنوه فك رموزها باختلاف اجناسهم والسنتهم لان الرسالة هى تلك الهبة التى لا يجب ان نتقاتل او نتحالف لتفسيرها لأن ذواتنا هى الأولى بالتفسير .
وهو ما فعله الفيلم الذى وضع شخصياته بين مطرقة الغواية وسندان الاختيار وهما عنصرا الحياة الابقى منذ ميلاد الخليقة وحتى نهاية البشرية فالغواية هى سلاح الدنيا والاختيار هو سلاح الانسان الذى يحدد مصيره والجميل ان السيناريو لا يطرح افكاره بمعزل عن الشخصيات التى تفردت كل واحدة منها بملامح مستقلة وبعيدة كل البعد عن نمطية النماذج اللا انسانية التى تواجهنا بها السينما الحالية ليقدمها داوود فى تناغم شديد كأننا امام كونشيرتو للقلوب الحائرة فالبطل أسر ياسين هو الطبيب او الكلمة التى تتلعثم على شفاه هذا العالم المادى ولا تقوى على علاج أمراضه لتبقى براءته هى خياره الوحيد فرغم تعثر كلماته الا ان البطل الذى يحمل دلالة اسم “يحى” التى تدفعه للمقاومة والانتصار لما يحمله من مبادئ . يقاوم الديناميت بالسنارة والتطرف بالتسامح . كما يقدم الفيلم نموذجاً مختلفاً لشخصية “قابيل” التى جسدها محمد لطفى وألبسها السيناريو رداء التوبة عن جريمة قتل كانت الهاجس الذى دفع الشخصية لتفضيل الموت على الحياة مع النسيان الذى قد يدفعه لتكرار جريمته ولكن الغواية تنال من “كارلا” او سامية اسعد التى تبدو شخصيتها شديدة الصدق مع نفسها لانها تعلم انها تتخلى عن براءة الماضى من اجل متعة الغواية كما تستسلم والدتها نبيهه لطفى لغواية المال التى ينفرد بها “الحاج هاشم” او صلاح عبد الله ويرفضها يحى مراراً قبل ان يحسم موقفة حين يضع تفاحة الغواية من يده دون ان يتذوقها . وتبقى شخصية “نورا” التى جسدتها بسمه لتعبر عن تحول مختلف من الاستسلام للظروف للتمرد عليها واختيار ما يجعلها تحترم انسانيتها ولا ترى نفسها كمومس لرجل واحد . ويأتى تطهرها ليلتقى بتطهر البطل الذى يقبلها كما هى . ولكن داود عبد السيد يدفعهما فى مشهد النهاية الى البحر الذى يحتضنهما على سطح قارب صغير تحيط بهما الاسماك الميته بفعل الديناميت ليتحول خوفهما الى التصاق يجعلهما ككائن حى متوحد وسط المئات من الارواح الميته ليعبر عن استمرارية الحصار الذى يعيشه الانسان فى مجتمع لم يعد يؤمن بالتعدد واحترام الاخر .