كريم عبد السلام *
السادة العارفون كلّ شئ، يتكلمون بثقة متناهية عن تراجع الشعر وعن موت الشعر وعن غياب الشعر وعن عداء الشعر للإعلام وعداء الإعلام للشعر، وعن اختفاء الشعر فى ظروف غامضة، ويجزمون أن آخر مواطن صالح شاهده، كان يقود شاحنة تريلا على الطريق الدائرى، بينما رأته قارئةٌ صالحةٌ يهيم على وجهه فى شوارع حلوان والمعصرة وصولا إلى القنطرة شرق، وأن مجموعة من الرواد الدائمين لمعارض الكتاب رأوا الشعر بعيونهم ينهار مثل تمثال رملى أمام موجة روائية عاتية، إلى آخر هذه الإطلاقات التى تجعلنا ندوس على زر الصوت فى ريموت التلفزيون لنضحك على تعبيرات الممثلين الصامتين بعد أن نزعنا حناجرهم.. اسكتوا من فضلكم.. اسكتوا يا أولاد الزمن.. اسكتوا قليلا وفكروا فى لحظة حب واحدة، أو دمعة صادقة، أو ضحكة من القلب أو أفضل قصائد تعرفونها وعودوا لقراءتها، حتى تتصلوا بموسيقى الكون السرية، وساعتها ستعرفون الفارق بين الشعر وبين الاستخدام السياسى والاجتماعى لهذا الفن الوجودى، ستعرفون المعيار الشعرى لعصور التراجع والانحطاط، وستعرفون لماذا ينأى الشعر بنفسه عن حُمّى الاستهلاك التى اجتاحت الحياة ونحن نائمون.
السادة العارفون بكل شيء ( وهم طيف واسع من الشعراء السابقين، والصحفيين المتحركين، وكُتّاب البوستات اليومية، والمفكرين بالقطعة، وتجار الكليشيهات، ورواد الفضاء المتقاعدين، والمترجمين عبر جوجل ترانسليت، والأورانج أوتان، ومُقلّدى الفنانين، وكُتّاب الروايات الشفاهية غير المكتملة، والنقاشين المتحدين لبيع قصائد البالة، وموظفى إدارات التشهيلات بمحطات القطارات، ومطربى المهرجانات، ومدراء بيوت وعشش وأكواخ الشعر الرسمى المختوم) كلما نزلت الشبورة على الطرق السريعة فى الصباح الباكر، وغطى الضبابُ الشجرَ والحجرَ، ملأوا الدنيا صراخاً وضجيجاً: العالم اختفى.. نهاية العالم.. العالمُ لمْ يعد موجوداً.. نحن الذين عشنا لحظات ازدهار البشرية نرى مشهد النهاية الحزين..
عفوا أيها السادة العارفون بكل شئ، لا يليق، لا يصح أن تقولوا ما تقولون، بدلا من هذا الصراخ المصطنع والادعاءات الميلودرامية، قولوا: نحن لا نرى.. لا نعرفُ.. لا ندركُ.. نحن مشغولون جدا بالوجبات السريعة، ولا نستطيع قراءة الزمن والديوان والقصيدة والبيت والكلمة.. ليس عيباً أن تقولوا لا نعرف، ليس عيباً أن تتوقفوا عن تكرار الكليشيهات الغبية والعبارات الفارغة، لأنه بعد ساعة أو ساعتين سيعود العالم المنتهى إلى الظهور وسينقشع الضبابُ، لكنكم لن تعلنوا عودة العالم، أو ازدهار الشعر، لأنكم ستكونون فاقدين للرؤية أيضا، وستواصلون ترديد عبارات فارغة أخرى، بدل أن تستمتعوا بالجلوس فى المقهى أو مغازلة امرأة جميلة!
السادة العارفون بكل شيء من أنصار السلام، وأنا على جبهة الحرب، رغم أنى لا أعرف ولا أهتم ولا أظهر ولا أسعى لإنقاذ العالم أو الدفاع عن الشعر، ربما لأن رجلا طاعنا فى السن، ممن اختاروا الحياة على الأرصفة، أهدانى كتابا لجاستون باشلار منذ سنوات بعيدة وقال لى: “الشِّعر سيدافع عنكَ فى المِحَن، وسيحميكَ من وحوش البر والبحر، وستراه دائما فى كل شئ ما دمتَ على العهد”، وأنا صدقتُه ومضيتُ، ومن أجل مد جسور الثقة دعونى أحكى لكم عن جاستون باشلار، هذا الرجل الشيخ ذى اللحية البيضاء،الذى أهدانى الكثير، وعن الطرق التى عبّدها أمام الأقدام العمياء، وكيف كان يرى أن الشعر هو حارس العالم والحضارة وأنه مع الموسيقى، حبلنا السرى مع الكون.
لماذا؟ لماذا؟
فى لحظة مفصلية فى حياة جاستون باشلار، المفكر الفرنسى المتخصص فى فلسفة العلوم، صرخ وهو ينظر إلى حريق هائل فى الغابة المجاورة لبيته: ” لماذا”؟
كان السؤال شعريا بامتياز، لأن الشعراء وحدهم هم الذين يندهشون من الوقائع المتكررة، ينكرونها ويتمردون عليها، الشعراء وحدهم هم الذين يرفضون ما يعتاده الآخرون وما قد يقبله الآخرون فى الغابة أو المجتمع، فى الحياة أو العلوم، فى اللغة أو الأحلام
أظن أن هذا الحريق الذى شب فى الغابة القريبة من باشلار، هو ما أمده بقرار الانفصال عن الأطر التى كان محكوما بها فى دراسة العقل وفلسفات العلوم، ليتحول،من حسن حظنا، إلى الانهمام بالخيال بدلاً من العلم المحض، وبالشعر والكون كله، بدلا من فلسفة العلم، ليضع كتابه الأول فى هذا المسار ” التحليل النفسى للنار”، لتتوالى بعده الفتوح المعرفية الجديدة حول علم شاعرية الخيال والأحلام والصور والأماكن.
وفى كتابه ” جماليات المكان”، الذى أهدى مجموعة من المرتكزات المعرفية والجمالية لشعراء قصيدة النثر المصرية والعربية الحديثة، يستشهد باشلار بمجتزأ من دراسة الناقد الفنى جان ليسكور حول لوحات الفنان تشارلز لايبك: ” المعرفة يجب أن ترافقها قدرة مساوية على نسيانها، ونسيان المعرفة ليس نوعًا من الجهل بل هو تجاوز صعب للمعرفة، هذا هو الثمن الذي يجب دفعه لجعل مجموعة رسوم نوعًا من البداية الخالصة، والذي يجعل خلقها تمرينًا في الحرية”، وهذا الاستشهاد يذكرنا باستشهاد آخر من ثقافتنا العربية، إذ يُروى أن أبا نواس استأذن الشاعر والراوية الشهير خلف الأحمر في نظم الشعر، فقال له خلف: لا آذن لك في الشعر إلا أن تحفظ ألف مقطوع للعرب ما بين أرجوزة وقصيدة، فغاب أبو نواس عنه مدة ثم عاد إليه وقد حفظ ذلك، فقال له خلف: أنشدها، فأنشده أكثرها في عدة أيام، ولكن خلف قال له: لا آذن لك في قول الشعر حتى تنسى هذه الألف كأنك لم تحفظها، ويقال: إن أبا نواس ذهب إلى بعض الأديرة وخلا بنفسه وأقام مدة حتى نسيها، ثم حضر إلى خلف الأحمر وقال له: لقد نسيتها كأن لم أحفظها، فقال له خلف: الآن يمكنك أن تنظم الشعر
ربما يصلح هذا الاستشهاد، بداية جديدة للسادة العارفين كل شئ ليتوقفوا عن ترديد كليشيه موت الشعر، والتفكير فى تبدياته الجديدة المحتملة المتناسبة مع اللحظة الراهنة، كما يصلح الاستشهاد نفسه فى الدلالة على تحول باشلار من فلسفة العلوم إلى فلسفة الخيال، ومن دراسة العقل إلى دراسة الروح ومكامن قوتها الغامضة غير المفضوضة بالكامل حتى الآن، فهو عندما أراد الانعتاق من تاريخ طويل ناجح فى البحث والكتابة داخل أطر فلسلة العلم، سعى إلى نسيان المعرفة والعودة إلى الينابيع الأولى، حيث بواكير الفلسفة الغربية وبحوث الرواقيين، التى ردت تكوين العالم إلى الاسطقسات الأربعة أو العناصر الأربعة الأساسية، النار والماء والهواء والتراب، ولعل مجمل عمل باشلار فى النصف الثانى من حياته البحثية، كان فى البحث عن تعريفات جديدة لهذه الاسطقسات الأربعة، فى علاقتها بالخيال الشعرى والروح، انطلاقا من أن الخيال الشعرى وقوة الروح الغامضة غير المحاط بأبعادها حتى الآن، هما ما يمسكان بالعناصر الأربعة التى تكون العالم وتصنع مادته وكائناته، من تجليات اتصالها واتحادها معا
لا نرى.. لا نقرأ.. لا نتواصل
إدراك العلاقات المتشابكة بين الكون الذى نحيا فيه وبين الخيال الشعرى وتبدياته، يحتاج منّا جميعاً الكثير من الإنصات والصدق، الإنصات لذواتنا أولا والإنصات للعالم وإشاراته، وبالتالى لن يكون لدينا وقت للبغبغة والحديث عما لانعرفه أو لا نختبره أو لا نحياه فى أرواحنا وأحلامنا، كما أن الصدق المطلق سيمنحنا أيها السادة العارفون كل شئ، فضيلة الخجل وميزة التواضع، لندرك حجم خطواتنا وبالتالى ما يوازيها من كلمات
هل يمكن أن يخبرنا السادة الذين يبغبغون عن موت الشعر وتراجعه، عدد الأعمال الشعرية الصادرة فى مصر خلال العام الحالى 2025؟ وهل يمكن أن يخبرونا بعدد الأعمال التى طالعوها من بين هذه الدواوين الصادرة؟ وهل يمكن أن يخبرونا بعدد المتابعات الصحفية والقراءات النقدية والندوات المتفاعلة مع هذا النتاج الشعرى؟ وهل يمكن أن يخبرونا بعدد الفعاليات الشعرية الجادة التى استضافت الشعراء أصحاب هذه الأعمال الجديدة؟ وكم عدد المؤلفات النقدية الجديدة التى واكبت الإصدارات الشعرية؟ وهل يمكن أن يخبرونا بعدد المهرجانات الشعرية المحلية أو الإقليمية التى عقدت فى هذه الفترة؟ وهل يمكن أن يخبرونا بعدد الجلسات التفاعلية الأسبوعية فى الصحف والمقاهى والصالونات الأدبية والجامعات أو حتى عدد الاشتباكات الشعرية بين الشعراء فى الصحف أو المجلات أو على المقاهى؟ وفى المقابل هل يمكن أن يخبرنا العارفون بكل شيئ بعدد البوستات التافهة على السوشيال ميديا حول الشعر، كم عدد البوستات التى تروج لمعارك قديمة عفا عليها الزمن ومعارك زائفة وشطحات لا تكشف إلا عن جهل أصحابها بالشعر العربى وتطوره، وخاصة مرحلة قصيدة النثر؟
الإجابة عن هذه الأسئلة السابقة جميعها تقريباً معروفة بالحدس وليس بالمعلومات الموثقة، فنحن جميعا نعرف أن الشعراء الراهنين ممن أدركتهم حرفة الأدب، يطبعون أعمالهم الشعرية على نفقتهم الشخصية ويوزعونها على أصدقائهم باليد ولا يلقون اهتماما يذكر ولا متابعة جادة ولا مواكبة نقدية، كما انقطعت معظم أشكال التواصل والتفاعل بين الشعراء والكتاب والنقاد فى اللقاءات الأسبوعية أو الفعاليات التى كانت تميز الجامعات والصحف ومشاهير الأدباء وكانت حاضنات طبيعية للحركات الأدبية والتيارات التجريبية، كما انعدمت المبادرات الخاصة للاحتفاء بالتجريب والتجديد من خلال المطبوعات الخاصة والمجلات التى تطلق صيحتها فى وجه التكلس والرجعية وتشير إلى ميلاد أصوات جديدة وزمن مغاير، وفى الوقت نفسه راجت الفوضى وأشكال التهريج حول الشعر على منصات السوشيال ميديا !!
الربيع الصامت
السادة الذين يبغبغون بجرأة عن موت الشعر وتراجعه لا يعرفون الفارق بين الشعر وبين سلاسل البيست سيلرز، بين أبيات “ييتس ” الخالدة والمكتوبة على شاهد قبره وبين بوستات الكلينكس التى تتوارى بعد دقائق من كتابتها، ولا يعرفون بالتأكيد أننا نعيش قولا وفعلا داخل كتاب “الربيع الصامت” لعالمة الأحياء راشيل كارسون، ورغم أن الكتاب صادر فى أوائل الستينيات الماضية، ويتصدى لإجرام الإنسان الممنهج تجاه الطبيعة بدعوى التقدم الصناعى، إلا أن منطق الشعر المرتبط بثوابت الكون وحياة الأفلاك وثوابت الحياة والموت على الأرض يجعل القنوات متصلة بين دوائر الشعر والموسيقى والزلازل وغضب المحيطات وموجات الغضب العالمى تجاه الظلم والإبادة
كتاب راشيل كارسون الذى نعيش فيه، كان دفاعا عن الحياة ممثلة فى الغابات والطبيعة عموما فى مواجهة موجة المبيدات التى تقضى على طيف واسع من الكائنات المتعاونة والمتكاملة، بعضها ظاهر وبعضها خفى، لكن تكاملها يساوى استمرار الحياة، ومن ثم كان تخوف كارلسون من زمن تسود فيه المبيدات على الغابات وكائناتها وتوازناتها وموسيقاها ولغاتها، لنشهد زمن ” يأتى فيه الربيع صامتاً بلا طيور تغرد في الغابة، بينما تعج الصحراء بالجراد ويتشوه منظر النجوم والقمر”. كانت راشيل كارلسون تستشهد فى كتابها بأبيات الشاعر الإنجليزى جون كيتس، لتعرض قضيتها المدافعة عن الحياة على الأرض..” الأرض تدهورت في البحيرة وليس هناك من أغاريد الطيور” – قصيدة الجرس يحث على الرحمة”، كما واجهت كارلسون أكبر حملة تشويه منظمة من شركات المبيدات العملاقة وأصحاب المصالح وتلقت تهديدات بالاغتيال، لكنها أصرت على موقفها ذى الطبيعة الشعرية فى الدفاع عن الحياة على الأرض.. ورغم وفاة كارلسون ” الغريبة والمفاجئة” بعد عامين فقط من صدور كتابها إلا أن كلمتها مازالت حية مؤثرة ملهمة للكثيرين ممن يعرفون ثوابت الحياة والموت ويدركون طبيعة مرورنا السريع على الأرض وما يجب أن نتركه من أثر.
ربما يزدهر تجار الموت والمبيدات ورعاة الربيع الصامت عاما عامين أو عدة سنوات، لكن الأصل فى الكون أو فى الشعر، فى الغابة أو فى الكتابة أن الكلمة لا تفنى.. لا تموت، تبقى وتزهر فى أرواح منذورة لها، ربما لا تدرك الأصوات المتصاعدة هذه الكلمة، لا تراها ولا تتبعها، لكن أصواتا أخرى أقل ضجيجا وأكثر ثقلا وأصفى نغما، تتلقفها وترعاها حتى يأتى صباح جديد.
وبالتناغم مع كارلسون عالمة الأحياء، يدعو باشلار –فيلسوف الجماليات- الشعراءَ إلى اكتشاف نقاط تمركزهم على الأرض، وإيقاظ الذاكرة الجمعية عبر آلاف السنين، وكيف قاوم الإنسان، الشامان، الكاهن، الشاعر، العازف، الرسام، أقسى المخاطر وأعقد الظواهر الطبيعية وأعتى العواصف والحروب المدمرة بقوة الكلمات والإيقاعات والصور، التى توقظ فى الشعوب عناصر القوة الكامنة وتحميهم من الاندثار على غرار الديناصورات، هل تعرفون أيها السادة العارفون كل شئ، لماذا لم ينقرض الإنسان مع الكائنات الوحشية القديمة؟ لأنه يحمل الجَمَال فى روحه، ويعرف الطريق إلى الشعر الساحر، ويدرك الطاقة الحافظة للمكان والزمان
الشعر، أيها السادة العارفون كل شيء، أكبر من الشكل، أسبق من النموذج، وأبقى من وجودكم الهش، الشعر طاقة غير قابلة للامتلاك مثل الزمن تماما، لكنها تهب بلاحدود مثل المرأة العاشقة، فمن الوقاحة أن نتجرأ على مقامه، ومن الحماقة أن ندعى الاقتراب منه، ناهيك عن معرفته أو الحكم عليه، وهو الفضّاح الغالبُ مثل نمرٍ فى البرية.. أحبوا ما تستطيعون منه.. لوذوا به تصحوا.. احملوه فى قلوبكم تكتشفوا الجمال الكامن حولكم، وتتجاوزوا أشكال القبح وهى كثيرة متعددة.
………………….
اللوحات المرفقة: بول جوجان







