محمد علوط
لا يخالج القارئ أدنى ريب في إحكام مبارك حسني لصنعته كقاص متميز، فهو من طينة راقية في محفل كتابة القصة القصيرة كأحد الأجناس الأدبية المتنمرة العصية على الترويض، ونصوصه القصصية الثلاث ” الرغبة و الصدى” و” في الطريق ذات صباح” و” يوم حمادي بوزكري الأخير” تقدم شهادات فصيحة الدلالة على احترافية بالغة الإحكام، وتمثل للكتابة القصصية، بأعرافها وسننها وتنوع معماريتها ، وتعدد قيمها الجمالية .
نصوص تنهل من حيث مرجعياتها التخييلية من القراءات العميقة للكاتب، وروافدها الموغلة في تفحص سجلات السرد القصصي العربي والعالمي، إذ لا مناص من الإقرار بأن اسما مثل ” مبارك حسني ” الذي يفد إلى عالم النشر متأخرا بحوالي عقد من الزمن، قد أجهز على ردح ثقيل من الزمن، وهو معتكف بنوع من الزهد المفرط في قراءات وفيرة، وأزمنة كتابة طويلة، بتواز مع حالات الاعتقال الاحتياطي التي عاشها بمنأى عن الشعر والقصة، إبان لحظات العكوف الأخرى على كتابة المقالات النقدية حول الإنتاج السينمائي، وله في هذا المجال حضور لافت ليس هنا مجال الخوض فيه.
لذا فإن القصص الثلاث المشار إليها، بخصوصيتها المتفردة، تجلي معالم تنضيد في الكتابة القصصية يمتح من التجربة الشخصية للكاتب، ويسترفد أيضا من حمولة معرفية تشي بتتبع يقظ وفاحص لدى الكاتب بمجريات المشهد الثقافي الأدبي الإبداعي في المغرب وخارجه. تنضيد في الكتابة مصاغ في لغة رمزية شفيفة، تتواتر عبرها الجملة السردية بالمجاز الشعري، مع فيض من الإحالات التناصية التي تحاور نصوصا غيرية كنصوص مرجعية، وتشترك في ملمح متجانس، وهو تشخيص أزمنة البطولة الفردية، تعكسها ذات السارد/ الشخصية الرئيسية، الذي يعبر من خلال الوقائع والأحداث أزمنة يتمازج فيها البعد الواقعي بالتراجيدي، تمازج يعكس صورة واقع مثقل بالعزلة، والأحلام الفردية، والكثير من الانكسارات والأوهام.
نصوص متماسكة البناء، خطية السرد، تحترم مبدأ التماثل بين النص التخييلي والمرجع الواقعي، مثلما تصون مبدأ ” التشخيص” ووحدة البناء السردي في تجانس المكونات القصصية (الحدث، السرد، الشخصية، المكان، الزمن)، وانبناء العالم التخييلي القصصي على تشاكلات نسقيات السرد المضاعف .
تتغيأ هذه القراءة الكشف المضيئ عن إبداعية نصوص قصصية ، هي إلى جانب العناوين سابقة الذكر، والنصوص الأخرى المعنونة ب ” الصورة”، و” سهو القراءة”، و” سريرة”، و” رجل يترك معطفه”، و” مجرد مكالمات على الخط” و” أبيض وأسود” و ” رؤى فالتة في ظهيرة صيف”. جماع الأفق الذي يرتاد فيه الكاتب “مغامرته القصصية”، منزاحا نحو نسق في الكتابة السردية يشتغل بدأب واستغوار واستكشاف على تمثلات موضوعة ” الكتابة والمضاعف”، من خلال محورية الأنا (le Moi ) والقرين (le double).
فبالرغم من قراءاتي لهذه النصوص في أزمنة متفرقة من كتابتها، انطلت علي ” الحيلة “، ولم يتولد لدي هذا الاحتراس اليقظ والواعي إلا والنصوص ملتئمة الشمل بين طي المجموعة ، في امتداد قراءة متكاملة، وحين النصوص تضئ بعضها بذلك الوهج من الضوء الذي يرشدنا إلى مفاتيح مغالقها. وقتها تبين أن الرجل سادر الغي في “لعبته” الخاصة، وأنه ينحت عالما قصصيا نادرا ما أتاح للنقد إمكانية بلورة مشروع قراءة حول أطروحة ” القرين” في القصة القصيرة.
يستوقفنا في البداية النص القصصي الأخير من المجموعة بعنوان ” رؤى فالتة في ظهيرة صيف”، وذلك لحضور ثيمة متصلة بموضوعة ” القرين”، وهي : المرآة، حيث نقرأ :
” ها قد وصلنا.
فعلا. كنت على كرسي علوي جنب الكونطوار. استدرت فواجهتني المرآة الطولية التي تحتل كل الجدار، وحيث تنعكس القناني والكؤوس المذهبة وصور عديدة. ووضعت يدي على فمي مندهشا..
ـ عد إلى أين أنت ذاهب؟ سمعتها تقول صائحة.
لم أعد..لم أرني في المرآة…أين أنا؟؟ ” ( صفحة 78)
كل التوابل مهيأة لخلق المناخ ” الغرائبي” لتجليات انبثاق ” المضاعف” : السؤال والدهشة والاستنكار، الأنا وانعكاس الصور في المرآة، وصورة السارد التي لا تظهر في هاته المرآة..
إذا كان حضور المرآة وازعا لظهور مختلف التجليات الذي تعكس ” عقدة نرجسية”، حيث يمتلئ النص بأشكال ” الإسقاط” التي تجعل الذات تتماهى بمختلف الشخوص الأخرى، بنوع من التضخم الأنوي الواطئ، فإن الأمر في هذه القصة يختلف تماما.
لا تعكس القصة عقدة نرجسية البتة. بل منذ بدايتها يعيش السارد/ الشخصية الرئيسية ”هوس” حضور شخصية ”مثيله”، مضاعف يلج به في سراديب “الغرابة المقلقة”( l’inquiétante étrangeté (بتعبير فرويد)، ففيما يرى الأحداث في وضع ما، قائمة على مستوى الواقع، يراها أيضا على مستوى الوعي تتضاعف في رؤاه وإدراكه، فبدل شخصيتين في القصة نجدنا إزاء أربعة. وهذا التكنيك في اشتغاله على موضوعة ” القرين” أو ” المضاعف” يعكس معالم ” عقدة انفصامية” على مستوى الوعي بالذات والواقع تتشكلن على مستوى النسيج السردي، ومن الناحية الجمالية يزج السرد بالقارئ في “مناخ” غرائبي” لتمازج الحقيقة بالوهم، والتباس اليقين بالشك، وهذه البنية السردية الانفصامية هي المظهر المهيمن على البناء العام للنصوص القصصية الأخرى.
في القصة المعنونة ب ” رجل يترك معطفه”، مرة أخرى يتجسد وعي السارد بذاته كانعكاس لصورة مبهمة وغامضة، صورة ملتبسة في المكان والزمان وعلى مستوى الوقائع. يقوى الإحساس العنيف بالوقع التراجيدي لهذه المضاعفة، وبكون الكائن مهددا من الداخل بصورة غيرية له تنهض من الذاكرة و اللاوعي، صورة يراها في ” المعطف” الذي يرتديه، هذا المعطف الذي يشكل رمزا انفصاميا وقرينيا للذات. وحين يخلعه عنه، يظهر عاريا وبلا هوية.
يتردد المشهد السردي الانفصامي على نحو فاضح في قصة ” سريرة”، من خلال تقابل ( الأنا / الأنت)، ( الرجل / المرأة). ومرة أخرى في الوقت الذي تنبني فيه علاقة عشقية تماهية بين الرجل والمرأة، يظهر شبح الآخر / الوهمي، الذي ينبثق من العدم، انبثاق الصور المضاعفة من اللاوعي، ليردم هذه العلاقة، ويعيد المشهد إلى هول الانفصام المحدق.
في سياق آخر، مثل قصة ” سهو القراءة” و“قصيدة تموت صباحا”، تبرز موضوعة ” الموت” رديفة لهذا المناخ الغرائبي الذي تخلقه بحدة موضوعة ” القرين”
أ ـ في تماهي الذات/القارئة بنص تقرؤه حد الإشراف على هاوية الموت.
ب ـ في صورة الشاعر الذي تتمرأى له صورة موته في مطلق مشهد سردي من اليقظة التامة.
بشكل مفارق، تمنح الكتابة الغرائبية لهذه النصوص نكهة خاصة، إذ تحدث شرخا عميقا في مألوف الواقع ومعتاده، لتشرع سفرا في مجهول هذا الواقع ولا مدركه. وهكذا تصير الوقائع غير الموضوعية قابلة للتحقق، إلى درجة محو تلك الحدود الشفيفة بين عالمين: الواقعي والوهمي، المرجعي والمتخيل، عالم الحياة بموازاة عالم الموت.
توازيا مع هذا المناخ الغرائبي، يستند الكاتب إلى لغة سردية (لا تصل الحدة الكفكاوية). بل هي أقرب إلى أن تكون لغة استبطان لدواخل كيانات أدمية مأزومة. صور شخوص يرسمها القاص شبيهه بأطياف وأشباح مهومة، وأرواح معذبة تنفث ” روائح دويستوفسكية” .
خلخلة البناء الموضوعي للقصة على مستوى التشخيص السردي، تقودنا الى عمق الانزياحات النصية لكتابة قصصية تعتمد تشغيل المستويات التالية :
ـ البناء المضاعف للقصة كشكل سردي.
ـ تماهي الشخوص في انعكاس مرايا الوعي والإدراك عبر محكي ذي طبيعة انفصامية .
ـ الصراع المتوتر بين صورة ” الأنا” وصورة ” الآخر”عبر تمثلات المضاعف .
ـ تكسير الحدود الموضوعية بين الواقع والتخييل على مستوى الكتابة السردية.
ـ إقحام البعد الغرائبي في فضاء السرد.
الأدبيات النقدية المختلفة المرجعيات التي اشتغلت على تحليل موضوعة ” القرين” من أوتو فرانك إلى تودوروف مرورا بفرويد ولاكان، أكدت جميعها أن هذه الموضوعة تندرج في سياق عام وهو ” سؤال الهوية “، مبرزة أن ” المضاعفة” ظاهرة تعلن عن نفسها كلما ازداد الوعي الملح والقلق بأن ثمة خطر يهدد وجود ” الأنا”. وبالتالي فإن تمظهرات ” القرين” ترد إما كاستراتيجية احتمائية (النرجسية، الإنطوائية، أمثلة الذات و أسطرتها) وإما كاستراتيجية دفاعية (السخريـة، الباروديا، التسامي المطلق، العملقة أو نفي الآخر..)
في نصين قصصيين آخرين وهما ” مجرد مكالمات على الخط” و “سريرة” استغوار أعمق في التشخيص لموضوعة ” المضاعف”. في النص الأول تجد شخصية الشاعر أن ثمة شخصية أخرى تتحدث إليها عبر الهاتف، وتترصدها وهي تعرف كل شيء عنها: (من يكون هذا الآخر/ المثيل ؟). وفي النص الثاني يقدم لنا الكاتب قصة ذات مناخ غرائبي تتوزع عبر ثلاثة شخوص (السارد/المرأة/الشبح)، وبمقدار ما يسعى السارد نحو المرأة:
”قلت لها : لنتماهى إذن، نحن وحيدان، معزولان، سنقدر، أليس كذلك ؟ ” (صفحة 64).
ينتصب الشبح العملاق المخيف، مثل شرخ في جدار هذه العلاقة، لتنقلب المرأة إلى أخرى مستفزة وعدوانية، وليرتج الطقس الاحتمائي الملاذي المؤطر لسيرورة وقائع القصة ذات الأجواء الحالمة، إلى كابوس مطبق لواقع انفصامي حاد الوقع.
يستتبع ذلك أن ” االهاجس الانفصامي” لهذه الكتابة القصصية هو المحفز الأساس لظهور موضوعة المضاعف والقرين، وتجليات الرموز الاحتمائية الملاذية المتجسدة في استحضار الأمكنة المنفلقة التي تتحصن بها الشخصية من عنف العالم الخارجي.
ومن مستندات هذا الراي الحضور الإشكالي لموضوعة “المرأة”، ففي العديد من القصص ثمة هذا الطباق الحاد بين صورة حلمية مثالية رمزية للمرأة، وصورة نقيض لامرأة واقعية ينبذها الإدراك والوجدان. كلما كان ثمة تمظهر لصورة المرأة الأولى، كلما عاينا كيف يأخذ الحب شكلا تماهيا، وعلى خلاف ذلك يقترب النموذج الغيري بظهور الانفصام كإوالية تدمير لهذه العلاقة العشقية.
وبمنأى عن استغوار القاص لأجواء هذه المناخات السردية الانفصامية التي تكمن جماليتها في إشاعة مسحة غرائبية على هذه القصص. فإن المجموعة برمتها، تقدم نموذج كتابة سردية اختلافية، بأدوات جديدة.
أ ـ كون تكنيك المضاعفة يحررنا من لغة السرد الموضوعي ويزج بنا في شعرية لغة استيهامية حلمية.
ب ـ استغناء الكاتب عن الوصف التقريري التفصيلي للشخصيات بالعمل على ترميزها وتكثيفها وشعرنتها .
ج ـ التماس البلاغي بين السردي والسينمائي على مستوى بناء المشاهد (انظر قصة ” رجل يترك معطفه” التي تمتلك بنية التوازن المعتمد في مشهدية الأفلام القصيرة).
د ـ يستتبع الفكرة السابقة أن العين الساردة عين ” سينمائية”، ذلك أن تكنيك ” اللقطة” المستعار من كتابة السيناريو ، يغنينا عن الانتقالات العضوية للحبكة ، وزحمة حركة المرور في المسالك الغضروفية للقصة، وهذا التركيب يخص الكتابة السردية لمبارك حسني على نحو متفرد، وهو وليد اكتناز المشاهدة السينمائية البصرية في عمق تلقيه الشعوري واللاشعوري.
ما من شك أن قراءات مماثلة في هذه المجموعة القصصية ستضيء عتمات أخرى لم نستنرها في هذه المقاربة، يبقى الأهم هو أن إصدار الكاتب لعمله هذا، سيمنحه الفرصة لالتقاط أنفاسه، وإعادة ترتيب أوراقه، واستثمار كل خبراته المتحصلة، ليوعدنا بأضمومة قصصية من ذات العيار الرفيع. .